حامل مشعل العدالة في عصر الظلمات
في وداع ألفريد فرج:د. عماد عبد الرازقحامل مشعل العدالة في عصر الظلماتأكثر من عشرين عاما تفصلني بين أول مرة قرأت فيها مسرحية للراحل ألفريد فرج، وبين أول لقاء لي به اثناء عرض مسرحي للزميلة روناك شوقي في أحد مسارح الضواحي في لندن، قبل أكثر من عامين، وكان اللقاء الأخير. كان شغفي بأعماله المسرحية قد ولد مع بدايات اهتمامي بالمسرح ايام شهد هذا الفن في مصر نهضة تساوقت مع حقبة المد الاشتراكي في مصر في الستينات من القرن الماضي. (وكم يبدو هذا زمنا سحيقا اليوم!). وكان ألفريد فرج من ابرز نجوم كتاب هذه الحقبة التي ازدهرت بأسماء مثل يوسف إدريس ومحمود دياب ونعمان عاشور وميخائيل رومان ولطفي الخولي وعلي سالم ورشاد رشدي. كان إعجابي المبكر بمسرحيات ألفريد فرج يعود ربما لما تتميز به من نكهة مصرية خاصة تفوح من ثنايا سطور نصوصه في نفس الوقت الذي كانت فيه مشبعة ومنغرسة في وعيه القوي بانتمائه للثقافة العربية والتي نهل من معينها كما تجلي في موضوعات العديد من أعماله. لكنني لم أدرك حقا سر انجذابي لمسرحيات الفريد فرج بالذات من بين كتاب جيله، إلا بعد أن توفرت علي دراسة مسرحه أكاديميا علي نحو متعمق، وللمفارقة حدث ذلك خارج مصر.في الغالبية العظمي من هذه الأعمال كان ألفريد فرج مهموما بسؤال جوهري عن العدل، ونراه يلاحق هذا المفهوم الجوهري في دأب ومثابرة علي صعيد الموضوعات التي اختارها للمسرحيات، وايضا علي صعيد المعالجات التي تنوعت بين تناول العدل بمفهومه الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي أو حتي الفلسفي. بل يصح القول إن مشروع الفريد فرج الإبداعي يتمحور حول هذه القيمة الانسانية أكثر من أي مفهوم آخر، حتي اهتمامه وحرصه علي التجريب علي صعيد فنيات وتقاليد الكتابة المسرحية المختلفة لا يمكن رؤيته بمعزل عن همه الإنساني الأصيل هذا. ومن هذا المنطلق ذاته يمكن ايضا فهم سر تأثره بالمسرح الملحمي لبرتولد بريخت (ولم يكن وحده بالطبع من بين الكتاب المصريين والعرب الذين تأثروا بالكاتب والشاعر الألماني). وقد كان بريخت بدوره مهموما بالعالم ويحلم بتغييره، أو بتعبير شاعر آخر إن العالم لا يعجبني، وأحمل بداخلي شهوة لتغييره . انخراط الفريد فرج في هموم السياسة وفي القلب منها أسئلة السلطة والعدل وعلاقة الحاكم بالمحكوم، ولد مع تفتح موهبته الإبداعية، بل لعل الأصح القول إن تفتح وعيه وانتظامه في العمل السياسي في مطلع شبابه هو الذي قاد خطواته علي درب الإبداع، والكتابة المسرحية بالذات. لقد قادته تجربته السياسية التي انخرط فيها عبر تنظيمات يسارية الي المعتقل مباشرة، حيث قضي خمس سنوات في معتقل في الصحراء الغربية منذ عام تسعة وخمسين مع نخبة من المثقفين والمبدعين اليساريين. لا شك ان تجربة المعتقل شحذت وعيه السياسي، ولأنها رغم مرارتها لم تغير من قناعاته والتزامه بالقضايا التي آمن بها ودافع عنها ولازمته طوال مشواره الابداعي. ولم يكن غريبا ان يختار الفريد فرج المسرح ليطرح من خلاله انشغالاته الفكرية، وكان الخيار متزامنا مع اهتمام رسمي بالمسرح ولد بدوره اهتماما وتحلقا شعبيا حوله، وهو ما جذب اليه آخرين من أبناء جيله. وقد عزا بعض النقاد هذه الفورة التي شهدها المسرح المصري في الستينات إلي أن المسرح بطبيعته فن ديموقراطي وقد أصبح في مصر عبد الناصر بمثابة البرلمان البديل للبرلمان الحقيقي الذي غيبه النظام وربما نوعا من التعويض عن الديموقراطية التي فشل النظام في أن يفي بوعوده بها. تجلي اهتمام فرج السياسي في أولي مسرحياته، سقوط فرعون ، التي أنتجها المسرح القومي عام سبعة وخمسين بعد كتابتها بعامين، والتي صور فيها الفرعون إخناتون كحاكم يعاني صراعا داخليا مريرا بين واجباته كحاكم مطلق لا بد وأن يتخذ القرارت السياسية التي تتضمن القوة والعنف، وبين قناعاته كصاحب رسالة تنبذ العنف وتدفعه في النهاية للتخلي عن العرش ليهب نفسه لنشر ديانته الجديدة. لم تصادف المسرحية نجاحا كبيرا لأسباب سيعترف بها الكاتب مؤخرا ومن بينها أنها كانت مثقلة بالقضايا التي أبهظت بناءها الدرامي وأتخمته بالخطوط والحبكات الثانوية المتداخلة، وعلي حد قوله انها كانت تحوي مادة تكفي ثلاث مسرحيات. وهي سمة نجدها بشكل عام في كثير من الأعمال الأولي للمبدعين، حيث الاحتشاد بزخم الأفكار والرغبة الجموح في تأكيد الذات، فضلاً عن حداثة تجربة المبدع باستخدامه لأدواته الإبداعية. في مسرحية حلاق بغداد (1963) وهي من بواكير أعماله وفيها يتجلي ولعه بالتراث العربي واستلهامه لموضوعاته وحكاياته، اقتبس الفريد فرج حكايتين إحداهما من الف ليلة وليلة والثانية من كتاب الجاحظ المحاسن والأضداد ، لكنه ربط بين الحكايتين اللتين قدمهما في فصلي المسرحية شبه المتصلين ( يوسف وياسمينة ، و زينة النساء ) من خلال شخصية البطل، الحلاق ابو الفضول ، الذي يدفع ثمنا باهظا لفضوله في كل مرة يتدخل فيها لحل مشاكل الآخرين. وفي كل مرة تنتهي الحكاية بتدخل الخليفة، الذي يحدث ان يكون مارا بمحض الصدفة فيقرر رفع الظلم عن المظلوم وإنصافه، بل إن الخليفة يبدي أسفه وانزعاجه لأن كل هذه المظالم تحدث بين رعيته وهو لا يدري عنها، فيقرر تحمل المسؤولية كاملا. هذه النهاية التي انتقدت في حينها كونها كانت مفتعلة او كرسالة سياسية مقحمة علي بنية الحكاية، وهي بالفعل كذلك، وإن كانت رسالة سهلة الهضم أو مخففة تتماشي مع التناول الكوميدي لموضوع المسرحية، ومفادها انه مهما عم الظلم البلاد وأمسك برقاب العباد فلا يد للسلطان فيه، بل هو الأمل المرتجي دائما في رفع الظلم وإحقاق الحق، (مجرد تنويع علي فكرة المستبد العادل ، إحدي خرافات العقل العربي)، والرسالة بهذا المعني تشير من طرف خفي لدور الرقيب الحكومي (الحاضر دائما في وعي المبدع العربي)، بمثل ما أنها ترهص بانشغال الكاتب المبكر بفكرة العدل، في إحدي تجلياتها السياسية، وبالأحري في غيابها عن بلاط السلطان، ولا شك ان خبرته مع عصا السلطان الغليظة كانت حاضرة في ذهنه من سنوات المعتقل. (فما اشبه الليلة بالبارحة، وكأن شيئا لم يتغير في مصر المحروسة). لكن هذه الفضلة الزائدة، إذا جاز التعبير، لا ينبغي لها ان تنتقص من موضوع المسرحية الرئيسي والمتمثل في حلم العدالة كما يتطلع اليها الملايين من عامة الشعب أو الرعية ، كما يمثلهم ابو الفضول . وقد قارن البعض شخصية ابو الفضول كما صورها فرج، بشخصية فيجارو في الثلاثية المسرحية الشهيرة للكاتب الفرنسي بومارشيه. العدالة.. مع سبق الإصرار والترصد في مسرحيته التالية خرج ألفريد فرج من عالم الحكايات الشعبية ليدخل عبر بوابة التاريخ الحديث، ومن العدالة المرتجاة كما حلم بها ابو الفضول الفقير المعدم ولم يطلها إلا كعطية من السلطان، الي العدل كما يتجسد عبر الفعل الإرادي مع سبق الإصرار والترصد، من خلال شخصية سليمان الحلبي ، الشاب الأزهري السوري الذي قطع مئات الأميال لينتقم من ساري عسكر الفرنسيس الجنرال كليبر، الذي تولي قيادة الحملة الفرنسية علي مصر والشام بعد رحيل الجنرال نابليون بونابرت. سليمان الحلبي واحدة من أفضل مسرحيات فرج، وفيها يتجلي تأثره بمسرح بريخت الملحمي، وإن كان هذا التأثير بالذات قد غاب عن الكثير من النقاد الذين تناولوها إبان عرضها علي المسرح القومي عام 1965، حيث توجه بعضهم بطلا تراجيديا عربيا، وقارنه البعض بـ هاملت شكسبير، خاصة في المونولوج الذي ينعي فيه الحلبي القاهرة بعد أن دكتها مدافع الفرنسيين، وقبل ساعات من تنفيذ البطل قصاصه العادل بطعنات نجلاء اصابت الجنرال كليبر. ولو وضعنا جانبا الجدل الفني حول شخصية سليمان الحلبي كبطل تراجيدي أو بطل ملحمي، فإن قيمة المسرحية الأهم، والتي تجعلها عملا معاصرا بامتياز هو طرحها لسؤال العدالة هذا في مفصل تاريخي هام واجه فيه العقل العربي صدمة الحضارة علي نحو هزه من الأعماق لأول مرة مع الحملة الفرنسية عام 1800. طرح فرج السؤال أو الأسئلة التي كانت آنية في حينها، في زمن المسرحية الدرامي، بمثل ما كانت آنية في زمن عرضها في حقبة حركات التحرير والثورات ضد الاستعمار شرقا وغربا، وبمثل ما هي بالتأكيد آنية اليوم (ولو كره المزيفون والمنبطحون). في مواجهة هذه الهوة الفاغرة في القوة والعدة والعتاد بين المعتدي والبلد المعتدي عليه، طرح العقل العربي المسلم السؤال علي نفسه: ما العمل وأي طريق نسلك؟ ولما كانت الاجابة الفورية هي المقاومة، برز سؤال آخر عن الثمن الذي تقتضيه المقاومة وقد رأي المصريون ثمنها بعد ان دك الفرنسيون القاهرة في ثورة القاهرة الأولي. كان سليمان الحلبي في خضم هذا الصراع يكابد الأسئلة ذاتها، وهو الأزهري الذي جاء الي الأزهر ليدرس الشريعة ليتأهل ويصير قاضيا، أي رمز العدل والانصاف، فكيف له إذا أن يقتل؟ بل من أين يتأتي له ان يصير القاضي والجلاد في آن؟ وماذا عن فتاوي أساتذته وشيوخه الذين نصحوه بالتروي؟ كل هذه الأسئلة تطرحها المسرحية من خلال زمنها الدرامي علي نحو جدلي شائق يلقي بظلاله علي زمن عرضها. فحين تسأل الجوقة سليمان الحلبي لماذا قطع كل هذه الأميال من حلب الي القاهرة ليقتل الجنرال كليبر، وكان بوسعه ان يقتل ايا من الحكام الأتراك وهم لا يقلون طغيانا وقهرا عن الفرنسيين؟ فيجيبهم بأن أباه تعرض للظلم علي يد الأتراك ومن ثم فإنه إن اقدم علي قتل احدهم فإن ذلك سيكون بدافع الانتقام، أما قتله كليبر فإنه عمل عقلاني محايد خال من أي شبهة انتقام، وبذا يجسد مفهوم العدالة المطلق كما توصل هو إليه. وهو الذي خاض مناقشات طويلة مع رفاقه الأزهريين واستشار شيوخه ومعلميه واستفتاهم ولم يقدم علي فعلته إلا بعد أن رسخ في قناعته بأنه ينشد العدل ولا شيء سواه. فهل يمكن لنا ان نتصور مسرحية أكثر معاصرة من سليمان الحلبي ، البطل العربي المثقف الثوري الأزهري، ونحن نعيش أزهي عصور الحرب علي الإرهاب ؟ (مع الاعتذار لأزهي عصور الديموقراطية علي الطريقة المصرية). البحث عن العدل هو الذي قاد الفريد فرج الي مغامرته التاريخية التالية من خلال مسرحية الزير سالم (1967)، وفيها تناول القضية من مفهوم فلسفي والخلط الذي كثيرا ما يقع بين العدل والانتقام، من خلال قصة صراع قبلي في حقبة ما قبل الاسلام حين يقتل الملك كليب علي يد زوج أخته جساس ، وحين يسأل أخو القتيل، الزير سالم عن القصاص الذي يرضيه لا يقبل بأقل من إعادة الملك القتيل الي الحياة. وبهذا المطلب المستحيل يستدام الصراع الدموي داخل القبيلة وينتقل الي الجيل التالي حين يشب هجرس ابن الملك القتيل عن الطوق، ويصر علي أن تروي له القصة من بدايتها، وهكذا يتجسد لنا الجدل بين فكرتي العدل والانتقام من خلال تقنية المسرحية داخل المسرحية. أحلام المدينة الفاضلةومن التاريخ عاد الفريد فرج ثانية الي عالمه الأثير في الف ليلة وليلة في العام التالي ليداعب أحلام العدالة والمساواة في مخيلة الحكام والمحكومين علي السواء من خلال معالجة خيالية في واحدة من أمتع مسرحياته وأنجحها جماهيريا وفنيا هي علي جناح التبريزي وتابعه قفة ، والتي استقاها من ثلاث حكايات مختلفة من ألف ليلة وأعاد نسجها في بناء درامي شائق وجذاب. علي جناح التبريزي أمير شاب اشتهر بكرمه وسخائه اللامحود، وكان رجلا معطاء ذا قلب كبير يغدق علي الفقراء المساكين، مثقف حالم بتغير العالم للأفضل، لكنه لم يغير شيئا سوي أنه صار فقيرا بدوره بعد ان باع آخر ممتلكاته وقصره حتي يسدد ديونه. رغم ذلك فهو ليس نادما علي شيء بل متصالح تماما مع نفسه، بل إنه يشعر وكأنه ولد من جديد بعد أن صار معدما لا يملك شيئا من متاع الدنيا، سوي خياله الخصب وأفكاره النبيلة التي يحلم بأن يسير بها بين الناس، وذلك في نظره أعظم من كل ثروات الدنيا. وقبل ان يقدم علي رحلته يجمعه القدر مع اسكافي معدم طرق باب قصره قبل ان يتركه للمالك الجديد بحثا عن طعام، فلا يجد سوي وليمة متخيلة يقدمها الأمير له فتروق الفكرة للإسكافي قفة الذي يظن ان الأمير فقد عقله، ويتمادي الاثنان في اللعبة وتتوطد صداقة بينهما طوال الرحلة التي تحملهما الي مدينة خيالية علي حدود الصين. وهناك يواصلان لعب دوريهما كأمير وتابعه، ويغدق الأمير علي فقراء ومتسولي المدينة من مدخرات قفة التي كان يخبئها، وينجحان في إيهام أهل المدينة بأثريائها وفقرائها بثراء علي جناح خاصة بعد أن يخترع الأخير حكاية يروج لها قفة في الأسواق عن قافلته المتخمة بالثروات القادمة في الطريق، فيقدم اثراء المدينة علي إقراضه كل ما يطلب من الأموال التي يعيد هو توزيعها علي الفقراء تباعا، وحين يصل خبره الي الملك يستدعيه ويقربه بدوره طمعا في ثروته ويفتح له خزائن الدولة ليغترف منها دون حساب ويغدق علي الفقراء من جديد، بل إن الملك طمعا في منافسة اثرياء المدينة وتجارها يقدم له ابنته عروسا. هكذا استطاع الأمير النابه بسعة الخيال أو بقوة الفكر أن يعيد توزيع الثروات في البلد، وتستمر الحيلة الي ان يدب الخلاف بين الأمير وتابعه الذي يطالب بنصيب من الثروة التي يعود الفضل في بدايتها الي مدخراته الزهيدة التي وزعها الأمير في البداية علي الفقراء. ولما يستبد اليأس بالتابع يشي بسيده لدي الملك فيقبض علي الأمير ليحاكم، وفي انتظار تنفيذ حكم الاعدام فيه يصغي تابعه لتأنيب ضميره ويدبر فراره مع زوجته ابنة الملك.