تحية الي مكرم خوري

حجم الخط
0

تحية الي مكرم خوري

الياس خوريتحية الي مكرم خوريفي فيلم سبيلبرغ الجديد: ميونيخ الكثير من العناصر التي يجدر التوقف عندها وتحليلها. لكني اريد ان اقرأ الفيلم من زاوية صغيرة، لم تلفت انتباه احد، لكنها هزت مشاعري واعادتني سنوات الي الوراء. في تلك الأيام كان رجال من طينة محمود الهمشري ووائل زعيتر وعزالدين القلق نجوم فلسطين في الفضاء العالمي، ورسل كتابة الاسم الفلسطيني في لوحة العالم، التي ضنت علي شعب كامل بحقه في اسمه وهويته.فجأة رأيت وائل زعيتر وقد تقمصه الممثل الفلسطيني مكرم خوري، ومن بعده رأيت الهمشري الباريسي، الذي وجد قبره في بيير لاشيز، وافتقدت صديقي عزالدين القلق، الفلسطيني الدمشقي، الذي مزج اناقة العبارة بالموقف السياسي العقلاني، والذي جعل من الأعوام الثلاثة التي قضاها في سجن المزة طريقه الي قراءة التاريخ الفلسطيني في وصفه جزءا من تاريخ بحث العرب عن حريتهم.الفيلم ينطلق من عملية ميونيخ التي نفذتها منظمة ايلول الأسود في اولمبياد المدينة الألمانية عام 1972، وذهب ضحيتها رياضيون اسرائيليون وفدائيون فلسطينيون، حيث قتل الجميع برصاص الخدعة الألمانية والاصرار الاسرائيلي علي رفض التفاوض مع المخربين ، مثلما كانوا يسمون الفلسطينيين قبل ان يجري تعميم تعبير الارهابيين .فيلم سبيلبرغ يروي قصة مجموعة الموساد التي كلفت بتنفيذ مجموعة من عمليات الاغتيال في اوروبا، كاشفا حقيقة ان الانتقام الاسرائيلي لم يكن له علاقة بمخططي عملية ميونيخ، بل كان حلقة من مسلسل الاجرام الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني. كما يتوقف عند معاناة افني قائد مجموعة الموساد، الذي يكتشف الخدعة الاسرائيلية ويقرر الاقامة في بروكلين رافضا العودة الي اسرائيل.ورغم ان سبيلبرغ يقدم في فيلمه رؤية متقدمة للدولة العبرية، وتاريخها الاجرامي، الا انه يبقي في حدود ما يمكن تسميته النقد الداخلي للممارسة الاسرائيلية. اي يبقي في اطار اطروحات اليسار الصهيوني التي تتوقف عند نقد التفاصيل، من دون ان تجرؤ علي محاكمة المشروع برمته الذي يقوم علي افتراض ضرورة تغييب الآخر الفلسطيني.لكن ليست هذه المسألة التي اريد التوقف عندها. المسألة تتعلق بمشهد صغير اداه الممثل الفلسطيني مكرم خوري في شكل رائع. لعب مكرم دور وائل زعيتر الذي كان الضحية الأولي لمجموعة الموساد في روما. رأينا رجلا فلسطينيا يحاضر عن كتاب الف ليلة وليلة الذي ترجمه الي الايطالية. ثم رأيناه يمشي في شوارع روما، يصل الي البقالة القريبة من منزله حيث يشتري الحليب ويخابر ابنته في دمشق، قبل ان يتابع طريقه الي منزله. وفي مدخل المبني الذي يقيم فيه، وبينما كان ينتظر المصعد، يهبط عميلين للموساد كانا في انتظاره في درج المبني، مصوبين اليه مسدسيهما.اللحظة التي تفصل تصويب المسدسين عن اطلاق النار، هي واحدة من اكثر مشاهد التمثيل تأثيرا. هنا يتعملق مكرم خوري، ويواجه الموت بتدفق انساني مدهش. يسأله افني هل انت وائل زعيتر؟ وبينما اجاب الرجل الفلسطيني، الذي يحمل كيس الحليب والأغراض بيده اليسري، بنعم، ارتفعت يده اليمني نحو المسدس المصوب الي الرجل. ارتعاشة خفيفة لليد، وعيون الرجل تتسع لتضم العالم بأسره، وصوت خافت يرافق اليد الممدودة التي وصلت الي فوهة المسدس تريد ان تنزله الي الأسفل.رؤوس اصابع اليد تلامس سبطانة المسدس، وللحظة احسسنا ان الصوت نجح في التغلب علي السلاح، وان المسدس لن يستطيع اطلاق النار.هذه اللحظات الفاصلة تختزن الرؤية التي صنعتها تجربة رعيل وائل زعيتر. احسست ان الفلسطيني الواقف علي حائط الاعدام الاسرائيلي كان علي استعداد ان يشتري حياته برواية الحكاية، مثلما فعلت شهرزاد الذي قضي زعيتر زمنا في ترجمة حكاياتها الي القارئ الايطالي. لكن القاتل لم يكن مستعدا او قادرا علي سماع الحكاية. مهمته تنحصر في قتل الحكاية وليس في قتل راويها فقط.لم يتصرف زعيتر كفدائي. لم يقفز او يتخذ وضعا قتاليا من اجل الدفاع عن نفسه، كل ما فعله ينحصر في علاقة العينين بالصوت، وفي امتداد الصوت داخل اليد التي حاولت انزال المسدس. لكن القاتل لم يتنبه الي انه امام ضحية وليس امام عدو، والي ان الرجل الذي سوف يمتزج دمه بالحليب الذي سبق له ان اشتراه، ليس سوي مثقف يحاول ان يحفظ الحكاية من الاندثار، ويقاتل بالكلمة وليس بالمسدسات.بالطبع سوف يتعلم الفلسطينيون لعبة ان لا يكونوا ضحية مطلقة، وسوف يلجأون الي السلاح الذي استخدمه عدوهم ضدهم، وسوف يخسرون الكثير في هذا السياق، لكن ليست هذه المسألة.المسألة ان مكرم خوري استطاع في هنيهة صغيرة ان يحمل في جسد الممثل وعينيه واصابع يده المرتعشة كلّ الحكاية الفلسطينية، وان يمس من القلب شغافه، اخذا ايانا الي زمن زعيتر والهمشري وقلق. الي زمن المؤسسين الذين كانوا العتبة التي عبرتها الحكاية الفلسطينية الي العالم.كان دمهم اشبه بالمطهر الذي رسم افقا من تراكم الحكايات، بحيث استطاعت الحكاية الفلسطينية ان تحمي نفسها من الاندثار، وان تتجدد رغم انسداد الأفق السياسي بالغطرسة الاسرائيلية والحمق الامريكي.خرجت من الفيلم بنكهة العينين وارتعاشة اليد وصوت وائل زعيتر يطلب من قاتله ان ينزل المسدس. المسدس اطلق النار وسوف يستمر في لعبة الجريمة، لكنه في النهاية سوف يخضع للصوت وسوف ينحني امام مهمة مستحيلة اسمها قتل الراوي والرواية معا.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية