تأملات في الكتابة وقصة الحذاء اللامع
عبدالوهاب عثمان نورتأملات في الكتابة وقصة الحذاء اللامعتوقفت عن الكتابة منذ حوالي خمسة أعوام وأتذكر جيدا التجارب القاسية التي عانيتها مرة بسبب الكتابة، ومرة ثانية وعلي نحو أشد بسبب التوقف عنها، وان كنت لا أستطيع الجزم ان كنت قد توقفت عنها بمحض ارادتي أم ان ذلك حدث رغما عني. ان الأمر غاية في التعقيد فأنا لا أتحدث عن بداية ونهاية، كتلك النشوة التي تجتاح المرء حين تنشرله أول مقالة ايذانا ببدئه الكتابة، ثم تصل نشوته الي ذروتها ساعة بلوغه غايته، ليس الأمر كذلك البتة، ففي الكتابة شيء لا يشبع أبدا، دائم الثرثرة في حالتي الممارسة والانقطاع. وقد خطر لي ان المشكلة تبدأ عندما نتخذ من الكتابة حرفة لنا وذلك لالتصاقها الشديد بالنواحي المعنوية، نحن بالطبع لا نتوقف عن الكتابة لمجرد انتفاء هذه العوامل المعنوية، ولكن من المؤكد ان كتاباتنا تتأثر بها بشدة، ذلك أننا نرسل ما هو كامن فينا الي ساحة كتاباتنا وننقل اليها المرض المزمن الذي تشكو منه معنوياتنا، ربما هناك من يقول ان ما ننقله الي كتاباتنا يترجم بدقة واقعنا المتشظي وهكذا يبدو الأمر وكأننا نرسل شظايا أو كرات ملتهبة بغية أن تصيب اهدافا يعتقد اصحاب هذا الرأي أنها ثورية، ولكن من هو المستهدف ومن تصيب هذه الشظايا؟ يبدو لي ان ثمة فرقاً بين أن نثور وننفعل، ذلك أننا عندما نثور نؤثر ونغير بينما يعني انفعالنا ـ وهو لا ريب حالة مفهومة ـ أننا نتأثر ونتغير، وبمعني آخر فان الثورة تسبقها خطط وأفكار رصينة واعية بذاتها وتعرف ما تريد، حتي الثورات التي تخطئ الطريق الي أهدافها فلا بد أن تسبقها أفكار ما تسوغ وقوعها، أما الانفعال فشعور ينشأ عن عوامل قاهرة وهو الي الظاهرة البكائية أقرب منه الي الحافز الثوري، بل ليت انفعالنا كان مباشرا، اذا لاختلف الأمر ولو قليلا، انما المؤسف ان معظم كتاباتنا لا تصنف في مستوي الانفعال الأول أو المباشر وأعزو ذلك الي عوامل كثيرة منــها الاحباط الشديد، التواطؤ مع الانظمة وقلــــة الحياد فضلا عن الجبن والرقابة ، هذه العوامل وغيرها لا شك كثير، هي التي تمتص الكثير من انفعــــالاتنا الاولي وغالبــــا ما تكون قوية وصادقة وهي التي لا تفرج عن هذه الانفعالات البكر الا بعد مرورها بدروب ملتوية وأطوار من التزييف والترويض فلا يصل الينا منها الا ما يصلح أن نضعه في خانة (انفعال ثان)! والواقع ان احباطاتنا لا تتجلي فقط في انقطاعنا عن الكتابة بل انها تتجلي أكثر في ممارستنا لها، ومن واقع خبرتي أستطيع أن أزعم انه قد يستوي احيانا العزوف عن الكتابة بممارستها، بل ان العزوف عن الكتابة له رمزية خاصة تدلل علي خطورة حالة الاحباط فضلا عن تعبيرها الشديد عن الاحتقان. واذا كان صحيحا ما يقال عن أن الحقيقة الحكر ليست حقيقة فانه صحيح أيضا ان الحقيقة المعلنة تغدو لا حقيقة اذا لم تنعكس في قرار أو تجد ارادة تجسدها، وهكذا فان ممارسة الكتابة وفقا لهذه القراءة تكاد تكون بمنزلة الانقطاع عنها، وان كنت أجد العذر للمواظبين علي الكتابة فأجد مثله للعازفين عنها فلا فرق بين الفريقين سوي أن قسماً يعيش في قلب حالة الاحتقان وثانياً يفاقمها ثم يعود ليتأثر بنتائجها بأثر رجعي. أو ليس اعلامنا الا ظاهرة تقريرية وخطابية فاترة تسهم في تعاظم حالة الاحباط لدينا؟ وهل هذه الظاهرة التقريرية قادرة علي احصاء أمين لما يدور في أوطان يفوق فيها اللامرئي من احداث اضعاف مرات المرئي منها؟ وهل سويت مشكلاتنا التاريخية مع التغييب وصناعة الاقصاء علي مدي العقود المنصرمة، والتي ما شهدت ازدهارا قط كما شهدته في المنطقة العربية؟ صديقي الذي هجر الكتابة منذ سنين طويلة يحمل وجهة نظر مغايرة، وهي للأسف تعبر عن كثيرين، فهو يعتقد أن الجدل في شؤون الكتابة مضيعة للوقت اذ أنه يؤمن بأن الكتابة ناشئة عن نظام الحياة في البلد عينه وهي تتمثله دون أن تملك القدرة علي تغييره، وحسب هذا الصديق فان المشكلة والحل يكمنان في التاريخ، ويعتقد أن قراءة تاريخنا توطئة لتفسير ألغاز عصرنا المحيرة هو السبيل الأمثل لعلاج مشكلاتنا المعقدة. هذه وجهة نظر تحمل أوجها عديدة، ومع ذلك دعنا نسلم بصعوبة فك الارتباط بين مستوي الحريات الراهن وسجلنا التاريخي، أما الكتابة أو الفكرة بالنسبة لي فهي مفهوم يتخطي المعني التقليدي الذي تواضع الناس علي الأخذ به، فهي عندي ـ الكتابة ـ مفهوم أشمل أكثر انسجاما مع فكرة الخلق (المستقبل) منها مع التاريخ الا في سياق الضرورة لتطويع ذلك التاريخ لأجل أغراض آنية ملحة، ولردم فجوة في عصرنا تتصل أسبابها بذلك التاريخ ولطالما انتابني شعور بأننا نتفاعل مع قضايانا المعاصرة بفارق استعداد عمقه قرون، وعلي الرغم من أن التاريخ يقع خلفنا الا أننا وبسبب بطء تفاعلنا مع عصرنا نبدو وكأننا نعيش في رحابه! لا ريب ان التاريخ شامل ويمتد تأثيره علي نحو وآخر الي حاضرنا ولكننا ان شئنا تفوقنا عليه وتجاوزناه حاضرا بقدراتنا علي الخلق وبارادتنا التي تصنع الفرق والاختلاف، كما بامكاننا استثماره بوعي لصالحنا ولكن من الواضح ان التاريخ اثبت قدرته الفائقة علي اللحاق بنا من خلال تلك الأفكار التي يستكين اليها كثيرون ومنهم صديقي المتشائم. ربما بدت مآخذي علي الكتابة أو العمل الاعلامي متطرفة بعض الشيء، ولي في ذلك اسباب ودواع وأهمها علي الاطلاق هذا التنامي المخيف للمقولات التي تسعي الي اغراقنا في الماضي وطردنا من هذا العصر، انما هي ملهاة سببها الفراغ الفكري الهائل الذي نعيشه والذي أدي الي حرماننا من المشاركة في صنع اقدارنا أو أدي اليه حرماننا من المشاركة، وكذلك فليس ثمة ما يؤدي حتي يومنا هذا الي شيوع ظاهرة الارتجال السياسي بأوطاننا والي احتقار أذهاننا الا المشكلة عينها، ولك أن تتصور أمة أخليت ساحتها من أفكارها ومفكريها بعد أن افرغت ذاكرتها من محتوياتها أي أمة بلا مناعة، فماذا تتوقع أن يحدث في ظل هكذا افلاس؟ تحدث ما شئت عن الصحافة وعن أطنان الورق التي نسكب فيها أطنانا أخري من الكلمات وتحدث ان شئت أياما وليالي عن فضائياتنا، وسأقول لك كل هذا هذر وسخف فالعروش لا تزال قائمة لا يزلزلها شيء بل ان أحسن ما تفتقت عنه قرائحنا جدنا به اكراما لهذه العروش وزدناها قوة فوق قوة، وفوق ذلك فان الفكرة ليست كلاما يساق علي عواهنه بل موقفا يعي ويعبر وفكرة تؤثر فتغير وستبقي هذه العروش دليلا قاطعا علي أن الكتابة عندنا أو الاعلام وحتي مؤسساتنا المدنية جميعها مصابة بداء عضال.ان صديقي الذي هجر الكتابة ابتدع أساليب حمائية لكي يقي نفسه من شرور واقعنا المتشظي فعمد الي فكرة التاريخ لتأمين خطة الفرار من لحظتنا الحاضرة، ولعله الآن يقيم في احدي أزمنتنا التاريخية يقرأ ويتمثل، الغريب في الأمر أنه لا يزال يحتفظ بآخر مقالة نشرت له، وهو يكثر من قراءة هذه المقالة بالذات وقد قيض لي أن أقرأها أيضا فوجدتها مثيرة للغاية، ذلك لاحتوائها علي تلك الحشود من المفردات السكاكينية والأساليب القتالية، وكأنه كان يخوض حربا ضروساً في الميدان، ولعل صديقي ان لم أكن مخطئا آثر أن يخوض معركته الأخيرة قبل أن يعلن هجره للكتابة وربما عصرنا نهائيا. أما الأمر الذي يدعو الي الدهشة فكان موقفي الشخصي من الكتابة ومن صديقي هذا، فكنت كلما انبهمت علي السبل أهرع الي الكتابة فلما كانت هي الأخري تخذلني بامتياز، كنت أستنجد حينئذ بصديقي ملتمسا عنده بعض العون النفسي مع ادراكي لموقفه الثابت من الكتابة، وكان صديقي يبتسم ثم يقول في هدوء وشماتة: ستضطر يوما الي استئجار من يكتب وصيتك الأخيرة! وبعيدا عن الايغال في التشاؤم هناك ناحية ايجابية أود التطرق اليها وهي ان التوقف عن الكتابة يجود بفرصة نادرة للتفرج علي المشهد السياسي العربي من خارجه، وأعترف أن ما سأطرحه نظري جدا لكنه يبقي مقاربة معقولة. ان الاشتغال في الكتابة بمفهوم وظيفي صرف هو انتظام في سلك الممارسة اليومية حتي في ضوء صدامه مع الواقع يبقي جزءا من الممارسة اليومية، ذلك بطبيعة الحال ينطبق علي الأقنية الاعلامية الأخري وكل أشكال الممارسات السياسية رسمية كانت أو معارضة، ولنفترض ان ذلك يقدم لنا صورة كاملة للداخل بزخرفها وبما فيها من التفاوت ومن التداخل، ودعنا نسلم أنها صورة يصعب رسمها بدقة بيد أن رصدنا للممارسة الاعلامية علي نحو خاص لا يثبت انها استطاعت أن تسجل اي سبق يقفز علي الصورة النمطية لأشكال ممارساتنا اليومية الأخري سياسية واقتصادية، تربوية وتعليمية..الخ، وعلي الرغم من تراوح النبرة الاعلامية بين الجرأة والغلو والي الصراخ أحيانا فان استمرارتدهور الوضع السياسي بهذا العناد الغريب يضغط كثيرا علي الوظيفة الاعلامية ويجعلها جزءا من الصورة المشوهة لحياتنا العامة حتي لو أرادت غير ذلك. يحدث ذلك لأن اعلامنا ينظرالي البيت من الداخل وهو يشكل قسما من ديكوره بعين متأثرة اما بما يدور في داخل البيت نفسه أو بما يؤثر فيه من خارجه و يقع هكذا ـ الاعلام ـ في فخ العادة اليومية ويتلقاها بإيقاعها البطيء والفارغ ويعيد انتاجها بشكل ممجوج. ان ذلك يدل علي معني خطير، فالاعلام هكذا لا يستطيع ان يتجاوز بالرؤية الأحداث بل يأتي خلفها ويقع في دائرة جذبها ويتأثر بلاعبيها الكبار من خارج المؤسسة الاعلامية الذين يكرسون هذه العادات اليومية ويمنحون حضورها زخما وكثافة، فضلا