حانة البيرة السوداء
رشاد أبوشاور حانة البيرة السوداءصعدنا في الحافلة التي ستوصلنا إلي ذلك الحي الذي تقع فيه (حانة) شهيرة في (براغ)، يري خليل أن زيارتي لها واحدة من الزيارات الهّامة، لأنها (معلم) من معالم العاصمة. أخبرني بكلمات أرادها مؤثّرة:ـ تصوّر! لقد زارها نابليون وشرب فيها تلك البيرة السوداء!.هبطنا في مكان لا يبعد كثيراً عن موقع (الحانة). مضيت معه متأمّلاً الأبنية العريقة العتيقة، بينما هو يشرح لي تاريخ تلك الحانة:ـ عمرها قرابة أربعمائة سنة، تصوّر! أربع ..مائة ..سنة! يا لطيف، كم من الناس زاروها، وشربوا بيرتها، وتبادلوا الأحاديث الوديّة، وبكوا علي أكتاف بعضهم بعضاً، أو تبادلوا القبلات المحمومة ؟سألته مستفسراً لإبداء شيء من الاهتمام بحديثه ،حتي لا يأخذ علي خاطره منّي، خّاصة وهو يعني بي منذ وفدت للعلاج الطبيعي في (تشيكوسلوفاكيا).ـ ألا تقدّم تلك الحانة سوي البيرة السوداء ؟سرّ بسؤالي:ـ نعم، بيرة سوداء فقط. أول حانة تقدّم بيرة سوداء في كّل أوروبة. المصنع والحانة متداخلان، ولذا لا يقدّمون سوي البيرة، يعني ما فيش (مازة) كما هو الشأن في حانات بلادنا…رددت بصوت خافت :ـ بلادنا! بلادنا! … ليس فيك بيرة سوداء، ولا خضراء، ولا بنفسجيّة. ليس فيك سوي كأس المنون…توقّف وأمسك بساعدي:ـ لا تقلبها غمّاً. أنت جئت لتتعالج، وأنا هنا للدراسة وبعد بضعة اشهر أعود، قال أعود! أعود إلي أين ؟ أقصد أرجع إلي بيروت، فأتوظّف في (المنظمة)، أو أسعي لعمل في دولة خليجيّة، أو لعلّي أتمكن من الحصول علي منحة لتكميل الدراسة لنيل الدكتوراه في بلد غربي. يا سلام لو تزبط معي لندن، أو باريس، أو مدريد، مدريد! آخ علي راقصات الفلامنكو …فقّش أصابعه، ودار حول نفسه، وجاح بصوت ملتاع دون اهتمام بالماّرة الذين تأمله بعضهم بشيء من الفضول والدهشة، وصوته يعلو مع ضربات عشوائية من كعبيه علي بلاط الرصيف.هولي هولي آآآآآآآآ آخ الآه هي عنوان علاقتنا بالحياة، نحن أمة الآخ، أي الآه، أي التوجّع …ثمّ: ـ ولك يا حسن: إضحك، قهقه، حكمة أمّي هي الصّح: يوم الصفا لا يتفوّت. عش يوم الصفا، كله أكلاً يا حسن يا أخوي …احتضنني، ودفعني للمشي بسرعة، فجاريته صامتاً، فالأوجاع في ساقي إثر الإصابة لا تمكنني من المشي السريع.وصلنا !صاح كأنما يكتشف المكان لأوّل مرّة، رغم أنه تردد عليه كثيراً، أحياناً مع (مارتا) صديقته (الأساسيّة) كما يصف علاقته بها، ومع غيرها عندما تسافر لزيارة أهلها في الريف. دخلنا من بوّابة عريضة مفتوحة علي صالة واسعة، فيها ألواح خشبيّة يجلس عليها الزبائن متلاصقين، وأمامهم ألواح خشبيّة غير مستوية السطح، وندل يحملون صوانيَ عليها كؤوس كبيرة تفور فيها البيرة السوداء برغوة بيضاء عكرة.أرحنا جسدينا صامتين، متأملين ما حولنا من روّاد.لا شيء يثير، أو يشد. رؤوس تتمايل، أفواه تتهامس، ضحكات مكتومة، أو تفرقع ثمّ تغيض بسرعة.وضع النادل أمامنا كوبين.حرّضني خليل علي الشرب:ـ جرّب يا حسن، جرّب، ما هي إلاّ بيرة سوداء …ـ لون هذه البيرة مثل حظنا في الحياة، لون قاتم، والرائحة زفتيّة، فما الذي يجذبك ؟ـ المكان …ـ المكان بائس يا خليل، لا ونس فيه، ولا حيوية.ـ ولكنه قديم، ولقد زاره نابليون نفسه! ـ أنا لست معجباً بنابليون هذا، وكونه زار المكان، فهذا لا يعني أنه جاء هذه البلاد سائحاً، تماماً كما فعل عندما (زار) بلادنا من قبل!