مفاجأة تلو أخرى تُسجّلُ في ملف النشاط المخابراتي الإيراني، ما أن ينتهي النشر عن خليّة تجسّسية لصالح إيران، حتى يُكشف النقاب عن خلية أخرى جديدة، وخلال أقل من عام، جرى الكشف عن خمس شبكات كهذه. في كلِّ الحالات كان الجواسيس من المواطنين اليهود، ومن مختلف الأعمار، من بينهم قاصرون سوى الحالة الأخيرة.
جميع اليهود الذين تورّطوا بهذا العمل أقرّوا بأنهم فعلوا هذا طمعاً في المال.
الخليّة الأخيرة من العرب المقدسيين، اعترفوا، حسب الشّاباك قبل يومين، أنهم فعلوا هذا بفخرٍ ومن منطلق قومي، رغم أنّهم تلقوا حوالي اثنين وخمسين ألف دولار لتنفيذ ما يطلب منهم، حسب الشاباك أيضا.
شملت هذه الشّبكات مختلف شرائح المجتمع، من رجال أعمال، أناس عاديين، وزير سابق، رجال خدموا في الجيش، فقراء، وميسورين. طلب منهم تصوير ونقل معلومات أمنية حساسة، والقيام بأعمال تخريب، وحتى اغتيال مسؤولين كبار. هذه الأعداد الكبيرة نسبياً، تثير علامات استفهام عن سبب الظاهرة والسُّهولة النسبية في تجنيد العملاء وخصوصاً اليهود منهم!
مرّت عقود عدة، كان يبدو أن تجنيد يهودي لعمل يمسُّ أمن دولة إسرائيل شبه مستحيل. ما تم تجنيده من اليهود الإسرائيليين على مدار عقود من الصراع في مواجهة العرب، لم يكن سوى أفراد قلائل، بينما كان تجنيد العرب للعمل لصالح إسرائيل أسهل بكثير، ومن مختلف الدول العربية وبأعداد هائلة، لا حاجة للتفصيل لأنّ المجال واسع ومعقّد، ويحتاج إلى مقالة أخرى. طبيعي جداً أن تجد الدول القوية المنتصرة تربةً خصبة لتجنيد عملاء من مواطني الدول المغلوبة، خصوصاً التي يعمُّها الفساد والظُّلم والانقسامات الطائفية والقومية. قدرة إيران على تجنيد هذه الخلايا مقابل المال، تشير أوّلا إلى ضعف الشُّعور بالانتماء الوطني، وعدم الاكتراث بالضّرر الأمني الذي يسبّبه العميل لبلده وشعبه، عولى أنّ شرائح واسعة من المجتمع، فقدت الحصانة الأيديولوجية والفكرية التي سادت لدى الأجيال السّابقة، وهي اعتبار الدولة ملجأ آمناً لليهود، إذ تحوّلت إلى مكانٍ يفتقر إلى العدالة، ويخدم مصالح أناس دون آخرين.
أهم ملامح هذه المرحلة هو فقدان الثقة بالقيادات الحالية، لقد تغيّر أمرٌ ما، وانتشر فسادٌ كبير، ليس في حقبة نتنياهو الأخيرة فقط، بل إنّه بدأ قبل هذا، ولكنه بات وباءً مستفحلا ومعلناً
أهم ملامح هذه المرحلة هو فقدان الثقة بالقيادات الحالية، لقد تغيّر أمرٌ ما، وانتشر فسادٌ كبير، ليس في حقبة نتنياهو الأخيرة فقط، بل إنّه بدأ قبل هذا، ولكنه بات وباءً مستفحلا ومعلناً. الفساد المالي الذي كان يمارس بحياء، وبمستويات قليلة جداً، وحتى نادرة، أصبح عامّاً، ولم يعد مثيراً للحياء. وانتعشت مقولة «اسرق ولكن لا تدَعْهم يكشفونك». الوظائف الكبيرة توزّع حسب الانتماءات الحزبية، وليس حسب الكفاءات، والوظيفة تقرّر حسب القرب من هذا المسؤول الحكومي أو ذاك وخِدمته، وهذا يعني عقد صفقات، أصواتا في انتخابات الأحزاب الداخلية لمرشحي الكنيست مقابل الوظائف، حتى الحساسّة منها، ومن غير الكفاءة والأحقية. تجري منذ أعوام ضد الرأس الأكبر بنيامين نتنياهو محاكمات بشبهة الفساد، والمجتمع بات منشقاً بين من يجيز لنتنياهو الفساد، بصفته ملك إسرائيل وفوق المحاسبات، حتى لو سرق لإمتاع نفسه، ومن يصرّون على محاكمته حرصاً منهم على تطبيق القانون وإسقاطه.
