تعويم اللغة
خيري منصورتعويم اللغة يقدم مصطلح التعويم جملة من الاغراءات بتهجيره من سياق الي آخر، وان كان المعني الذي نقصده هنا هو تعويم اللغة، بحيث تفقد الكلمات والمصطلحات حتي حدودها التقريبية، ليس بمعني الانزياح الشعري الذي تحدث عنه كوهين ، بل بالمعني الآخر والمضاد الي حد ما، حيث تبدو المفردات وكأنها متشردة ليس فقط خارج المعاجم، بل في الاستخدام اليومي، وقد يكون مصطلح الانتحاء اللغوي كما اقترحه أحد النقاد العربي ملائما لوصف الظاهرة، لكنه هو الآخر يعاني من الانتحاء اذا فهم علي أنه اسباغ قيمي علي الكلمات، بحيث تصبح محاصرة بدلالات لا يبررها سوي التكرار اليومي، فعلي سبيل المثال لم تكن كلمة أكاديمي تعني ما تعنيه الآن من ايحاء بالاتباعية أو الافراط في التخصص حد الانقطاع عن العلوم الأخري، وان كان المعني الدقيق لمصطلح أكاديمي قد اقترن منذ أثينا القديمة بقبر المحارب أكاديموس حيث كان يتحلق التلامذة والحواريون حول فلاسفتهم!ان أول ما يلفت الانتباه الي ما نسميه التعويم اللغوي هو استخدام مفردات في غير سياقاتها، وعلي نحو يراد به المبالغة كأن توصف مقالة أو قصيدة أو حتي جملة عابرة بأنها عبقرية، فأنا سمعت في نهار واحد هذا الوصف عشر مرات علي الأقل بحيث أصبحت كلمة عبقرية شاحبة وبلا مضمون، ويصح هذا أيضا علي مفردات مثل عظيم، ورائع وباهر، ومدهش.. الخ.. ويبدو أن الحاجة الي نعوت متعاقبة هي ما يفتضح تعويم اللغة، بحيث لا تكفي الكلمات لوصف حالات ومواقف معينة، لهذا يشتبك شاعران مثلا علي لقب الشاعر الكبير والشاعر الأكبر، وكان الجواهري قد ظفر بلقب الشاعر الأكبر، تمييزا له عن الشعراء العرب الكبار الذين تجاوز عددهم الألف!لم تعد كلمة قصيدة أو شعر كافية لفرز نص ما وتحديد ماهيته، فالقصيدة يجب أن تكون مثقلة بالصفات كي تحقق مكانتها، كما أن مفردة الثورة لم تعد كافية حسب أدبيات التعويم، فلا بد أن تقترن بنعوت مثل التقدمية والقومية والأصيلة والجذرية كي لا تكون مجرد ثورة فقط وكأن مفردة الثورة اذا ما وردت في لغتنا بلا صفات هي أنثي الثور ولا شيء آخر!لقد ورطنا هذا التعويم بتعريفات جديدة لا للمصطلحات فقط، بل للمفاهيم برمتها، فأصبح النقيض للشعر الرديء هو الشعر الجيد.وعلينا وفق هذه المراذلة التي حلت مكان المفاضلة أن نقر ونعترف بأن هناك شعرا رديئا بالفعل، والواقع أن مثل هذا الشعر غير موجود علي الاطلاق، لأن الشعر اما أن يكون شعرا جديرا بتسميته وتصنيفه أو لا يكون، واذا كان المشتغلون في حقول الجماليات يقولون ان الخبرة رغم أهميتها في تاريخ الانسان أفسدت البراءة، فان مثل هذا القول لم يذهب بعيدا عن الحقيقة، وتصح مقولة دانتوس عن الأقدمين الذين قالوا: أقوالنا قابلة للفهم، رغم أن من يزعمون أنهم أول من كتبوا وأول من نقدوا وأول من غنوا يضيقون بهذه المقولة، لأنها تفسد عليهم أوهامهم!ہ ہ ہالمطلوب من لغة شبه مهجورة، ومتداولة علي نطاق شفوي واسع، هو أن تتخلي بالتدريج عن قواعدها وأن تصبح قماشة مبذولة، ويحل النثر الوظيفي فيها محل النثر الجمالي أو النثر الراقص حسب تفريق آسر قدمه بودلير في احدي مقالاته النقدية!وهذه مناسبة لرواية ما قاله ناشر عربي قبل أسابيع فقط، وهو أن ما يصله من الدواوين والروايات وهي تقدر بالمئات، غالبا ما يطلب مرسلوها أو مرسلاتها منه أن يتسامح مع القصور اللغوي وأن يعهد لأحد مساعديه أو مستشاريه أن يُصحح ما تعج به من أخطاء، ويغيب عن هؤلاء الذين ينتظرون العسل من اليعاسيب أو الذباب أن مادتهم بل صلصالهم هو اللغة، وأن الأخطاء عندما تتعلق بالابداع تصبح مصدر ابهام بامتياز وليس مصدر غموض، ولعل الكتاب المهم الذي ألفه وليام امبسون بعنوان سبعة أنماط للغموض يصلح دليلا للتفريق بين ابهام ينتج عن قصور وعجز في اللغة وجمالياتها وبين غموض ماسي ينتج عن فائض الجماليات وكثافة التعبير!وقد يبدو للقارئ المعاصر أن هجائيات جورج أورويل الشهيرة للنثر الانكليزي في النصف الأول من القرن الماضي تستحق أضعافها ونحن نقرأ نثرا عربيا يراوح بين التعويم والتعجيم، فهو بحجة مغادرة ما يسمي متردم النثر الكلاسيكي وليس متردم الشعر الجاهلي، يفرط في الوظيفية، وتحويل الجملة الي شبه جملة، وارخاء الأوتار حتي لا تستجيب للأصابع أو حتي للهراوات!وهنا يمكننا تحديد ثلاثة أسباب علي الأقل ساهمت في تردي النثر ونقلت عدواه الي الشعر وبالتحديد ما اصطلح علي تسميته بقصيدة النثر، وهي تسمية فاضحة لذهنية التعويم أيضا، لأنها تقيم فاصلا بين شعريتين علي أساس صوتي، هو الأوزان بالمعني الخليلي المعروف.السبب الأول، هو الترجمة التي يقدمها أناس يعانون من خلل جذري في اللغة الأم التي يتم النقل اليها، وقد يكونون ضليعين في اللغات التي يتم النقل منها، لكن هذا التحليق بجناح واحد لا يكفي، وقد لاحظنا كيف تتحول قصائد لبودلير وريلكة وبيرس وآخرين الي منفلوطيات ورافعيات عربية نسبة الي المنفلوطي والرافعي، واذا تخيلنا لوركا مثلا وقد بعث من قبره وقيض له أن يتقن العربية وقرأ قصيدته في رثاء المصارع فينحياس، فقد يعود الي قبره علي الفور معتذرا عن قيامته وعن شعره معا!ذلك ببساطة لأن لغته لم تفرض عليه الضرائب اللغوية والنحوية والوزنية التي فرضتها لغتنا من خلال المترجمين علي القصيدة، لأن بحر الرمل بتفعيلاته الغنائية وحاجته الي الافراط في استخدام أدوات الوصل لم يكن من صميم ذلك النص.ويصدق ما قلناه علي ت. س. اليوت وربما علي الثالوث الرومانسي كيتس وشيلي وكليردج، لأن بعض الترجمات العربية لهؤلاء، أعادت انتاجهم، بعد حذف الشعر من نصوصهم، لأن ما يقوله لوركا عن القصيدة باعتبارها أكثر من معني ومبني، أو من لحم وعظم، يصيب الحقيقة، فثمة فخاخ داخل العظم غالبا ما يجري تهريبه في الترجمة المحترفة!ہ ہ ہوالسبب الثاني، هو ما مارسته لغة الصحافة اليومية من تسطيح، واختزالية مخلّة بحجة التبسيط وايصال الأفكار الي القارئ العادي، وما نتج عن هذا السبب في صحافتنا الحديثة رغم توفر التقنية العالية، هو علي النقيض مما مارسته صحافة النصف الأول من القرن الماضي علي اللغة، لأن معظم من كانوا يكتبون للصحافة وأحيانا يؤسسونها في تلك المرحلة كانوا من الأدباء، والناشطين الفكريين، وحين سئل أديب يكتب للصحافة عما ربح وما خسر من هذه المهمة قال ان الأدب يسلف الصحافة ويتفضل عليها ولا يقترض منها، ولو شئنا اضافة شيء آخر الي ما قاله لقلنا إن الصحافة تحتاج بين وقت وآخر الي رفع مستوي نثرها وأدائها التعبيري وهذا لا يتم الا بتدخل كتاب لهم صفات ابداعية وأدبية.