تدمير مسجد سامراء: الاسباب والنتائج
د. سعيد الشهابيتدمير مسجد سامراء: الاسباب والنتائجأهو بروفة لتدمير المسجد الأقصي؟ ربما.. أهو محاولة لصرف الانظار عن الرسوم المسيئة لرسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام؟ ليس مستبعدا. أهو عمل يهدف لتوفير ذريعة البقاء للقوات التي تحتل العراق؟ تفسير معقول. أهو عملية نوعية من تخطيط وتنفيذ بقايا النظام السابق في اطار العمل لزيادة تأزيم الوضع ومنع التقارب السياسي بين ابناء الطائفتين المسلمتين الكبريين؟ أمر منطقي. أم انه تنفيذ عملي لتهديدات الزرقاوي بالحرب ضد المسلمين الشيعة؟ قد يكون الامر كذلك. ان أيا من هذه التفسيرات ليس مستبعدا تماما، فكلها منطقية تجد لها مصاديق واقعية في بلد تعددت فيه الفرق اللاعبة، ولم يغب عنه الا منطق العقل والحكمة. فما الذي يمثله صرح تاريخي حضاري لأي من الاطراف المذكورة من قيمة عسكرية؟ مع ذلك فقيمته الروحية لدي قطاع واسع من ابناء العراق هي التي جعلته هدفا للذين ارتكبوا جريمة التفجير. ولا شك ان الذين قاموا بذلك كانوا يدركون تبعاتها، ويعلمون انها ستكون واحدة من أخطر القضايا، وانها سوف تؤدي الي ما أدت اليه من اضعاف الصف الوطني العراقي، وأثارت شبح حرب أهلية تعمل أطراف عديدة لاشعالها. فلم يعد سرا القول بان هذه الاطراف تسعي لاثارة الفتنة بين ابناء الوطن والواحد، وتسعي لمنع التآلف او التحالف في ما بينهم، لان وحدة الشعب العراقي بمثابة الصخرة التي تتحطم عليها آمال الطامعين والكائدين لهذا البلد العربي المسلم العملاق. ونظرا لحساسية القضية وتعقيداتها، يمكن القول باستحالة القبض علي منفذي جريمة الاربعاء 22 شباط (فبراير) 2006، التي استهدفت أكبر قبة ذهبية في العراق، وحولت البناء الذي يحملها الي ركام، تلك القبة تضم رفاة امامين من ائمة المسلمين، علي بن محمد الهادي ونجله، الحسن بن علي العسكري، عليهما السلام، وهما من سلالة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.الضريح الكبير شهد مراحل عديدة من التطوير منذ ان بناه ناصر الدولة الحمداني في العام 333 من الهجرة. فقد أدخل الامير أرسلان في العام 444 من الهجرة فن التذهيب عليه. وساهم خلفاء عباسيون في صيانة مبني الحرم. فقام الناصر العباسي بتجديد القبة والمآذن في العام 606 هجرية، وأجري المستنصر اصلاحات واسعة في مبني الضريح بعد الحريق الذي حدث فيه في العام 640 هجرية. وتواصلت اعمال الاصلاح والتجديد عبر العصور. وبالتالي فالحرم لم يكن خاصا بفئة دون أخري، بل كان صرحا اسلاميا شامخا، وجامعا تقام فيه الصلاة وتدرس فيه علوم الاسلام. فهو، علي أقل تقدير، قطعة أثرية معمارية تستحق التخليد لانه جزء من تراث العراق والاسلام، وقد اعتادت الامم الاهتمام بتراثها والانفاق عليه لابقائه شاهدا علي حضاراتها. فاهرامات الجيزة تحكي تاريخ الفراعنة وما تزال موضع دراسة العلماء والباحثين الذين يسعون للتعرف علي حضارة الماضي من أجل بناء حضارة اليوم والغد. والمعالم الاثرية في البلدان الاخري تحظي برعاية خاصة من السلطات في تلك البلدان. وفي العقود الاخيرة ازداد الوعي الانساني باهمية التراث التاريخي باعتباره ليس ملكا لقوم بعينهم بل للبشرية كلها، فدخلت اليونيسكو علي الخط وقامت بتسجيل آثار العالم وأضفت عليها أهمية تمنع الآخرين من الاضرار بها. فهي آثار محمية لا يجوز المساس بها بأي شكل او في أي حال. اما القيمة الدينية لضريح سامراء فتنطلق من كونه قبرا لامامين مقدسين لدي طائفة كبيرة من المسلمين، فهو بالتالي رمز مرتبط بعقيدتهم، ويعتبر التعرض اليه اعتداء علي تلك العقائد. فماذا سيكون رد المسلمين فيما لو تعرض بيت الله الحرام، لا سمح الله، لاعتداء من أحد؟ وماذا سيكون الموقف لو تعرض قبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لتفجير او اضرار، مهما كانت الدوافع والاسباب؟ فاذا كان العالم الاسلامي قد هب من أقصاه الي أقصاه، للاحتجاج ضد الاساءة لرسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، فماذا سيكون رد فعله لو تعرض قبره لاعتــداء مماثل؟ في العام 1992 قام المتطرفون الهندوس في الهند بهدم المسجد البابري في مدينة أيوديا، بحجة انه أقيم علي أنقاض معبد للاله راما . وكان ذلك المسجد قد بني في عهد الملك المسلم بابور في القرن السادس عشر، وقيل ان قائد قواته، مير باقي، قام بهدم معبد هندوسي يمثل مكان ولادة الاله راما وضج العالم من تلك الجريمة التي ما تزال ذيولها مستمرة حتي اليوم. وقد اعتبر ذلك العمل اجراما وعدوانا لانه أثار مشاعر المسلمين في انحاء العالم، وسقط عشرات القتلي من المسلمين الهنود في الاحتجاجات التالية. وعندما قامت حكومة طالبان الافغانية قبل خمسة اعوام بتدمير تمثالين لبوذا في مدينة باميان، ضج العالم بسبب ذلك، واعتبر ذلك العمل استفزازا لمشاعر البوذيين الذين يقدسون ذلك التمثال. وسعت منظمة المؤتمر الاسلامي لمنع ذلك العمل بارسال وفد الي قندهار، معقل الملا عمر، زعيم الحركة، لاقناعه بالعدول عن قرار التدمير، ولكن بدون جدوي. وتجدر الاشارة الي ان الاسلام أمر أتباعه بالمحافظة علي دور العبادة التابعة للديانات الاخري. وثمة رواية مشهورة بان الخليفة عمر بن الخطاب رفض الصلاة في كنيسة القيامة قائلا ان صلاته فيها قد يتخذها البعض لاحقا ذريعة للمطالبة بأرض الكنيسة، وفضل الصلاة في الفضاء خارج الكنيسة، وقد بني في تلك البقعة مسجد عمر ولم يطالب أحد بالكنيسة التي بقيت حتي اليوم، يؤمها المسيحيون للصلاة بدون مضايقة من أحد. يقابل ذلك تحويل جامع قرطبة الشهير الي كنيسة بعد احتلاله من قبل المسيحيين في 1236، وهو أمر أثار حفيظة المسلمين وأدي الي تشوش معماري واضح، بين الجامع التاريخي المبني علي الطراز الاسلامي المتميز، والكنيسة المحاطة بمعمار من غير التراث الذي تنتمي اليه. ولعل الحادثة الاخطر والاقرب الي الاذهان جريمة حرق المسجد الاقصي في 1969 علي ايدي مجموعة من المحتلين الصهاينة. ففي 21 آب (أغسطس) من ذلك العام تم اضرام حريق في جانب من المسجد أتي علي منبره وجزء كبير من رواقه، وكاد يحول المسجد المقدس الي ركام. وقد احتجت 24 دولة مسلمة لدي الامم المتحدة وعقد اجتماع خاص لمجلس الامن بعد اسبوع من وقوع الجريمة واصدر قراره رقم 271 للعام 1969 الذي طالب قوات الاحتلال الاسرائيلية بالحفاظ علي سلامة الاماكن المقدسة، والتوقف عن انتهاك حرماتها. يومها قال السفير الاردني، محمد الفرا، امام الامم المتحدة: اليوم، أقف مع 24 عضوا آخرين، ممثلين لـ 750 مليون مسلم، مطالبين باجتماع للنظر في مأساة أخري، وهي المسجد الأقصي والحريق الذي أحدث أضرارا بليغة بذلك المكان التاريخي . لم يحترق الاقصي في تلك الجريمة، ولكن تدميره ما يزال هدفا اسرائيليا ينتظر اللحظة المناسبة للتنفيذ. ومن المؤكد ان استمرار انتهاك مقدسات الاسلام، سواء في وسائل الاعلام الغربية كقضية الرسوم المسيئة لنبي الاسلام عليه افضل الصلاة والسلام، ام تدمير المساجد التاريخية مثل ضريح الامامين الهادي والعسكري بمدينة سامراء، يوفر سوابق تمهد لتدمير الأقصي. فاذا صمت المسلمون علي هذه الجرائم، فسوف يكون ذلك محفزا لقوات الاحتلال الاسرائيلية لتدمير الأقصي بوسائلها الخاصة. ان دقة جريمة تدمير مسجد سامراء تشير الي احتمالات عديدة، ويترك المجال مفتوحا للتخرصات والتكهنات، كما أسلفنا. فهناك أطراف عديدة تستفيد من خلط الاوراق بالشكل الذي حدث. وفي غياب المعلومات حول مرتكبي الجريمة التي ارتكبت بدقة كبيرة، يبقي المجال مفتوحا للشكوك والتخرصات. فبالامكان اتهام جماعة الزرقاوي، وبقايا النظام السابق، كما يمكن اتهام الامريكيين والاسرائيليين. فاذا كانت دوافع الطرفين الاولين معروفة، فان للامريكيين مصلحة في ما حدث، باضعاف هيبة الحكومة التي يترأسها الدكتور ابراهيم الجعفري الذي تسعي واشنطن لمنع اعادته الي رئاسة الوزراء لأسباب سياسية وايديولوجية. اما الاسرائيليون، فهم أكبر المستفيدين مما جري. فابقاء العراق منقسما علي نفسه سوف يؤدي الي اضعافه، وهو هدف استراتيجي للكيان الاسرائيلي، واشعال فتنة طائفية في العراق سوف ينعكس سلبا علي المقاومة في الارض المحتلة التي تعاونت اطراف شيعية وسنية لتقويتها خلال العقدين الاخيرين، كما يساهم في تفتيت العراق وتمزيقه، ويفتح المجال للتغلغل الصهيوني في سياساته واجهزته الامنية. بالاضافة الي ذلك، فان استمرار التوتر وتصاعد الاحتراب الداخلي يصرف الانظار عن السياسات الاسرائيلية، التي تحتاج الي اجواء جديدة لمواجهات شديدة مع الفلسطينيين علي خلفية فوز منظمة حماس واحتمالات تشكيلها اول حكومة فلسطينية يهيمن عليها ليس التيار الاسلامي فحسب، بل التيار الاسلامي القريب من ايران وحزب الله، وهو أمر له أبعاده الاستراتيجية الخطيرة في المعيار الاسرائيلي. ان خلق فتنة من النوع الذي كاد يحدث في الايام الاخيرة أمر أصبح أكثر الحاحا في الوقت الحاضر. وثمة عوامل أخري ترجح نظرية تورط اطراف خارجية في ما جري، منها التفجيرات الاخيرة التي حدثت في ايران، وآخرها الاعمال الارهابية والتفجيرات التي حدثت هذا الاسبوع في مدن دزفول وعبادان، وقبلها في الاهواز، وهي المناطق الاقرب للعراق. هذه التفجيرات، هي الاخري، يمكن طرح عدة تكهنات لتحديد مرتكبيها، نظرا لتقاطع مصالح عدد مــن الاطراف ازاءها. الصراع علي العراق اليوم ليس بين الشيعة والسنة، كما يعتقد البعض، وكما يبدو من ظاهر الوقائع اليومية، بل بين دعاة العراق الموحد العربي الاسلامي القادر علي ترجيح كفة الصراع المتواصل بين الامة الاسلامية التي تهم بالنهوض والاطراف الطامعة في خيراتها والمعادية لقيمها وعقيدتها وحضارتها، وهو صراع له مصاديقه الكثيرة ومن بينها الحملات الاعلامية المتعددة الاطراف ضد هذه الامة وما تمثله من قيم ومعتقدات، والأمنية التي تستهدف وجودها وتسعي لاحتواء تمددها الجغرافي والسياسي، وتهدف لتفتيت أمنها ونخرها من الداخل بخلق النزاعات بين مكوناتها لأسباب وذرائع تافهة، والفكرية التي تسعي للنيل من مقدساتها بكافة الاساليب وتحت عناوين جوفاء لا يحترمها المتشدقون بها. أبناء العراق لم يعرفوا بنزعاتهم الطائفية، واذا كانت ثمة اعتداءات علي العتبات المقدسة في السابق فقد كانت علي ايدي الغزاة من الخارج، كما فعل المغول عندما استباحوا بغداد، وكما فعل الوهابيون عندما هدموا قبر الامام الحسين عليه السلام في كربلاء في العام 1801. وتشهد قبور الأئمة والعلماء المقدسون لدي الشيعة والسنة وتلاصقها الجغرافي علي التداخل الديني والفكري بين العراقيين عبر العصور. ولذلك جاءت دعوة المرجعية الدينية في النجف الاشرف بتحريم الاعتداء علي المساجد وأضرحة أئمة المذاهب الاسلامية مثل الامام أبي حنيفة وعبد القادر الجيلاني، لتأكيد الموقف الديني الذي يدعو الي تعايش المتباينين في بعض شؤون العقيدة، علي أسس من السلام والاحترام المتبادل. فالمساجد بيوت الله، ولا فرق بين مسجد سني او شيعي، فكلها أقيمت لعبادة الله وحده دون غيره، ولا يحق لأحد الاعتداء عليها بأية ذريعة. وقد كان لموقف علماء المسلمين عامة بشجب واستنكار الاعتداء علي حرم الامامين بسامراء، أثره في تأكيد حرمة الاعتداء علي مقدسات المسلمين. نقول ان الصراع علي العراق يتجاوز الاختلافات المذهبية، ويتصل بالصراعات خارج حدوده، وهي صراعات اقليمية تارة، ودولية اخري. وليس من مصلحة المهتمين بشؤون الأمة تحديد المواقف علي اسس الاستقطاب الطائفي او العرقي، فذلك لا يخدم مصلحة العراق ولا الأمة، بل يوفر الأرضية للمزيد من الاعتداء علي مقدساتها من قبل أعدائها، ويطيل أمد الاحتلال الانجلو ـ أمريكي. ان من مصلحة العراق والعراقيين نبذ الاختلافات العرقية والمذهبية، واقامة نظامهم السياسي علي اساس صناديق الاقتراع، وعلي ارضية من التوافق والتفاهم، والسعي جميعا لانهاء الاحتلال الذي أثبتت الوقائع انه سبب رئيسي للتوتر وتوسع دائرة الارهاب وتمزيق النسيج الاجتماعي بين ابناء هذا البلد. وهذا لا يتحقق الا بتحكيم لغة الحوار والعقل والتخلي عن العنف الطائفي، والتركيز علي بناء العراق ديمقراطيا باستعادة السيادة وقطع الطريق علي الاحتلال. 9