تحت السقف تنمو أحلام وانكسارات جيل بأكمله: نضال الدبس يقترح علينا الوقوف أمام مرآة بحجم الوطن
أنور بدر تحت السقف تنمو أحلام وانكسارات جيل بأكمله: نضال الدبس يقترح علينا الوقوف أمام مرآة بحجم الوطندمشق ـ القدس العربي حين حضرت فيلم تحت السقف في أول عرض له ضمن مهرجان دمشق السينمائي الأخير، خرجت وأنا حزين، فأول فيلم روائي طويل للمخرج نضال الدبس لم نتمكن من متابعة الصوت فيه، حتي أنني وبعض المشاهدين لجأنا إلي متابعة الترجمة الإنكليزية، وكان ذلك متعباً، وأفقدنا القدرة علي متابعة جماليات كادر الصورة التي اشتغل عليها المخرج بحب وتقنية عالية. في لقاء سريع معه بعد العرض تحدث الدبس أنه يشاركنا هذا الحزن، وأن المسألة كانت تقنية بحتة فصالة العرض في دار الأوبرا تمتلك تجهيزات تقنية عالية، بينما نحن في المؤسسة العامة للسينما لا نزال نعمل علي تقنيات قديمة، أدت إلي هذا الخلل أثناء العرض، وأنا مدين بالاعتذار من كل المشاهدين .الآن أعيد عرض فيلم تحت السقف ضمن أسبوع الفيلم الفرنسي ـ العربي في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق، وكانت فرصة لحضور هذا الفيلم ثانية، وقد انتابني إحساس أن نضال الدبس يحكي فيه عن هموم جيلنا نحن لا جيله هو، عن خيبات وانكسارات جيل سبقه، مع أنه يُصر وما ذنبي إذا كانت التجربة تتكرر مع كل الأجيال، فكما لاحظت أن فيلمي ينتهي بنفس المشهد الذي بدأ منه، لكن مع شخص آخر وأصغر سناً .في هذا العمل قصة واقعية، وأسلوب واقعي في الإخراج ينتمي لمدرسة موسكو أو الاتحاد السوفييتي سابقاً، والتي درس فيها أغلب مخرجينا الذين صنعوا هوية السينما السورية لاحقاً. إلا أن قصة العمل مفككة لا تصل لنا عبر سرد درامي مباشر أو متسلسل، هي قصة زوجة أحمد الذي مات مبكراً، وتحولت زوجته إلي أرملة، أحمد يأتينا من الذاكرة بكل ما يمثله من ثورية وشاعرية، من صخب وجنون وحب، لكنه انتهي، بينما زوجته لا تزال تحمل في جوانحها رعشة الحب ورغبة عميقة بالأمومة. بطل الفيلم رامي يعيش حالة التناقض بين إخلاصه للصديق والشاعر أحمد، وبين رغبته وعواطفه تجاه الأرملة، وقريب رامي طالب الجامعة الصغير القادم من الريف، يعيش بالمقابل الإعاقة ذاتها تجاه الحب، وبالتالي تجاه الحياة. يقول المخرج أنا لم أشأ الحديث في السياسة، فما يهمني هو انعكاسات الحدث السياسي في وجدان ونفسية البشر، فأنا أحاول قراءة السياسة من خلال الحالة الاجتماعية وأثرها في حياتنا وبنيتنا وسلوكنا . لكن السينما السورية كانت دوماً تبحث عن مشجب خارجي، عن العدو أو الحرب، لتعلق عليه تخلفنا، هزائمنا وانكساراتنا؟ ربما يكون السبب أننا نعيش في منطقة لا نحسد عليها حقيقة، فذلك الجيل لم يكن يكذب علي نفسه، ولا كان يحاول الهرب من مسؤولياته، بالعكس كان جيلاً يركض باتجاه تلك المسؤوليات، إلا أن ما كان يجري حوله كان أكبر منه ومن قدراته، وما يجري حوله كانت أشياء مصيرية وهامة لدرجة دفعته كجيل لتأجيل النظر باحتياجاته الشخصية أو الذاتية، وحتي الآن نكتشف أن تقرير ميليتس دفع بالبعض لتأجيل حفلات زواجهم مثلاً. من هنا حاولت أن أتجاوز هذه الرؤية في فيلمي، حاولت القول: تعالوا نري مشاكلنا بعيداً