تاريخ القدس: المعرفة المغيّبة بين المناهج والدروس

على مواقع التواصل الاجتماعي ثمة مقطع فيديو للباحث محمد عمارة، يتناول تاريخ مدينة القدس، ويشير فيه إلى أن اليبوسيين هم بُناة القدس، في تأكيد لعروبة هذه المدينة في مواجهة المروية الصهيونية، ما يحيلنا إلى معضلة يمكن أن نلمسها لدى وعي العامة، كما الطلاب خاصة بحقيقة تاريخ القدس، أو فلسطين، ذلك أن القضايا الكبرى ينبغي أن تُحاط دائماً برعاية معرفية عميقة، وبوجه خاص في أزمنة اتفاقيات السلام، وجنوح العرب للسلم، مع انتشار دعوات التطبيع، بالتوازي مع انطلاق بعض أصوات المثقفين الذين يقدمون منطقاً فاسداً حول انعزالية القضية الفلسطينية عن المحيط العربي، فيشيرون إلى ما يمكن أن ينشأ من آثار أو تداعيات سلبية في حال تدخلت بعض الدول العربية في الصراع، غير أنّ هذا ينمّ عن نقص في الوعي الثقافي لدى من يطرحه، خاصة حين يكون مثقفاً.
وللإجابة على هذه الطروحات، التي تحتمل قدراً كبير من الأسى تجاه أنماط التفكير التي نجدها لدى بعض المثقفين، الذين يفتقرون إلى أبسط مبادئ التفكير العلمي والمنطقي، فيظهرون شيئاً من سذاجة واضحة في إطلاق هذا التساؤل، أو القلق تجاه فهم التاريخ، ويتناسون مقولة ابن خلدون: «التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، لكنْ في باطنه نظر وتحقيق». ولعل الإجابة لا تحتاج إلى الكثير من الكلام عبر تبني مصطلحات كبيرة حول أهمية مفاهيم الأمن القومي والجيوسياسي، ولنتذكر أن إسرائيل في حرب 1967 لم تتوقف عند احتلال الأراضي الفلسطينية، إنما تجاوزت ذلك إلى احتلال مناطق من الدول العربية المحيطة، وهذا يعني أنها تنظر إلى هذه الدول بوصفها مصدر تهديد، وما اتفاقيات السلام المُوقعة سوى محاولة تحييد مؤقت للعالم العربي، لكن ذلك لا يعني انتهاء النظرة العدائية من قبل الكيان، مع محاولته إضعاف المحيط بجميع السُبل المتاحة.
ومن الملحوظات التي تُؤخذ على بعض المثقفين عدم تأملهم خطابات قادة الكيان التي تضرب بعرض الحائط مقولات السلام والتطبيع، في حين تواجه هذه التصريحات بصمت عربي على المستوى الرسمي، فليس هناك من خطاب موازٍ يحمل القدر عينه من القوة، بل على العكس من ذلك، فثمة خطابات هزيلة، ودبلوماسية تعكس اضطراباً في الرؤية، ما يحتم علينا النظر في التكوينات المؤسسة لهذه الثقافة التي يمكن أن تنتقل إلى الأجيال الجديدة، التي تشهد وحشية هذا الكيان، كما يشهدها العالم شرقاً وغرباً، لكن حين نطالع مناهجنا العربية في العقود الثلاثة الأخيرة فسنجد أنها تعرضت إلى عملية تحييد للقضية لفلسطينية، مع محو -ربما – كل ما يتعلق بفلسطين، ولاسيما القدس، ولا أعني هنا مستوى التاريخ فحسب، إنما تغييب نماذج معرفية بسيطة لا تمسّ حتى عمق المشكلة.
يمكن أن نحيل ذلك إلى أن الكثيرين لا يدركون حقيقة تاريخ القدس، وتسلسله، إذ يعاني هذا المستوى من تشويش في وعي الأجيال الجديدة، التي لا تدرك ضآلة الموقع الحقيقي للوجود اليهودي في فلسطين، وهامشيته عبر تاريخها الطويل، فالبعض لا يملك المعرفة الكافية للمحاججة في هذا الشأن، ما يولّد فصاماً بين الواقع والحقيقة، ولاسيما مع الحرب الأخيرة؛ إذ تظهر مناهجنا محيّدة عن مناقشة حيثيات صراع في العصر الحديث، الذي يمسّ أحد أهم أركان الوعي العربي والإسلامي، ولا مناص بأن هذا سيقود إلى بناء قيمة سلبية تجاه هذه المناهج برمتها، كونها مغيبة عن الواقع، فهي تعتمد سردية وهمية، خاصة على مستوى العلوم الإنسانية، التي تنطوي على تناقض بين الواقع، وما تخطه تلك المناهج، وقد ينتج عن ذلك تشكيك بكل المعاني والقيم، كما التاريخ الكلي، فلطالما أحيطت السرديات الرسمية بالكثير من القلق، وشيء من علامات الاستفهام، والتشكيك؛ لأنها شهدت نكوصاً عن سردية سابقة، وبناء سردية زائفة، وهذا سيقود – بالمطلق – إلى فقدان الثقة في المنتج القيمي والثقافي العربي.