يكمن ثراء المسرحية الدرامي في هذه الثنائية التي خلقها المؤلف للشخصيتين الرئيسيتين والمحملتين بدلالات عديدة تبدو كلها مقبولة وفقا لمنطق التفسير الذي يختاره المرء. فهما النفس البشرية بجانبيها المادي والروحي، وهما قوة الخيال في مقابل سطوة الواقع، وهما النزعة الغيرية في مقابل الأنانية، وهما أيضا يمثلان طبقتي النخبة والعامة، الي غير ذلك من التفسيرات. أما المقولة الأهم للمسرحية والتي تجعل منها عملا متميزا فتكمن في أن حلم علي جناح لم يتبدد برحيله عن المدينة فارا، فقد نجح في هز أركان الهرم الاجتماعي لهذه الدولة الخيالية، لأن الفقراء الذين اغدق عليهم من عطاياه نجحوا في استثمار أموالهم والبدء في أعمال تجارية وراحوا ينافسون الأثرياء الذين راحوا يندبون أحوالهم. وفي المشهد الختامي للمسرحية يخرج فقراء المدينة واثرياؤها الجدد في وداع حار للأمير، في إشارة رمزية الي تشبثهم بحلم التغيير. لقد توسل الفريد فرج من خلال هذه الواقعية السحرية، إن جاز التعبير، في ان يقدم رؤية لمجتمع العدل والمساواة الذي تتمركز حوله أدبيات الفكر السياسي الاشتراكي، والذي كان جزءا اساسيا من الخطاب السياسي لعهد عبد الناصر. بل إن البعض رأي في مسرحية الفريد فرج نقدا مبطنا لعبد الناصر، مشيرا الي أن علي جناح ليس سوي بائع أحلام أو أوهام، كما كان يحلو لبعض خصوم عبد الناصر أن ينعتوه، فيما وصف البعض الآخر تحولاته الاشتراكية بأنها إعادة توزيع للفقر. وهناك أيضا شبهة التأثير بمسرحية بريخت السيد بونتيلا وتابعه متي والتي تتمحور حول ما أسماه بريخت ثنائية السيد والعبد ، وقد استقي بريخت مسرحيته من أصول شعبية فنلندية ايضا. وما عدا ذلك فقد طور فرج الثنائية علي نحو جعلها مترعة بالدلالات، وخلق لنا يوتوبيا مسرحية تعكس الواقع الاجتماعي السياسي في مصر في تلك الفترة، بمثل ما أنها تدين في معمارها ومادتها الخالية لأصولها التراثية. عدالة القضية في مسرحيته التالية واصل الفريد فرج السير علي نفس النهج التجريبي الذي اختطه لنفسه والذي يقضي بأن يجعل الموضوع يملي الشكل المسرحي الأقدر علي التعبير عنه واستيعابه، دون أن يحيد عن همه الإبداعي الأول أي قضية العدالة في تجسداتها المتنوعة. فمن العالم الطوباوي الذي شيده لمفهوم العدالة الاجتماعية من نسيج الموروث الشعبي، عاد فرج الي الواقع السياسي العربي المباشر ليعالج القضية المحورية الأولي التي سيطرت علي الوجدان والعقل العربي طوال الشطر الأعظم من النصف الثاني من القرن العشرين العربي ولم تزل تحتل مكانا مركزيا ـ علي الأقل وجدانيا ـ رغم تفسخ الواقع السياسي البائس وتهرؤ الخطاب السياسي العربي. اختار فرج قالب المسرح التسجيلي أو الوثائقي لعرض عدالة القضية الفلسطينية في النار والزيتون المسرحية التي قدمها المسرح القومي عام 1970 من إخراج الأستاذ سعد أردش، وهو من أبرز جيل المخرجين الرواد الذين قدموا المسرح السياسي وأرسوا دعائمه في مصر والعالم العربي بدءا من حقبة الستينات. وقد حرص فرج في مقدمة النص المطبوع علي الاسهاب في شرح وجهة نظره حول المسرح السياسي والأشكال المختلفة التي تندرج تحت هذه اللافتة كالمسرح التسجيلي