تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو (3)
جيرمي غرينستوك ممثل بريطانيا في نيويورك كان متشددا.. ويزعم أنه مهتم برفاه الشعب العراقيالحياة في العراق أصبحت كارثية.. لشباب صار عاجزا أمام العقوبات والدكتاتوريةتشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو (3)د. هانز كريستوف فون سبونيكہ يحكي هذا الكتاب الصادرة ترجمته حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عن قصة الحصار الطويل الذي فرض علي العراق قبل الغزو، وهي الفترة التي انتقل فيها العراق من مجتمع ثري، مجهز ببنية تحتية حديثة الي بلد مؤلف من شعب فقير ومحروم. ويتحدث الكاتب عن الثمن الباهظ لنظام العقوبات الشاملة، وعجز البرنامج الانساني بتعقيداته الروتينية والبيروقراطية وقيود الميزانية، وتصميم الدول دائمة العضوية في مجلس الامن علي عدم السماح للعراق باستعادة مقدرات سيادته – عن تحسين وضع المواطنين العاديين.جوهرة الشرق الأوسط الفاتنةلقد توارت جوهرة الشرق الاوسط الفاتنة، بغداد شهرزاد. اصبحت كتلة من المباني المتداعية، مدينة مجار مكشوفة وانابيب رئيسة للمياه محطمة، وارصفة مسدودة باكوام النفايات، وانقاض اشغال طرق غير منجزة، واعجاز اشجار مرصوفة علي الطرق كانت نخيلا وطلوحا زاهية في ما مضي. وقيل لي انها كانت وفيرة في اعوام سابقة وفي رعاية امانة العاصمة او بلدية بغداد الغنية. وفي طريقنا كنا نمر بمبان عسكرية ومطار مهجور ليس فيه سوي بقايا ما كان يسمي سلاح الجو العراقي. كانت هذه كلها شهادات علي مدينة تحت الحصار. كانت بغداد مدينة مضطربة الروح والفؤاد، مدينة بدا اهلها متداعين كالابنية التي كانوا يقطنونها وآثار التعب مرسومة علي وجوههم.لا سبيل الي وصف دقيق لصورة بغداد في عام 1998 من دون الاشارة الي الجزر المتألقة وقصور صدام حسين والمساجد الجميلة. وكان بعضها قد بني مؤخرا، وكان بتصميماته الهندسية الرائعة يشهد علي ان المهارة العراقية كانت لا تزال نابضة بالحياة. وكان هناك، طبعا، خلال كل لحظة من جولتنا بالسيارة، الحضور الكلي للزعيم العراقي في هيئة تماثيل وهو يرنو الي البؤس الذي يلاقيه شعبه. ولم يكن يمر اسبوع من دون ان ترفع فيه صورة جديدة لـ رئيس ام المعارك علي امتداد الطريق بين مكتبنا في فندق القناة وفندق قرطاج في الغاردية، حيث كنت اقطن. كان ينظر اليك كقائد عسكري او رجل رياضي او معلم او اب محاط باطفال او كرجل في لباس كردي او كزعيم قبلي او رجل دولة ـ وكانت الصورة الناقصة صورة صدام حسين بوصفه الطاغية. في الليل، كان الظلام يرخي سدولا من الغموض علي صورة البؤس والتناقض هذه. وكان انقطاع التيار الكهربائي يجعل عودتي الي شقتي رحلة بين مناطق غارقة في عتمة كاملة تتخللها اضواء باهتة دالة علي ضعف التيار ومناطق متلألئة بأنوار المباني الحكومية والقصور وبيوت من كانوا يملكون مولدات كهربائية. ولما كان كثير من طرق بغداد في حالة شنيعة، كنت محظوظا بوجود باسم خلف، أو ابو ليث كما كان معروفا لدي رفاقه، معي كسائق لي. فقيادة السيارة في بغداد كانت محفوفة بالمخاطر في اي وقت، وبأي مقياس من المقاييس، وخصوصا في ساعات الليل. كان يعرف مدينته جيدا ومع ذلك كان يتحدث غالبا عن نعيم الماضي الذي هجر بغداد. كان لديه في مخيلته خريطة بحفر الطرق، الامر الذي كان يعينه علي السير بنا بأمان في ارجاء المدينة. ولم يكن ذلك الحظ حليف الجميع بدليل عدد لا يحصي من السيارات التي انكسرت محاورها.