تتصل المعضلة الحضارية بتعريفات الأشياء في نطاق وعي أمة، تضع عناوين كبيرة، لكنها تناقضها في السلوك والممارسة، ما يحتم ـ بالضرورة- على الأجيال الجديدة البحث عن مصادر معرفية أخرى، كي تتمكن من إقامة فهم موازٍ للوقائع، بمعزل عن أفعال التحييد والنكوص المستمر، ولعل هذا يتخذ أهمية قصوى ضمن مستويات الانفتاح المعرفي، نتيجة دخول الشبكة العنكبوتية على المعادلة، حيث باتت المعرفة متحررة، وبذلك فإن تحييد التاريخ، وتجاهل الحقائق لن يكون مُجدياً، بل سيكون هذا المسلك أقرب إلى كارثة ستؤدي إلى انفجار في يوم ما نزولاً عند مقولة الروائي جورج أوريل، الذي يرى أن السبيل الأمثل لتدمير الشعوب العمل على إنكار فهمهم للتاريخ، وطمسه.
في أزمنة النكوص العربي، وعنوانها اللافت تحييد القضية المركزية للعرب بموازاة اشتداد الوعي بها عالمياً، فإن هذا سيبدو أقرب إلى نسق من أنساق التشوه، ومع الوقت سوف يتحول إلى شيء من المفارقة الساخرة، كوننا لا نستجيب للمسار التاريخي الذي ينبغي أن نتعلم منه، أو ربما لأننا – تاريخياً- نصرّ دائما على الوقوف في الجهة الخطأ، وهي صيغة غالباً ما نعيد تكرارها، فلا نتعلم من التاريخ، ولا من النتائج الكارثية التي نعاني منها إلى الآن، حين نتخلى عن وعينا النقدي، ولعل هذا يقودنا إلى تثمين دور الثقافة، لا بوصفها ثقافة مصنعة، ومعدّة، إنما أعني الثقافة التي تتصل بالوعي والقدرة على النقد، والأهم القدرة على التعبير في أزمنة لا تحتمل أي ممارسة لقمع التعبير؛ لأن عصرنا يختلف، وعلى الرغم من ذلك فإنه ما زال يُدار بعقلية القرن الماضي أو حتى بعقلية القرن التاسع عشر، إذ ما زال يُنظر إلى الشعوب على أنها شعوب قاصرة لم تصل بعد سن الرشد، والنموذج الأمثل تكوين المناهج التعليمية التي لم تتمكن من مواكبة هذه التغيرات، والتحولات، إذ ما زالت القناعات قائمة على أنه ينبغي أن نعيد تشكيل العقل تبعاً لرؤية واحدة، بل إن المفارقة الأعظم تتجلى حين نرى أن بعض المناهج العربية – في بعض الدول- سعت إلى تحييد القيم الوطنية والنضالية والمقاومة، غير أن هذه القيم قام بتفعيلها، وتجسيدها واقع المقاومة الفلسطينية، التي أعادت القضية الفلسطينية إلى الحياة بعد محاولات حثيثة لمحوها.
وفي الختام فإن هذا المسلك سوف يقودنا إلى التسليم بفشل من سعى إلى تحييد التاريخ، كما كشف أيضاً عن قصور معرفي واستراتيجي واضح، فالأجيال الجديدة تعاين النضال ضد الاحتلال، في حين أن المناهج تتجاهل تعريف الصراع، ما يقود مرة أخرى إلى تأكيد أن المخططين مارسوا استجابة لمتطلبات تضرّ بأمنهم القومي، ووجودهم، فإن تلغي معنى الوجود أمام عدو يغذّي الكراهية والإرهاب، ووجوده الطارئ.. فهذا يبدو أقرب إلى الحُمق، وربما لم نتعلم من التاريخ؛ لأننا لا نعرف كيف نقرأ التاريخ، أو ربما لأننا لا نريد أن نتعلم منه، فالفراغ في الوعي سيؤدي بالضرورة إلى وجود قوة أخرى تعمل على ملء هذا الفراغ، ومع الزمن سوف تزداد الهوة بين الخطاب والواقع.

كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية