جماليات رعبها تستثني الأنوثة: ماجدالينا الذاهبة بقطيع رجالها الي التيه
فاروق يوسفجماليات رعبها تستثني الأنوثة: ماجدالينا الذاهبة بقطيع رجالها الي التيهصورة البولندية ماجدالينا ابكانوفتش (1930) وهي تتأمل تماثيلها تهبنا فكرة مختلفة، بل ومقلوبة عن علاقة المبدع بكائناته الطالعة من العدم، نستحضر من خلالها صورة الوحش المختبري الذي تمرد علي مخترعه فأماته بدلا من أن يشكره طائعا. صحيح أن ما تراه ماجدالينا من الاسفل وهي ترعي كائناتها العملاقة بنظرة مليئة بالخيلاء لا يمكن تخيله أو التعبير عنه عن طريق بلاغة لا تمت إلي لغة الأم وحنو مشاعرها بصلة، غير أن مضي كائناتها تلك إلي مجهول لا تعد به الاماكن التي تحيط بها يجعلنا نشعر بعمق التيه الذي لا بد أن تكون الفنانة نفسها قد التهمت الجزء الأكبر من جرعة سحره. من قال ان السم لا يغري مخترعه دائما بالتهامه؟ أطلقت ماجدالينا ذات مرة (112) عملاقا من الحديد في أحد حقول الربيع، كما لو أنها أرادت أن تجرب قوة الخرافة في صنع لحظة بصرية خارقة، لحظة تعاش علي مستوي ذهني مفارق لكل بداهة عيش. لكي تراهم لا تحتاج الفنانة إلي أن تقف بعيدا مثلما نفعل نحن بذعر وحذر، بل هي تمشي بين ظلالهم باليسر عينه الذي مضي بقدمي (اليس) في أرض العجائب. صورتها لا تخفي دهشتها المعجونة بغوايات أنثوية الطابع، ذلك لأنها تظهرها بصفتها المرأة الوحيدة وسط حشد من الرجال المثقلين بالذنوب. ماجدالينا تذهب بكائناتها المتلفتة إلي هاوية سحيقة من الضياع لتعيد إلي الانثي براءة الوهيتها السليبة. إنها تغذي فكرة القطيع الذكوري بوعد خطر مزعوم لتصنع مشهدا هو الأكثر ضرواة في معركة لم تقع: رجال قد قطعت رؤوسهم ولا يزال في نفوسهم شيء ما مفقود يحثهم علي المضي بعيدا. وهنا بالضبط ينجز الجمال واحدة من أكثر تقنياته تشنجا وذعرا: رفقة الحافات.2يحتاج التمثال (اي تمثال) لكي نشعر به (في محاولة لاختراقه) إلي أن نلمسه بأصابعنا علي الأقل، إذا تعذر تحسسه بأيدينا. أحيانا تجتاحنا الرغبة عينها حين نقف أمام لوحة يكون سطحها ناتئا، فتمتد أيادينا لا شعوريا، كما لو أنها تحاول التأكد من شيء ما يقع خارج اللوحة، شيء يهب اللوحة قوة الواقعة (اعمال فان كوخ أو كارل أبل علي سبيل المثال). الفراغ الذي يمتلئ هو الذي يشكل الهاجس الذي تصدر عنه مثل هذه الرغبات التي لا تتناقض مع متعة النظر، بل تكسبها عنصر اثارة مضافاً. لا بد أن المادة الملموسة تشكل حافزا للاقتراب أكثر، للدخول بين ثنيات التفاصيل، التي يقع بعضها في مناطق غير محسوسة او متخيلة. باللمس يكف التمثال عن أن يكون تمثالا، إنه يتحول الي مادة تنقل مشاعر خفية الي جسد المشاهد مباشرة عن طريق اليد. الهشاشة والغياب، امران التفت اليهما جياكومتي أكثر من سواه، فأشباحه (لنقل أن تلك الاشباح ما هي إلا بقايا رؤي وليست كائنات محتملة) تنتقل بنا إلي عالم مقبل علي غيابه بنهم وضرواة، في حين أن هنري مور قاومهما عن طريق الفراغ، الذي يتخلل تماثيله ليهبها نوعا من الخفة، تماثيل برانكوزي كانت تفعل الشيء عينه لكن عن طريق اتصالها الشفاف والرهيف بالفضاء، حيث نهاياتها تتلاشي لتغيب. تماثيل ماجدالينا لا تمس، وحدها الفنانة تجرؤ علي القيام بذلك، ذلك لأنها تري عن قرب ما لا نراه ، وقد اعاننا البعد علي النظر بصفتنا متأملين لواقعة، يلذ لنا أن نصر علي أنها واقعة متخيلة. ماجدالينا يفتنها أن تكون هناك، محاطة بالفتية المغامرين، رعاة التيه وهم يذهبون بخفة وراء نداء ناي رعوي يعدهم بالعيش في سلام. تنتصر ماجدالينا علي المادة بخيال الفكرة: عمالقتها منذورون للغياب. يا لخفتهم وهم يرقصون في عدد من أعمالها، حتي ليظن المشاهد أن نشوة الغياب قد تمكنت منهم. 3في أعمال ماجدالينا (التي انضمت بقوة أصالتها الي ايقونات عصرنا الفنية) هناك دائما رأس مفقودة لا يشغلنا البحث عنها اطلاقا، ذلك لان الفنانة محتها بقوة الفضاء وليس استجابة مرتجلة لارادة الزمن. ماجدالينا تعرف أن التماثيل لا تعني بالزمن ولا تعترف بسلطته الماكرة. انها تتفاداه، لا بمادتها حسب بل بفكرتها عنه، ذلك لأنها ترتقي سلمه بصفته أبدا. التماثيل تسكن الابدية وغالبا ما تخون قدرتها علي الوصف من أجل الاخلاص لذلك الأبد العاكف علي تأثيث عزلته بمادة فزعنا اليومي. يعينني تمثال الروائي (بلزاك) لأوغست رودان في باريس علي فهم وادراك فكرة نسيان الزمن. فعلي الرغم من عبء الضالة الوصفية التي يفترض أن ينطوي عليها تمثال احتفائي من هذا النوع فقد مر رودان بالزمن كما الخونة. خيانة الماضي وخيانة الواقع، كلاهما تقولان الحقيقة عينها والتي حاول بلزاك أن يكون مرآة لها. لقد تخيل رودان بلزاك بعباءته العربية أكثر مما حاول أن يغري نسخته البرجوازية، فرنسيا بالحضور. صلي به ولم ينظر إليه كتحفة. كان (بلزاك) رودان رقية أكثر من أن يكون تعريفا. وهذا بالضبط ما حاولته ماجدولينا حين جردت عمالقتها من رؤوسهم، وأوصت الربيع المفتوح بهم، كونهم موتي مؤهلين لأي احتفاء مجاني. 4(كنت واحدا منهم) أو (سأكون كذلك يوما ما)، يقترح علينا الزمن تفكيرا من هذا النوع ونحن نري حشدها الخارج من كوابيس جورج اورويل (1984)، تلك الرائعة الأدبية التي صار خيالها للأسف واحدة من لقي الواقع المبتذلة. تصنع ماجدالينا جمالياتها من مادة ذلك الاسف المعتق لتدفع بنا إلي تحسس أجسادنا، وقياس المسافة التي تفصلنا عن الآخر المستعبد، السائر إلي حتفه بعبودية مرحة. كيف يمكننا التأكد من أن رؤوسنا لا تزال في مكانها؟ تلك هي المشكلة التي نواجهها ونحن نري حشدا من البشر، لا ينقص الواحد منهم شيئا من حيوية الحياة، هم مثلنا تماما، ومع ذلك فان رؤوسهم نسيت في مكان آخر. قد تكون الرأس غير ضرورية لمباشرة العيش! الحكاية مستحيلة ولكن ماجدالينا جعلتها ممكنة. تحيلنا أعمال هذه الفنانة إلي السياسة بطريقة مضادة، ذلك لأنها تظهر الانسان وقد استبد به الفكر القطيعي، جزءا مستنسخا بشكل مرآتي من اصل يتكرر باستمرار، اصل هو الصورة المقنعة عن الانسان المقترح من قبل القوي الخفية التي تسير بالانسان في اتجاه المجهول. غالبا ما يحضر الفرد لديها بصفته ذلك الكيان المغيب، الغائب عن شروط حياته الخاصة، المندمج في آليات تواجه الجمال بوظيفته المنسية: الارتباك في مواجهة الفجيعة الجمعية الصامتة. هناك هلع محتفي به من جهة قدرته علي أن يكون واصفا وموصوفا في الوقت عينه. شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد 0