طلبت الحكومة العراقية ان ينزل جميع موظفي الأمم المتحدة المكلفين بمهمات انسانية او مهمات نزع السلاح في 18 فندقا محددا. فأجهزة المخابرات العراقية ارادت ابقاءنا تحت المراقبة وخصوصا موظفينا العاملين في لجنة الامم المتحدة الخاصة (اونسكوم) كما ان الحكومة رفضت اماكن اقامة خاصة للموظفين في هاتين الفئتين ولم تسمح لعائلات هؤلاء الموظفين بالانضمام اليهم. وارادت السلطات التشديد علي ان موظفي الفئتين مكلفون فعلا بمهمات مؤقتة كما حددت في قرارات الامم المتحدة.كان فندق قرطاج، أو بيتي لمدة 17 شهرا، واحدا من اصغر فنادق الامم المتحدة علي الضفة اليسري من نهر دجلة. وكان القاطنون في نحو 20 شقة صغيرة في هذا الفندق رجالا ونساء اما عاملين في برامج انسانية واما مشاركين في انشطة نزع السلاح المتنوعة المعهودة الي لجنة الامم المتحدة الخاصة (اونسكوم).لا ادري كيف كان شعور زملائي حين رجعوا الي فندق قرطاج في المساء. فرغم الفوارق في الخلفيات الثقافية ومستوي التدريب الاحترافي والمراتب والخبرات في الشؤون الدولية والمواقف من الكوارث الانسانية، كانت ثمة جوانب من الحياة مشتركة بيننا. وعلي سبيل المثال، الضغط، الذي لم يسلم منه احد، وادراك اننا مشاركون في تجربة ضخمة ومثيرة وفريدة من تجارب العلاقات الدولية. وهذه الحقيقة اكدت، لي علي الاقل، اهمية ايجاد الفسحة لـ هضم مجريات النهار والتفكير مليا في ما قد يأتي.كنت في اي وقت ادخل فيه عالم شقتي الخاص احمل محافظ اوراق مملوءة قصاصات صحف، وتقارير، ورسائل من الحكومة العراقية والامم المتحدة في نيويورك، وهي لم تصرف انتباهي ولم تثنني عن اقتطاع فترة من الوقت للتفكير مليا في مسائل اوسع او في اسباب وجودي في العراق او في المقاربة التي اختارتها الامم المتحدة. كانت فترات المساء طويلة وكان في امكان المطالب الآنية ان تنتظر. وكان اشد ما يشغلني خلال تلك الفترات في الاسابيع الاولي من وجودي في بغداد:ـ فهم دوافع وديناميات تعامل اعضاء مجلس الامن الخمسة عشر مع برنامج انساني للعراق من الواضح انه كان في اقسي حالات الافتقار، من الناحيتين المالية والموضوعية.وكان يمكن تحدي مجلس الامن بحقيقة ان الوضع الانساني العام كان في نهاية المرحلة الرابعة في تشرين الثاني/نوفمبر 1998 علي النحو الذي جعل القرارات المتعلقة بالعراق في تصادم متزايد مع ميثاق الامم المتحدة. وقد كان يفترض ان تكون تسوية النزاعات الدولية، وهي متطلبات القانون الدولي، قائمة علي مبادئ العدالة ومنسجمة مع اهداف الامم المتحدة؛ فهل كان الوضع الانساني في العراق قائما علي العدالة وهل كانت المرحلة الخامسة من برنامج النفط مقابل الغذاء متوافقة مع اهداف الامم المتحدة؟ ليس في إمكان مجلس الامن التذرع بجهله للأمور ما دامت تقارير الامم المتحدة وتقارير اخري اوضحت مرارا ان مجلس الامن كان يخذل الشعب العراقي بخسائر لا تعوض كان يسببها لرفاهة هذا الشعب. ولا يمكن ايضا القاء المسؤولية كلها علي حكومة صدام حسين كما ألمحت بعض الحكومات.يعكس تقرير الامين العام عن فترتي الـ081 يوما الرابعة والخامسة من برنامج النفط مقابل الغذاء ما يلي:(1) المدفوعات الي لجنة التعويضات التابعة للامم المتحدة، والبالغة 926 مليون دولار حتي عام 1998، كان يمكن تجميدها خلال عجز عوائد المرحلة الرابعة/الخامسة، من دون نقض حقوق المطالبين بالتعويضات، واضافة المبلغ الي ميزانية برنامج النفط مقابل الغذاء.