أخرج خليل من جيبه قطعة معدنيّة وأخذ يحفر اسمينا علي الخشب، وسط دهشة شاب يجلس قبالته، أخذ يراقب ما يفعله. سأله الشاب مستفسراً (خليل ترجم لي).ـ هل تكتبون من اليمين إلي الشمال ؟ـ نعم، هكذا نكتب لغتنا.قدّم له دفتراً وطلب منه أن يكتب له شيئاً، فأخذ خليل يكتب، بينما الآخر، وقد نبّه زملاءه إلي طرافة ما يحدث، انخرط في ضحك صاخب، يشاركه زملاؤه، مستطرفين أننا نكتب لغتنا من اليمين إلي الشمال.لكزت خليلاً في خاصرته، وطلبت منه أن يعطي الدفتر للفتي التشيكي، وأن يطلب منه كتابة شيء بلغته، فأخذ يكتب من الشمال إلي اليمين، فنظرت إليه بدهشة مفتعلة، ووجهت له سؤالاً (ترجمه خليل):ـ ولكن، لماذا لا تكتبون من اليمين إلي الشمال؟ففنطل عينيه، وأجاب:ـ نحن تشيك ألا تعرف هذا، وهذه لغتنا!قلت له: ـ أنا لست تشيكيا، تصوّر! ضحك، كأنما اكتشف شيئاً عجيباً.لم يعد لدينا ما نفعله، فالحديث عن الحانة ونابليون انتهي، والبيرة السوداء في كأسينا بقيت كما هي، ومن كانوا يجلسون بجوارنا انهمكوا في ترديد أغنية يبدو أنها شعبيّة، بصوت جماعي، وهم يتمايلون علي بعضهم.في الشارع سرنا صامتين، وللخروج من حالتنا همهم خليل:ـ يوم الصفا ما بيتفوّت! فلنفكّر في مكان يمنحنا بعض الصفاء قبل أن تعود إلي المصحّة، وأعود أنا إلي الغرفة للدراسة.أمسك بيدي وسألني:ـ ما رأيك أن أتصّل بمارتا وأطلب منها أن تحضر واحدة من صاحباتها و… ـ ولكنني بساق واحدة!ـ وهل أنت ذاهب إلي ميدان المعركة يا حسن؟ ـ ولغتي تكتب من اليمين إلي اليسار … اصطحبني خليل إلي موقف الحافلات التي توصل إلي المصح، وهناك تصافحنا، واتفقنا علي أن نلتقي الأسبوع القادم.أرحت جسدي علي المقعد في الحافلة التي انطلقت متهاديةً، ثمّ مسرعة، صاعدة طرقاً متعرّجةً علي التلال، مّما جعلني أدخل في حالة نعاس لذيذ وأنا أهمس: بيرة سوداء، نابليون، من الشمال إلي اليمين، شمال يمين، يمين شمال ـ تذكّرت بداية مرحلة التدريب في المعسكر، وكيفيّة السير المنضبط في الطابور ـ ومع اهتزازات الحافلة نمت، ولم أستيقظ سوي علي صوت السائق الذي وجدته ينحني فوق رأسي، وهو يهمس لي بكلمات فهمت منها أننا وصلنا. وإذ تلفّت حولي لم يكن أحد من المسافرين في الحافلة، فهبطت، وفي الجو فاحت رائحة المياه الكبريتيّة التي نتعالج بها. تحت الأشجار كان المرضي من العجائز يجلسون صامتين، وبعضهم يجلس وحيداً مغمض العينين.سألتني الممرضة التي تعني بي عن رحلتي، وماذا شاهدت ؟ فأجبتها بأنني التقيت بالسيّد نابليون في الحانة، فسألتني ببراءة:ـ ومن هو السيّد نابليون هذا الذي قابلته؟ـ إنه شخص يكتب من الشمال إلي اليمين، ومع ذلك فقد زار بلدكم بدون فيزا، أو دعوة، تصوّري !… تأملتني قليلاً ثمّ هزّت رأسها، وهي تردد كلمات بلغتها التشيكيّة، ربّما كان معناها:ـ يبدو أنك شربت كثيراً يا سيّد حسن (ميّزت اسمي( حسن (في كلامها) …ضحكت لأنني اكتشفت أن اللغة عندما تحكي لا يمكن تبيّن إن كانت تكتب من اليمين إلي الشمال، أو من الشمال إلي اليمين، أو في خطوط عاموديّة كاللغة الصينيّة …جسدها الرشيق يبتعد، جسدها الذي لا يكتب بلغة محكيّة يتواري، وأنا أتوجّه إلي سريري لأتمدد منتظراً صباح الغد الباكر لبدء مرحلة جديدة من العلاج، فساقي يجب أن تشفي: يمين شمال يمين …0