عن العدو أو الحرب، وربما لذلك رأي البعض قسوة في هذا الفيلم، أو محاولة لإدانة الذات، مع أنني لم أقصد الإدانة، بل كانت محاولة للصدق مع الذات، للبحث عن الأشياء في مكان ضياعها – كما قلت في تقديمي للفيلم- وليس في نقطة الضوء التي حددت لنا، لأن الأماكن المضاءة سهلة، وتعليق مشاكلنا علي العدو الخارجي لا يحل شيئاً من المسألة. نحن بحاجة لمزيد من الاهتمام بذواتنا وبتلك المسائل الشخصية، ومن الخطأ أن نضعها في تعارض مع العام أو القضايا الاستراتيجية، فرغم وجود العدو نكتشف أن الناس تحب وتتزوج وتنجب أطفالاً، ونحن علينا أن نقيم حفلات أعراسنا رغم تقرير ميليتس، وعلينا أن نستمر بالقدرة علي الحب، وأكثر شيء مرعب في حياتنا أن الكثيرين لا يستطيعون فعل أي شيء سوي سماع نشرة الأخبار، بينما نحن نحتاج إلي اكتشاف ذاتنا واكتشاف جمالنا، نحتاج أن نكتشف نجاحنا وإخفاقنا، أن نكتشف قدرتنا علي الحب، فوالدي رغم حرب (1973) أطلق اسمي علي شجرة الزيتون، بمعني أنه اكتشف مساحة ليعطي تلك الأشجار أسماءنا. لو نستمع إلي أهالينا كيف نزحوا؟ كيف تزوجوا وسكنوا أول مرة مع دوابهم؟ ومع ذلك كانوا قادرين علي سرقة اللحظات الجميلة، وعلي الاحتفال بأعراسهم، وهم ما يزالون يحتفظون بصور أبيض وأسود لتلك الأعراس، وتلك الأفراح. ولكن نضال الدبس حاول أن يتحدث في هذا الفيلم عن خمسين مشكلة، عن قضايا جيل أو وطن بأكمله؟ نحن حياتنا هكذا مليئة بالمشاكل وعلامات الاستفهام، ونحن نحتاج إلي مرآة كبيرة بحجم الوطن لنري ذواتنا في تفاصيلها، أنا لا أستطيع أن أتحدث عن مشكلتي العاطفية مع زوجتي مثلاً متجاهلاً باقي الإشكالات الجانبية التي تلفني، بدءا بالمصروف مروراً بالزمن، من عودتي المتأخرة إلي البيت إلي علاقتي بنشرة الأخبار، وأعتقد أننا ننتقل في حياتنا اليومية عبر مونتاج تعسفي فظيع ، أنا بلحظة واحدة أفاوض التاجر من أجل شراء شيء ما ، وأرجو المهندس أن يضبط لي صوت الفيلم، ثم أركب التاكسي لعيادة قريب في مشفي، وأنا أفكر في كيفية الإبداع في مسألة ما. ألا تلاحظ معي أن في حياتنا هذه شيئا من العبث؟. لكن فيلمك واقعي بامتياز؟ أنا قدمت الفيلم عبر نكتة الذي ضيع ليرة في العتمة وراح يبحث عنها تحت الضوء، وفيلمي يتحدث عن أشخاص يبحثون عن أنفسهم، يبحثون عن أجوبة لأسئلتهم، لكنهم- وربما لأول مرة- يبحثون في المكان الصحيح، إذ نادراً ما يحدث هذا في واقعنا، لذلك هم يكتشفون فجأة أنهم لا يعرفون شيئاً عن ذواتهم، وأنهم كانوا قد غيبوا عوالم كثيرة من رغباتهم وأفكارهم، ووضعوها في أماكن هامشية ومظلمة، مع أنها هي العوالم الأكثر إنسانية والأكثر مصداقية في حياتهم. دعنا نسأل: ماذا يحدث للإنسان فيما لو استطاع أن يتخلص من كل مرجعياته، وينظر إلي ذاته؟ أنا وضعت شخصياتي بهذا الظرف، لأكتشف معهم كم نحن مشتتين ومرتبكين لدرجة فظيعة، واعتقد أن هذه هي الواقعية التي عملت عليها، واقعية طرح الأسئلة الحياتية البسيطة حول الجسد أو الرغبة وحول الحب. ورغم بساطة هذا النمط من الأسئلة وبدائيتها، إلا أننا نكتشف فجأة أننا لم نطرحها علي أنفسنا سابقاً، وإذا كنا قد طرحنا مثل هذه الأسئلة فإن ذلك يكون وفق مرجعيات أيديولوجية، ووفق شروط وظروف …إلخ. المشكلة أن تجربتنا جميعاً كانت تجربة أحادية، اقتصرت علي مجال واحد، دفعت الأجيال عمرها من أجله، وهذا حقها وخيارها، لكن السؤال الآن: وماذا بعد؟ المهم أن هذه المشكلة أو المشاكل ما تزال تشكل إطاراً محبطاً للأجيال التالية؟ لأن هذه الأجيال لم تتعلم بعد أن تحب أو أن تستمتع، إذ لم يتغير عليها شيء من الشروط الضاغطة، صحيح صار في إعلانات وصار يوجد لدينا فيديو كليب، لكن الإحساس بضغط الآخر، بالعين التي تراقبني: نزل البردايات… سكّر الشبابيك، هذا لم يتغيّر مع الأسف، وبالتالي لا يزال الجيل الجديد يعيش نفس المأزق. لماذا اخترت ذلك المكان، غرفة في بيت دمشقي قديم؟ نحن في بلد نسبة المدنيين فيه قليلة جداً، أنا ابن ريف وقد جئت لأعيش في هذه المدينة، يبدأ الفيلم من أوله عندما سكنت في هذه الغرفة بعد حرب 1967، أغلب الناس اعتبروني نازحاً من الجولان، مع أنني لست كذلك، إلا أنه يوجد لدينا 90% من سكان هذه المدينة ينتمون لأصول ريفية، بمعني ما هم نازحون، بالمعني النفسي وبالمعني الجغرافي أيضاً. من تابعك في فيلمك القصير يا ليل يا عين والآن تحت السقف سوف يتساءل عن مشروعك السينمائي أو الفني؟ أنا أرغب حقيقة في صناعة الفيلم الذي أراه قبل أن أنام في لحظات الغفوة، عندما تمر لحظات أكون فيها حراً بين قوسين، لأن الحرية شبه مستحيلة في هذا الواقع، لكنني عندما أكون في لحظة الغفوة تلك، وفوقي لحافان، ويكون رأسي تحت المخدة، أدعي أنني متحرر من كل ما له علاقة بالرقيب، وحتي من زوجتي، فتمر اللقطة، وأري الفيلم الذي أريده.كما أرغب في تغيير زاوية الرؤية، لنكتشف كم أن الأشياء متحولة، فمشروعي قائم علي إعادة النظر في كل الأشياء التي اعتقدنا أنها ثابتة في مكانها.وتغيير زاوية الرؤية هو الذي يخلق الإشكالية التي نحتاجها لاختراع الأسئلة، فبدون علامات الاستفهام تلك نبقي في كارثة الاعتقاد بأن كل شيء ثابت. واعتقد أننا الآن لا نتحدث عن السينما فقط، بل علي أكثر من صعيد، فأنا مشروعي في الحقيقة قائم علي اختراع أو اكتشاف الأسئلة الجديدة. وحقيقة أننا نحن نمتلك من الأسئلة أكثر بكثير مما نمتلك من الأجوبة. كم أتمني أن تتاح لي الفرصة كي انتقل من زاوية إلي زاوية، كي ارصد تلك الأشياء غير الثابتة، رغم الكذب الذي مورس علينا لنقتنع بأنها ثابتة، كي أرصدها بحركتها ومن جوانبها المتباينة. واعتقد أن هذه المحاولة لزعزعة الرؤية لثوابتنا القديمة، هي أحد أسباب الحوارات التي نسمعها حول الفيلم، بين من أعجب به ومن رفضه، بين من وصل إليه ومن لم يصله بعد، وهذا مؤشر أنني دخلت المنطقة التي أريد، وأقول أن هذا المشروع ليس فكرياً فقط، بل هو مشروع فني أيضاً، فالفني يشبه الفكري ويتلبسه. وماذا عن عملك القادم؟ لدي فيلم تسجيلي من إنتاج اليونيسيف، حول الأطفال في سوريا، وقد اكتشفت أثناء التصوير أن العمل بدأ يتطور، وأصبح فيلماً وثائقياً طويلاً، عن الأطفال المهمشين في القاع، وأطلقت عليه مبدئياً اسم الحجر الأسود ، وهو اسم المنطقة التي جري التصوير فيها، واعتقد أنه سيكون مفاجئا كثيراً، لأنه سيضيء أماكن معتمة لم يكتشفها الآخرون بعد، وسيضيء أشياء مرعبة لم يرها الآخرون بعد. 0