ان معظم الكتب التي أسست للحداثة في تلك الفترة كانت في الأصل مقالات متباعدة من حيث النشر لكنها متناغمة ومتسقة من حيث الأفكار، لهذا قلما نجد اليوم كاتبا يجمع مقالاته في كتاب ويكون ذا شأن، لأن المتفرقات اليومية، وذات الشجون المتباعدة والقائمة علي التعليقات وردود الأفعال الموسمية لا تصلح لاعادة النشر، الا اذا أصرّ أصحابها علي تأبيد أخطائهم واتاحة الفرصة للقارئ أن يعيد اكتشاف الهشاشة ورداءة اللغة وسطحية التناول.والسبب الثالث، هو الاستخفاف باللغة في نطاق ثقافي بلا حراس، وبلا سهر حقيقي علي أعز المقتنيات الروحية لأمة ما.. وهو لغتها، وقد يبدو المشهد مثيرا للاشفاق والاشمئزاز معا حين نسمع شاعرا يكتب باللغة العربية وهو يستعين في أحاديثه سواء كانت في المقاهي أو في أي موقف آخر بمفردات وتراكيب مستعارة من لغات أخري كالفرنسية والانكليزية، ونتعجب من هذا المشهد الكوميدي ثم نسأل أنفسنا لماذا لا يكتب هذا الضليع بلغة أخري شعره بتلك اللغة؟ أم أن متطلبات فولكلور الحداثة التي استبق منجزها لأول مرة في التاريخ يتطلب ذلك؟وما من موقف يفتضح هذه الشيزوفرانيا قدر تعلقها بالثقافة واللغة كموقف الشاعر الفرنسي من أصل لبناني وهو جورج شحادة الذي وصفه واضع أحد المعاجم الأدبية الفرنسية بأنه من سادة التعبير بتلك اللغة، فقد زار شحادة بيروت، وسمع من شاعر عربي يهاتفه عبارات ترحيب بفرنسية بائسة وسياحية، عندئذ غضب شحادة وقال لمهاتفه نصف المستشرق بانفعال أنه جاء الي بيروت لتعلم العربية، ثم علق بعد ذلك تعليقا ساخرا، عندما قال ان بعض الشعراء العرب يتحدثون الفرنسية في بلدانهم ويرطنون بالعربية في باريس، كي لا يضبطهم الناس متلبسين بالخطأ مرتين!ہ ہ ہأعترف بأنني خلال شهر واحد فقط، قرأت عدة دواوين شعرية صادرة حديثا عن دور نشر متباينة من حيث القيمة والشهرة وروايتين اضافة الي ثلاث مجموعات قصصية لأكتشف بأنني كنت أقرأ وبيدي قلم رصاص غالبا ما أستخدمه أثناء القراءة لأسباب أخري غير التصحيح…. ثم وجدت بأنني أنفقته حتي آخره وأنا أصحح ما أقرأ كما لو كنت أعمل في صحيفة أو دار نشر.. وأحصيت في ديوان شعري واحد ما يزيد عن سبعين خطأ بين النحوي واللغوي..أما القصص فان مجموعة صغيرة واحدة منها استحقت فريقا كي يقترف ذلك العدد من الأخطاء لأن كاتبا بمفرده لا يستطيع تحقيق مثل هذه المعجزة!!ہ ہ ہبقي أن نقول، ونحن نقرأ في هذه الأيام نعي مئات بل آلاف اللغات المنقرض منها والموشك علي الانقراض، إن اللغة العربية ليست محصنة الي الأبد ضد هذا المصير، اذا استمرت متوالية انتهاكها علي هذا النحو.ان لغة ينطق بها ربع مليار انسان، وتشكل أقنوما جذريا في كينونة، باتت في مهب الرطانة، وهي التي وصفها جاك بيرك بأنها ممهورة برسالة أنطولوجية، وثمة من يحسدون العرب عليها!لكن التفريط الذي شمل أرضا وسماء وتراثا وحقوقا وحريات.. لن تكون اللغة في منجي منه، حتي لو طوت في معاجمها بوليصات تأمين موقعة من امرئ القيس والجاحظ والمتنبي وطه حسين!!!ہ شاعر وكاتب من الاردن0