هنالك وزراء وشخصيات قيادية من مختلف الأحزاب قضت فترات في السّجن الفعلي، ثم عادوا بعد انقضاء محكوميتهم، للعمل السياسي كأنّ أمراً لم يحصل. أكثر الوزراء والمسؤولين يبرهنون على أنهم يسعون إلى مصالحهم الشخصية، ومستعدون للتضحية بعلاقات إسرائيل وبسمعتها، وبكلّ شيء، مقابل شعبويتهم وللبقاء في مراكز القوة والنفوذ. البلديات باتت بؤراً للفساد والإفساد، في التوظيفات والمقاولات وغيرها، واليد العليا فيها لعصابات الإجرام المنظّم. الأجيال الصاعدة تطمح إلى حياة مادِّية مريحة، أكثر من أجيال سبقتها، وهذه موجة عالمية، حيث الفراغ وهيمنة التّفاهة. سهولة التواصل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، مما يتيح انكشافاً أوسع أمام المعنيين في تجنيد عملاء. الشعور ضعيف بخطر وجودي على الدولة، خصوصاً بعد عقد اتفاقات سلام مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولم تظهر إيران حتى الآن كخطر وجودي على إسرائيل، الحرب الحالية قد تعيد هذه الحسابات. التحريض والشيطنة طيلة عقود كانت وما زالت ضد العرب، وإيران جاءت متأخرة. هنالك فئات دينية كبيرة لا تخدم في الجيش، ولكنّهم يحصلون على ميزانيات مميّزة أكثر من غيرهم، ومصدر قوّتهم هي أصواتهم وممثليهم في الكنيست الذين بقوّتهم يشكّلون حكومات إسرائيل. هذا ينعكس على كثيرين من الذين يشعرون بالإحباط والمرارة، وذلك أنّهم يعرّضون أنفسهم وأبناءهم لخطر الموت في جبهات القتال، بينما يقطفُ غيرهم الثمار من دون أي جُهد سوى الدُّعاء.
الشُّعور العام بأنّ أعضاء الكنيست والوزراء يهتمون برفع رواتبهم بصورة دائمة، حيث إنها باتت من أعلى أجور البرلمانيين على صعيد عالمي، وتبلغ أربعة أضعاف معدل الأجور في إسرائيل، وثمانية أضعاف رواتب الفئات الضعيفة، ما يعكس استفحال الفساد، وبأنّ القيم التي يتحدّثون عنها في الكنيست ليست سوى قرارات لخدمة مواقعهم، ويثبت هذا سهولة التنقّل من حزب إلى آخر، ومن معسكر إلى معسكر، وذوبان الفوارق الفكرية بين مختلف الأحزاب، حتى يصعب التمييز بينها.
ترسيخ ظاهرة في كلِّ المجالات، أنّ القريب من الصّحن يأكل، والبعيد ينتظر أو يُحرم، حتى أصبحت أمراً مسلّماً به، وكي تحصل على حق من حقوقك، عليك أن تحتج، وأن تخرج إلى التّظاهر والصُّراخ، ولن تحصل على حقك من غير هذا.
سيطرة رؤوس الأموال الكبيرة على سوق البناء والسَكن وارتفاع أسعارها المستمر، حيث بات اقتناء المسكن مشكلة كبيرة لدى أكثر الناس، ومعظمها من خلال قروض الإسكان طويلة الأمد، وهي باهظة جداً، حيث أن نسبة مرتفعة جداً ممن يقتنون الشُّقق بقروض الإسكان يعجزون عن الدفع في مرحلة ما، ما يؤدي إلى شقاء أسر كثيرة، وهذا ما جعل شرائح كبيرة تشعر بأنّ القوى الاقتصادية الكبيرة تتحكم بمصائرهم، وتحرمهم من الأمن الاقتصادي.
انتشار عصابات الإجرام المنظّم وتمتعها بالحصانة، والكشف في مرات كثيرة عن تواطؤ ضباط شرطة مع هذه العصابات، مقابل رشوة بالمال المباشر، أو غير المباشر. كثيرون من القادمين الجدد في مختلف الفترات، ليسوا يهوداً أصلا، ولكنهم تهودّوا طمعاً بما تمنحه لهم الدولة كقادمين جدد، فلا يشعرون بانتماء حقيقي لا لدولة ولا لوطن. كتب عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته عن أعمار الدّول وأسباب ضعفها وأفولها، فهي تعيش في سنينها الأربعين الأولى في قوة ومَنعة وعصبية، أما الأربعون الثانية فهي للبناء والإعمار وبدء مرحلة الرفاهية، وما أن تبدأ الأربعون الثالثة، حتى يبدأ الفساد في نهش وخلخلة أسس الدولة، وتبدأ بالضعف بعد أن يصبح أبناؤها مرفّهين، ويفضلون حياة الملذّات، ولا يبقى من الفروسية وغيرها سوى المظاهر والاستعراضات. من يتابع كيف يتصرّف وزراء وأعضاء الكنيست وأصحاب القرارات الفاسدين، وبأي مستوى أخلاقي يخاطبون الأمم وممثليها، وكيف يتعاملون مع القوانين الدولية، بل حتى مع عائلات الرهائن والأسرى من أبناء جلدتهم، ومن يرى جرائم الإبادة التي يمارسونها أمام أعين العالم كلّه، يستطيع أن يفهم النوعية الهابطة والحثالة التي تحكم هذه البلاد.
كاتب فلسطيني