(2) كان من شأن محض آلية المراقبة الدولية في العراق الثقة ان تنفي الحاجة الي عرقلة استقدام امدادات انسانية بقيمة 212 مليون دولار خلال المرحلة الخامسة. وكان هذا وحده كفيلا بأن يضيف مبلغا محترما لشراء سلع مطلوبة في العراق.(3) كان في إمكان آلية شراء اقل بيروقراطية ان تحسن معدلات التسليم المتدنية.تُظهر جملة المعطيات هذه ان تنفيذ المرحلة الخامسة لم يكن يجري علي ما يرام. وهذا ما تؤكده مواصفات القطاع وتحليلاته. ومع ذلك، تبقي صورة البؤس مشوشة الي ان يخطو المرء خطوة اخري ويفككها نزولا الي مستوي الافراد العراقيين ومعدل مساهمة المرحلة الخامسة من برنامج النفط مقابل الغذاء في حيواتهم. وما يبرز من اجل مساهمات مرسومة وفعلية لتأمين معيشة كما كان متوقعا في قرارات الامم المتحدة، يعكس واقعا مرعبا حقا. خلال المرحلة الخامسة، اصبحت امدادات صحية بقيمة 5.80 دولارات متوفرة لكل شخص، و1.60 دولار للمياه والمرافق الصحية، و4.10 دولارات للزراعة، و2.50 دولار للكهرباء، ودولار واحد للتعليم، و36.70 دولارا للمواد الغذائية.غياب الإرادة الإنسانيةوقد كان لغياب الارادة السياسية والحس الانساني لدي جميع المعنيين شأن كبير في المخصصات غير الكافية من الموارد المالية التي حددها مجلس الامن، والحكومات العراقية الي حد اقل كثيرا، لابقاء شعب حيا وموفور الصحة. وكان اعتبار مساعدة الشعب العراقي علي الخروج من بؤسه بالتدرج طريقة غير مباشرة لتقوية النظام العراقي وترسيخه كقوة نجحت في الوقوف في وجه قوي عظمي. ولم تكن حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا مستعدتين لمساندة احكام القانون الدولي لقاء ثمن كهذا.كنت كلما زرت نيويورك اجد اعضاء مجلس الامن مفرطين في التعبير عن اهتمامهم برفاه الشعب العراقي. وكان متشددون، امثال ممثل بريطانيا الدائم السير جيريمي غرينستوك ونائبه، بخاصة، السفير الدون وكذلك نائب الممثل الامريكي الدائم كانينغهام، يضيفون عبارة اخري جاهزة: ان عذاب الشعب العراقي مرده كليا الي صدام حسين . ان قصة العراق ـ كما تكشفت امامي خلال المرحلة الخامسة ـ كانت بالتأكيد اكثر تعقيدا من ذلك. وكانت نسبة مسؤولية البؤس الي طرف واحد امرا غير صحيح ببساطة؛ فقد كان في استطاعة الحكومة، بل كان ينبغي لها ان تفعل المزيد كي تخصص نصيبا اكبر من الدخل الذي جنته من مبيعات النفط خلافا لآلية عقوبات الامم المتحدة لمصلحة الشعب العراقي المباشرة. وعلي عكس المزاعم الامريكية ـ البريطانية المتكررة، لم يكن لدي الحكومة العراقية مبالغ ضخمة لسد الفجوة بين سوء الحال وحسن الحال. اما الدخل الاضافي المقدر بمليار ـ مليار ونصف مليار دولار، فكان من شأنه ان يحدث فارقا.كان في امكان مجلس الامن اجراء تغييرات اساسية في سياسة العقوبات، وبخاصة في ما يتعلق بآلية التمويل. وكان يمكن لتعديلات اضافية من النوع الذي ظهر في تنفيذ المرحلة الخامسة ان تحدث فارقا حقيقيا بالنسبة الي الشعب العراقي. بيد ان حالة عوز الشعب العراقي قادت فعلا الي استياء متزايد وضغط من اجل التغيير بين معظم اعضاء مجلس الامن. وكان من الاصوات المعبرة عن القلق صوت وزير الخارجية الكندي لويد اسكورثي. ففي عام 1999، أعرب مرارا عن قلق حكومته الشديد حيال التأثيرات الانسانية السلبية للعقوبات. واهم من ذلك هو انه تحلي بالشجاعة ليقول في مجلس الامن: انه لأمر اساسي ان تعكس العقوبات اهداف المجتمع الدولي لا مجرد المصالح القومية لأقوي اعضائه ! وفي آخر الامر، كان للمبادرة الكندية الفضل في ان يعلن مجلس الامن في 30 كانون الثاني/يناير 1999 اقامة مراجعة بشأن العراق. وتم تعيين ثلاث مجموعات خبراء معنية بنزع السلاح، واسري الحرب والمفقودين الكويتيين، والوضع الانساني، وذلك تحت رئاسة السفير وممثل البرازيل الدائم في الامم المتحدة في نيويورك كيلسو اموريم. وكانت هذه انباء سارة لنا نحن في بغداد.