والملحمي والتعليمي والقاسم المشترك الذي يجمع بينها إن علي مستوي توظيف عناصر متعددة من الدراما الي الرقص والغناء والشرائح المصورة والعرض السينمائي، أو علي مستوي المضمون حيث تتفق كل هذه الأشكال في كونها تحمل رسالة سياسية تسعي لتوصيلها الي المتفرج مباشرة اي بتحطيم حاجز الوهم او المسافة الجمالية التي تفصل بين العرض والمتفرج في العروض التقليدية، لتحل محلها علاقة تخاطب مباشر تخاطب عقل المتفرج ووعيه بدلا من ان تستغرقه وجدانيا. في هذه الفترة قدم فرج دراما تسجيلية عن القضية الفلسطينية تجمع بين العناصر الدرامية والملحمية من خلال خيط درامي أساسي يجسده القائد الفلسطيني أبو شريف يتطور عبره البناء متعدد المشاهد متجاورها في نقلات سريعة في الزمان والمكان، علي خلفية من الشرائح السينمائية والملصقات والتابلوهات الحركية المتتابعة، ويسير كل هذا بالتوازي مع توثيق تاريخي للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي تتناوب علي قصه ثلاث شخصيات تنتقل باستمرار بين تجسداتها الدرامية وأدوارها كرواة. من نافل القول إن المسرح السياسي يتبني موقفا محددا ومسبقا من قضية ما وينطلق منه للترويج لتلك القضية او الدفاع عنها او تبيان مصداقيتها في مقابل دحض نقيضها. ومن هذا المنطلق قدم فرج النار والزيتون كشهادة تاريخية موثقة علي عدالة القضية الفلسطينية. وصحيح ان نقطة الضعف في هذا التناول، كما اشار بعض النقاد في حينها، أنه يتوجه الي جمهور سواء كان في مصر أو في أي بلد عربي آخر، لا يخالجه أدني شك في عدالة القضية، ومن ثم فإن المسرحية بهذا المعني قد تقع في فخ العمل الدعائي كونها تقتصر في عرضها للقضية من وجهة النظر العربية فقط، أو كما قد يقول البعض من وجهة نظر الضحية، خاصة وأنها لم تتعرض مثلا بل ولم تشر بالمرة الي أسباب إخفاق الأنظمة العربية في إدارة الصراع مع العدو الاسرائيلي، وكان إخفاقا كارثيا مروعا، إذا نظرنا الي ان فرج كتب مسرحيته بعد نكسة حزيران (يونيو) 1967 بثلاث سنوات. من ناحية أخري، فإن المسرحية تكتسب اليوم بتقادم الزمن أهمية تاريخية ربما لم تكن لتتحقق لها آنذاك. في عصر مبادرات السلام الفاشلة والمتعثرة، في عصر التطبيع والتركيع والحصار والتجويع والنوم مع الأعداء وتصفية الخصوم واصطياد المقاتلين بطائرات الاباتشي ودك المدن والقري بالقنابل الفوسفورية والعنقودية، في عصر عودة الاستعمار الي شكله السافر الذي عرفه منذ القرن التاسع عشر عبر الاحتلال العسكري المباشر، في عصر ديموقراطيات البلطجية والطائفية والجمهوريات العائلية، وعولمة السجون والمعتقلات وأقبية التعذيب باسم الحرب الكونية علي الارهاب، في هذا العصر توشك حقائق التاريخ الثابتة ان تندثر، وكأنها لم تكن واضحة ساطعة بالأمس القريب. وليست مسرحية الناروالزيتون هي الوحيدة من بين أعمال ألفريد فرج التي لم تزل عصرية وآنية تلح علي واقعنا الراهن بعشرات الأسئلة التي تستجدي الإجابات، بل إن معظم أعماله تتمتع بهذا القدر أو ذاك من الديمومة، لأن همه الأول كان انسانيا أولا وأخيرا، وستظل العدالة حلما ينشده الانسان ما بقيت حياة علي الأرض. فمن ذا الذي يخبرنا كم من سليمان الحلبي وكم من علي جناح التبريزي يحتاج العالم اليوم؟ ناقد من مصر يقيم في واشنطن0