ملتُ وزملائي من موظفي الامم المتحدة في بغداد الي الاعتقاد بأن ملاحظاتنا وتقاريرنا ومحادثاتنا الهاتفية وزياراتنا الي الامم المتحدة ساهمت في هذا التطور. وكانت تلك هي المرة الاولي التي وافق فيها مجلس الامن علي اجراء تقدير خاص للوضع الانساني في العراق. هل كان هذا بداية جديدة واكثر مسؤولية لتفويض المجلس بالاشراف علي العراق ام مجرد مراجعة لمرة واحدة ولغرض معين هو تلبية مطالب عدد متزايد من الحكومات والشعوب في العالم العربي واوروبا وافريقيا التي شعرت بأن العقوبات المفروضة علي العراق اضحت لا تطاق؟ لقد اصبح في امكاني ان انقل الي هيئة مجلس الامن مشاعر القلق من سياسة الامم المتحدة الفاسدة بشأن الحصانة الانسانية للعراق. كان هناك مشاعر هياج في اوساط الامم المتحدة في بغداد. من سيعمل عضوا في الهيئة؟ متي ستبدأ جلسات الاستماع؟ كيف ينبغي لنا الاعداد لها؟كان امر واحد واضحا: ان نضع تقريرا مشتركا يركز فيه كل جهاز للامم المتحدة علي تفويضه واهتماماته الخاصة ضمن سياق برنامج النفط مقابل الغذاء. كان لا بد من استغلال هذه الفرصة الفريدة علي أحسن وجه للمطالبة بتغيير وجعل تورط الامم المتحدة اقل صبغة تأديبية. وقد ساعدت هذه الانباء في تخفيف التوتر الذي اصابنا عقب اربع ليال من القصف العنيف في كانون الاول/ديسمبر خلال عملية ثعلب الصحراء . وكان مما أجج التوتر القرار الذي اتخذته الحكومة العراقية في 4 كانون الثاني/يناير 1999 للطلب الي الامم المتحدة سحب الموظفين الذين هم من التابعيتين الامريكية والبريطانية ما دامت السلطات العراقية ستكون غير قادرة علي ضمان امن مواطنين من هذين البلدين .كانت مجموعة كبار موظفي الامم المتحدة في بغداد مؤلفة من اشخاص متفاعلين للغاية. كنا نلتقي بانتظام، وكنا مرتاحين بعضنا الي بعض رغم بروز خلافات احيانا حول جوانب محددة للسياسة. وعزز اعلان انشاء هيئة انسانية في نيويورك من التآلف في ما بيننا. كنا تواقين الي مناقشة استراتيجية من اجل الاعداد لمساهمتنا. وجبات طعام مشتركة، زيارات متبادلة في المكاتب، لقاءات تجمع كل ممثلي الامم المتحدة… هذه كلها وسمت تلك الايام في بداية شباط/فبراير 1999. كان واضحا لنا في مكتب منسق الشؤون الانسانية ومنظمة الاغذية والزراعة واليونيسيف وبرنامج الاغذية العالمي وبرنامج الامم المتحدة للتنمية ومنظمة الصحة العالمية واليونيسكو ان علينا ان نضع معا وثيقة مقنعة بشأن الاحوال الاجتماعية في العراق.وكان هناك اجماع بيننا علي وجوب جمع مواد لم يكن لها قط اي مكان في التقارير التي كان يُطلب منا عادة تحضيرها لنيويورك. وتلا ذلك فريق عمل ممتاز وتقاسم ملائم للعمل. واطلق الغياب المفاجئ (والسار!) لأي توجيه من مكتب برنامج العراق في الامم المتحدة حرية التصرف في اعداد هذا التصنيف الهام حول الوضع الانساني في العراق. وفي مقدمة الوثيقة اوضحنا اننا مهتدون بالمبادئ الاساسية كشمولية حقوق الانسان وعدم قابليتها للتجزئة وباطلاعنا اليومي علي المشكلات الخطرة التي يواجهها الشعب العراقي وعليه ان يجابهها . وعلي الرغم من ضيق الوقت وبعض النقص في بيانات جُمعت حديثا وبدقة ونقص في الاختصاص في بعض المجالات، كما في مجال الحكم علي مدي وقوة الاقتصاد الموازي (غير المشروع)، فقد استطعنا ان نضع مجتمعين ملخصا يشمل معظم القضايا الاجتماعية التي كانت تشغل بالنا بفعل خطورتها. ومن سوء الحظ اننا لم نكن نملك امكانية تقديم صورة عن حياة الاسرة العراقية العادية. كنا نعرف لماما ظروف المعيشة الوضيعة والعنف المنزلي بسبب البطالة، والزيجات المؤخرة بسبب قلة المال، وحالات المرض المتكررة بسبب سوء التغذية، واوضاع الوقاية الصحية المتدهورة والنقص في الادوية. هذه كلها شكلت مشكلات كبري كان علي معظم الاسر العراقية مواجهتها. والي جانب الوقت وعدم وجود اشخاص مدربين تدريبا مناسبا، وهو ما منعنا من تقديم هذا الموضوع الي مجلس الامن، كان يمكن، علي الارجح، ان تصدر عن الحكومة اعتراضات علي تحقيق كهذا. وعلي نحو مماثل، كنا نعرف ان البغاء ينتشر باطراد في مدن عراقية، وخصوصا في بغداد. وقد ذكر لي السفير البابوي الأسقف يوسيب لازاروتو، مثلا، حقيقة ان بيتا للدعارة نشأ خلف مقره الرسولي. ورويت لنا حكايات ايضا عن طالبات جامعيات كن يعملن مومسات كي يعلن حياتهن الدراسية. وكان هذا الامر من الحساسية في مجتمع مسلم بحيث لم يُعرف عنه سوي القليل. وفي اي حال، لم يكن اعطاء اذن باجراء بحث كهذا ممكنا علي الاطلاق.في مذكرتي الي السفير اموريم، نقلت اليه ان للاوراق الفردية التي ارسلناها عدة سمات مشتركة، منها:ـ عدم كفاية الموارد المتاحة لصيانة المستويات الدنيا من الحالة المادية والذهنية للمواطنين العراقيين.ـ القصور الخطر في فرص الحياة للشباب العراقي.ـ التأثير الاضافي لأعوام العجز وظروف الحياة المغلولة.ـ علامات استنفاد قدرات المواطنيين العاديين علي تدبر امورهم بطرق شريفة ومحترمة.وقّع موظفو الامم المتحدة في بغداد الوثيقة جميعا وارسلتها انا بالنيابة عنا في نهاية آذار (مارس) 1999 الي رئيس هيئة مجلس الامن للقضايا الانسانية السفير اموريم. وشعرنا بأننا قمنا بعمل جليل نيابة عن الشعب العراقي. وما كان في وسع احد، لا في مجلس الامن ولا في الهيئة الانسانية، ان يسيء فهم او حتي يسيء تقدير خطورة الرسالة التي بعثنا بها. لقد كانت رسالة بسيطة: اصبحت الحياة بالنسبة الي العراقيين كارثية، والتمويل قليل جدا وبلا داع بحيث لا يكفي احداث تغيير مهم، والشباب بات محط اقسي العقوبات واصبح اعجز من ان يواجه الحياة نتيجة العقوبات والدكتاتورية. في آذار/مارس 1999، قدم السفير اموريم تقريره الي رئيس مجلس الامن. وادركنا في بغداد من ملاحظاته الشفوية الي المجلس وتصريحاته للصحافة ومن تقريره نفسه الي الهيئة، وهذا هو الأهم، ان رسالتنا فُهمت. وغدا السفير اموريم واعضاء الهيئة مقتنعين بخطورة الحالة الانسانية ومستعدين لمشاطرتنا قلقنا.وقد كان التقرير، من اوجه عدة، وثيقة نموذجية للامم المتحدة وذات ميل الي ان تكون دبلوماسية: رغم انه ينبغي ان لا تتجنب الدول الاعضاء المسؤولية الجماعية حيال الحاجات الانسانية العراقية الماسة، فان هذا لا يعفي الحكومة العراقية من مسؤولياتها… . الا ان زبدة الكلام خاطبت القضايا الجوهرية بلغة بسيطة ومع تحذير واضح أشير به الي مجلس الامن: حتي لو ان من غير الممكن نسبة كل المعاناة في العراق الي عوامل خارجية، وخصوصا العقوبات، ما كان الشعب العراقي ليقاسي مثل هذا العوز في غياب الاجراءات المطولة المفروضة من مجلس الامن وآثار الحرب . وتابع التقرير: لكن حتي لو توفرت جميع الامدادات الانسانية باسلوب مناسب من حيث التوقيت، فما كان في وسع البرنامج الانساني، والحق يقال، ان يلبي اكثر من جزء من حاجات الشعب العراقي ذات الاولوية. ان خطورة الوضع الانساني للشعب العراقي امر لا مشاحة فيه ولا يمكن المغالاة فيه .كانت توصيات الهيئة متفقة كليا مع ملاحظات فريق الامم المتحدة في بغداد ومطالباته من اجل التغيير. فقد طلبنا ان يقوم مجلس الامن، من بين امور اخري، بأن يوافق علي تقديم دعم مالي اضافي، ورفع سقف النفط، والسماح في الوقت نفسه باعادة تأهيل صناعة النفط، وتقديم دعم مالي تكميلي خارج برنامج النفط مقابل الغذاء ، والاستعارة من مخصصات العراق للجنة التعويضات التابعة للامم المتحدة (UNCC) او بالاحري، خفض نسبة الاموال المخصصة لهذه اللجنة، والافراج عن الاصول المجمدة، وتنفيذ شراء مواد طبية وزراعية وصيدلية وغذائية وتعليمية اساسية من دون انتظار موافقة لجنة العقوبات، والموافقة علي مكونات نقدية من اجل مناطق تحت سيطرة بغداد، والسماح بمشتريات محلية، وعدم التضييق علي الرحلات ذات العلاقة بالحج. وقد دُعيت الحكومة العراقية الي تحسين ادائها من اجل تسريع عمليات توزيع الامدادات الانسانية، وخصوصا الادوية، لتوفير عون افضل للمهجرين في مناطق خاضعة لسيطرتها ورفع مستوي رعايتها للمجموعات الضعيفة كالعجزة والمرضي عقليا واطفال الشوارع. وقبل صدور تقرير الهيئة توجهت الي نيويورك للمثول امام الهيئة.وصلت الي مقر الامم المتحدة في 21 شباط/فبراير 1999 وكانت هذه اول زيارة اياب الي نيويورك منذ ان غادرت مقر الامم المتحدة في اوائل تشرين الثاني/نوفمبر 1998 متجها الي بغداد. وقد حدثت امور كثيرة خلال الاشهر الاربعة اللاحقة؛ فبرنامج النفط مقابل الغذاء مدد في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر لستة اشهر اخري. والحكومة العراقية طلبت من موظفي اونسكوم الرحيل من العراق في اواخر تشرين الاول/اكتوبر ولكن سُمح لهم بالعودة في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر. وشهد كانون الاول/ديسمبر اربع ليال من الضربات الجوية الانكلو ـ امريكية. وطلبت الحكومة العراقية من الامريكيين والبريطانيين العاملين مع الامم المتحدة في العراق مغادرة البلد في كانون الثاني/يناير. وقرر مجلس الامن الدعوة الي اجتماع ثلاث هيئات بشأن اسلحة الدمار الشامل والمفقودين الكويتيين والوضع الانساني في العراق.كان هناك الكثير لمناقشته خلال وجودي في نيويورك. اولا كان ثمة مناسبة لتقديم اقوي ما يمكن من براهين تدعو الي احداث تغييرات جوهرية في تنفيذ مهمة الامم المتحدة الانسانية في العراق الخاضع للعقوبات. وكانت الاولوية عقد لقاء مع الهيئة.في مطلع شباط (فبراير)، كان رئيس المجموعات السفير اموريم قد اعلن تأليف المجموعة الانسانية. وقد تضمنت تلك المجموعة سيرجيو فييرا دي ميلو، الامين العام المساعد لمكتب الشؤون الانسانية؛ جوزف ستيفانيدس، مدير قسم شؤون مجلس الامن؛ بينون سيفان، المدير التنفيذي لمكتب برنامج العراق؛ وستافان دي ميستورا، الذي كان آنئذ مديرا لمركز اعلام الامم المتحدة في روما. وكان هؤلاء كلهم ملمين بمعضلة العقوبات. وسبق لستافان دي ميستورا ان خدم في العراق لفترة وجيزة كمنسق للشؤون الانسانية قبل ان يتم تأسيس برنامج النفط مقابل الغذاء. وقد املت بأن تتضمن الهيئة لا موظفين من داخل الامم المتحدة فحسب وانما بعض الغرباء ايضا. فقد كان هناك الكثير من الاشخاص الواسعي الاطلاع في منظمات، مثل اوكسفام (OXFAM) و انقذوا الاطفال/ بريطانيا (save the Children/UK) و كير (Care)، تستطيع تقديم رؤية اشمل وربما اجرأ. فمسؤولو الامم المتحدة لم يكونوا احرارا في تقديراتهم كما الاشخاص الذين يشاركون من خارج الجهاز. وفي نهاية الامر، لا يستطيعون تجاهل ان لهم علاقة تبعية لمجلس الامن، أي المؤسسة نفسها التي كانت احد الفرقاء الذين كانت سياساتهم قيد الفحص الدقيق.مثلت امام المجموعة في 24شباط (فبراير) 1999. وكان اللقاء في غرفة اجتماعات صغيرة وبلا نوافذ في الطبقة السفلية من مبني الامانة العامة للامم المتحدة. وقد اضاف ذلك سمة كئيبة الي الموضوع الكئيب الذي شغلنا فترة طويلة من بعد الظهر. وكان هناك امر وهمي وخفي حول ذلك الاجتماع. بعيدا عن العراق مسافة 8000 ميل تقريبا وخلف ابواب موصدة، كنا نراجع محنة امة والدور الذي لعبته حكومة دكتاتورية والامم المتحدة في انشاء هذه الظروف. لخصت مضمون تقرير الامم المتحدة من بغداد الي الهيئة: من دون مزيد من الاموال، واجراءات لرفع المعوقات البيروقراطية عن مشتريات الامدادات الانسانية، وثقة اكبر في قدرة فريق الامم المتحدة علي مراقبة توزيع هذه الامدادات، والخفض الملازم لحجم المواد المعرقلة من مجلس الامن، فان المعاناة البشرية في العراق ستزداد حدة. ولا يسع الامم المتحدة التهرب من تحمل جزء من اللوم! .بينما كنت اتكلم، جعلتني لغة اجساد اعضاء المجموعة وحث رئيس المجموعة لي علي الاسهاب ونوع الايضاحات التي طُلبت، اطمئن الي ان معظم اعضاء الهيئة يريدون الوصول الي حقيقة القصة.الشعب يعانيواظهر تقرير المجموعة النهائي الذي قدمه السفير اموريم الي مجلس الامن ان قيود اصحاب النفوذ في الامم المتحدة لم تحل دون تعليقات قوية علي الوضع الانساني الذي لا يطاق. ونقل التقرير رسالة سياسية واضحة، الي مجلس الامن بشكل رئيس، لكن ايضا الي الحكومة العراقية: الشعب يعاني، وعلي الاطراف كافة فعل شيء ما في هذا الشأن! وقد ارتحت عندما ادركت ان تحفظي علي تركيبة اصحاب النفوذ في المجموعة لا اساس لها، الي حد بعيد علي الاقل.مرت شهور عدة قبل ان يتخذ مجلس الامن اجراء تجاه توصيات المجموعة المحددة، وخصوصا تجاه قضايا زيادة الموارد وتسهيل تدفق الامدادات الانسانية. ففي تشرين الاول/اكتوبر 1999، اجاز مجلس الامن متأخرا ولمرة واحدة، صفقة بيع اضافية للنفط العراقي بقيمة 3.04 مليارات دولار للتعويض عن النقص الذي اعتري العوائد في المرحلتين الرابعة والخامسة. وسُمح لبرنامج انساني كان متدني التمويل ثم أُنقص ذلك التمويل بفعل انخفاض عوائد النفط علي نحو غير متوقع خلال 1998/1999 بأن يولد موارد اضافية بعد عام من انتهاء المرحلة الرابعة في تشرين الثاني/نوفمبر 1998. وأياً تكن الاسباب، سياسية ام بيروقراطية ام سياسية وبيروقراطية معا، كان هذا تسويفا مكلفا من حيث الخسارة البشرية. ولو كان مجلس الامن يريد جهاز انذار مبكر لما انتظر عاما كاملا.وظل الوضع علي حاله الي ان تبني مجلس الامن القرار الخلافي 1284 في 17 كانون الاول/ديسمبر 1999، اي قبيل انتهاء الدورة الرابعة والخمسين للجمعية العامة، وقبل بعض توصيات المجموعة الانسانية وجعلها ضمن القرار. فبدلا من تبني هذه التوصيات خارج قرار رسمي وتنفيذها بالسرعة التي كانت تستحقها، انتظر مجلس الامن فترة طويلة. وقد سُيست التوصيات آنئذ بان جُعلت ضمن قرار تال للقرار 687 بتاريخ نيسان/ابريل 1991 الذي ربط مرة اخري بين العقوبات الاقتصادية ونزع السلاح. فما كان من الحكومة العراقية الا ان سارعت الي ادانة القرار.وفي نشرة صحافية بعنوان لماذا نفرض قرار مجلس الامن 1284 ، انتقدت وزارة الخارجية القرار قائلة ان مطلب العراق برفع الحظر لم يلب؛ والقرار شكّل اعادة كتابة للقرار 687 (1991) باسلوب منحاز وغير قانوني ؛ والقرار يهدف الي اعادة لجنة خاصة (اونسكوم) برداء جديد… كي تستأنف انشطتها المخابراتية و العراق لن يقدم له اي شيء غير تعليق (العقوبات الاقتصادية) . ولا بد ان الدكتور بليكس، رئيس انموفيك (UNMOVIC)، ارتاح الي ان القرار 1384 اوضح، خلافا لقرارات سابقة، ان مفتشي الامم المتحدة سيكونون موظفين رسميين دوليين من اختياره وستدفع الامم المتحدة رواتبهم من مخصصات النفقات المقتطعة من عوائد النفط العراقي. لن يعود هناك مفتشون معارون من حكومات ويتلقون رواتبهم عنها. ومن شأن هذا ان يقلص الفرصة امام حمل مخابرات علي الظهور من الجانبين كما سماها.لخص استاذ عراقي في جامعة بغداد الرفض العام في العراق لهذا القرار باستشهاده بمثل معروف في الشرق الاوسط: تمخض الجبل فولد فأرا! فالعراقيون ببساطة رأوا القرار 1284 في الفقرة 22 علي انه يعني ان العقوبات سترفع حالما يكون العراق قد أتم جميع الاجراءات المدروسة… فقد حدد القرار 1284 ان العقوبات سوف تعلق فقط لمدة 120 يوما قابلة للتجديد من قبل المجلس اذا اثبت العراق انه لم يحز مواد محظورة خلال تلك المدة. ومرة اخري حرم ادراج توصيات المجموعة الانسانية في القرار 1284 الشعب العراقي من حدوث تحسن فوري في حالتهم. سعد الدكتور هانز بليكس كثيرا بهذا القرار لأن العقوبات يمكن تعليقها بدلا من رفعها… في مقابل تعاون مؤكد بـ تقدم في قضايا نزع سلاح (رئيسة) ـ بدلا من سائر قضايا نزع السلاح . من موقعه كخبير بنزع السلاح استطعت تفهم ردة فعله. الا ان استنتاجي كان مختلفا تماما. لقد بقيت العقوبات الاقتصادية الشاملة ونزع السلاح مرتبطة بالقرار 1284 بصورة معقدة وجميع التوصيات التي رفعتها مجموعة اموريم ورفعناها نحن في بغداد لتحسين الظروف الانسانية كانت معلقة الي ان ترضي الحكومة العراقية المجلس في ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل. لهذا السبب بالذات لم استطع مشاطرة الدكتور بليكس معارضته. فالقرار هذا كان بالتأكيد في غير مصلحة شعب بأمس الحاجة الي العون.لم تكن جلسات استماع مجموعة اموريم هي وحدها التي ابقتني مشغولا خلال الاسبوع في نيويورك. كانت هناك لائحة طويلة من الاشخاص الذين التقيتهم. وقد تضمنت اللائحة مساعد الامين العام لمكتب خدمات الاشراف الداخلي، الدكتور كارل باستشيكه، الذي ناقشــــته في قضايا تدقيق حسابات برنامج النفط مقابل الغذاء، وهي قضايا معقـــــدة. وكان يخالجني شعور قوي بوجوب ان يكون هناك تدقيق متكامل في حسابات ذلك البرنامج الذي تبلغ نفقاته عدة مليارات من الدولارات والشامل لجميع اجهزة الامم المتحدة المشاركة بالاضافة الي مراجعات لمكونات فردية. لم يكـــــن ثمة تدقيق من هذا القبيل، الامر الذي استحال معه الحصول علي مراجــــعة مدققة لبرنامج النفط مقابل الغذاء ككـــــل. اضف الي ذلك انني لم اكن راضيا عن نوعية التدقيق الخارجي للحسابات؛ فالاوقات الذي كان المدققون يمضونها معنا كانت قصيرة جدا، وتقاريرهم كانت سطحية. في فترات دورية اعتقدت الحكومة العراقية ان لديها السبب لاعلان اعضاء هيئة الامم المتحدة اشخاصا غير مرغوب فيهم لارتكابهم عددا من المخالفات المزعومة بدءا بالتقاط صور فوتوغرافية للقصور الرئاسية وانتهاء بتصوير قطع اثرية او اقتحام برامج كمبيوترية او الاقتراب من مناطق غير مصرح المرور بها، بما فيها المنشآت العسكرية.7