عن اقعادها لكي تمكث طويلا داخل البيت العربي المسيج بأعلي الأسوار وصدق من قال : ينتهي الانسان حين يبدأ يعتاد علي الأشياء! ولست هنا بصدد دعوة زملائي الي التوقف عن الكتابة أو مزاولة أنشطتهم الاعلامية انما أدعوهم الي الخروج من داخل المقصورة الاعلامية ولفترة محدودة حتي لا يفوتهم رؤية المشهد العربي من زاوية مختلفة جدا،أي بلغة شاعرية رؤية المشهد قبل الأخير لغروب النظام العربي، وبلغة الواقع أن يتمثلوا شعور من نصفهم بالأغلبية الصامتة، تلك الشريحة الضخمة التي أمرت بالصمت فأطاعت مقهورة ثم استمرأته عن عمد معبرة بذلك عن موقف مزدوج، عبث من ناحية ووعيد وتربص من ناحية أخري. انها حقا مغامرة خليقة بالتجريب، اذ سيكون بمقدورالزملاء العيش في قلب منطقة الغليان الصامت، حيث تنهال عليهم كحال الأغلبية الصامتة دفقات هائلة من الأكاذيب تعقبها وعود أخري وأكاذيب، ولئن شغل الزملاء في السابق اما بصياغة الأكاذيب أو استنكارها فلن يشغلهم أمام هذه التجربة الفريدة سوي اثبات سعة صدورهم وقدرة ذاكرتهم علي الصمود عقب اضطرارها الي خزن كل تلك الموبقات السياسية، أو لعلهم يشرحون لنا لماذا يتحول الناس من حالة الرفض الجزئي الي الرفض المطلق الذي لا يستثني مسلمة في معتقداتنا السياسية وما صلة ذلك بحالة الصمت التي يعيشها الناس؟ ان الفكرة سادتي وأيا يكن الموئل الذي يحتضنها تختزن خصوصا في اللحظات الفاصلة أهم وسائل الصراع وأدواته ولست أجد لحظة تستحق وصفها بالفاصلة كأيامنا هذه. ولكي يتسني لهذه الفكرة أن تقودنا في الاتجاه الرشيد عليها ان تسبق وقتها وتقيم بينها وبينه مسافة ضرورية لأنها كالانارة التي يسير الناس علي هديها، وما تجده اليوم من تلاصق بين الاعلام وتفاصيل حياتنا اليومية ينبئ لا عن تلاحم بل عن تساوٍ في القيمة بينهما وهذا يؤشر علي اضمحلال القيمة الفكرية لهذه الوسائل ولا يدل علي تواضعها. ان المشكلة ا ننا لا نملك حتي الآن وسيلة صراع بديلة لكي نقاوم بها هذا التردي المخيف ونختصر بها الوقت، فما تزال قدراتنا علي الفعل والحركة محدودة، والوسيلة الأنجع هي حقن هذه الوسائل بعينة من الأفكار المصوبة بدقة الي غايات محددة. عطفا علي ذلك فاني أنعي علي الفضائيات العربية علي نحو خاص حالة الغبش التي تعاني منها، فلدي هذه الفضائيات طاقة تأثيرات كبيرة تبددها ببثها برامج خطابية غثة وأخباراً مملة لا تكلفها أكثر من التبضع وملء سلتها بما تجود به وكالات الأنباء، ثم تقدمها لنا ولكي تسهل علينا هضمها تستضيف محترفي الكلام ويشرع هؤلاء في القاء الخطب والمواعظ الي أن نصاب بعسر الهضم. ليس الاتيان بالخطباء بالأمر الجديد فهذا العشق كامن في ثقافتنا ومتجذر في تاريخنا، فلقد برع العرب منذ القدم في الخطابة وتركوا لنا ثروة هائلة من الكلام تكفي أمتنا ان ـ لا سمح الله ـ نضب كلامها لمئات السنين ولكن ماذا ينفع أمة لا تطيق صبرا علي الفكر الرصين؟كم أرجو أن لا يؤخذ رأيي هذا تحاملا علي الكتابة أو الاعلام اذ ليس من المنطقي ان أتحامل علي وسيلة لا أملك سواها، فلست جنديا يحمل سلاحا أو عضوا في منظمة تؤمن بالقوة وكل امرئ يبحث عن الحل بوسيلته، بل انني ـ رغم كل شيء ـ لا زلت أؤمن بان الاعلام في ظل الطفرة التي شهدها هو الوسيلة الأقدر علي التأثير الأقوي، لكن ما يحز في النفس حقا قعودنا عن تعبئة هذه الوسائل بالأفكاراللازمة خصوصا ونحن في أعتاب مرحلة تتداعي فيها المفاهيم السياسية القديمة تاركة وراءها فراغا سياسيا وفكريا كبيرين، واخشي اننا هكذا نضيع فرصة تاريخية للتغيير ذلك انه لم يحدث سواء في التاريخ العربي البعيد أو القريب أن توفرت الحيثيات والوسائل والدوافع كما هو الحال الآن للقيام بثورة شاملة تنهي عصرا طويلا من الاضطهاد والاستبداد، هذه العوامل التي لا تزال مفككة هي بحاجة الي المؤسسات الاعلامية والفكرية والاستراتيجية لكي تقوم بتجميعها وتوظفها توظيفا صحيحا وفي الزمن المناسب، وليس أبدا عرابو الثورات كالذين حملناهم علي أكتافنا في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم فأخذونا غيلة وغدرا. اجل.. نحن بحاجة الي أن نفكر وان نمتلك الوسائل الوسيطة بين المفكرين والمؤسسات والناس لكي يتاح لأفكارنا أن تذاع وتتفاعل وأن نجعل التغيير ركيزة أساسية حتي يدمن الناس البحث عن آليات التغيير وحينئذ سيتحرك الناس لامحالة! وبطبيعة الحال قد تطرح أسئلة كثيرة مقلقة من نوع: ما طبيعة هذه الأفكار؟ الي ماذا تؤدي؟ وكم يستغرق حدوث التغيير؟ ومن يتولي تنفيذه؟ فضلا عن السؤال الأكثر جدلا: هل هناك في الأساس قابلية لحدوث ذلك؟ہہہوأخيرا واذا حصرنا حديثنا علي الفضائيات فقط باعتبارها أهم الوسائل الاعلامية وتساءلنا مجددا أمام هذه الفضائيات عن امكانية حدوث التغيير وأيتها التي تتطوع لهذه المهمة الخطيرة، سنجد ان الاجابة مخيبة جدا ويبدو ان البحث عن آلية للتغيير عبر الوسائل الاعلامية وان غدا ممكنا الا ان الفضائيات القائمة حاليا لا تنطبق عليها الصفات اللازمة للقيام بذلك، وأهم هذه الصفات التي تفتقدها هي الاستقلالية والجرأة والنزاهة والحرفية العالية، وحتي لا أكون جاحدا لا بد من التأكيد علي الدور الكبير الذي تلعبه قناة الجزيرة. فقد نجحت هذه القناة في وقت قصير في ملء فراغ كبير كما أسهمت كثيرا في تثقيف الرأي العام العربي سياسيا وشده الي متابعة قضاياه وفتحت مجالا واسعا لمثقفين ومفكرين سدت دونهم الأبواب، وبالاضافة الي ذلك أنها البادئة في مجال الفضائيات في سن تقليد شاع عربيا وبموجبه أتيح هامش نسبي للرأي الآخر. بيد ان المشكلة ان هذا التقليد أسيء استغلاله بعد ان فطنت الأنظمة العربية الي خطورة هذا السلاح فقررت أن تجلب هذا السلاح، تخيف به أعداءها من الرأي الآخر من ناحية وتتجمل به من ناحية أخري، وتبعا لذلك أصبحنا نشاهد فضائيات في كل بلد عربي تتحدث وتتجرأ علي الجميع الا البلد الذي تقيم فيه، وأصبح في العرف ان الحديث عن فساد الأنظمة العربية عموما يستثني بطريقة معقدة البلد الذي يستضيف القناة وبهذه الطريقة يراد لنا أن نصدق ان الأنظمة كلها رائعة ! هذا يذكرني بقصة الحذاء اللامع لأنها تشبه في المضمون هذا الذي تفعله الانظمة العربية وهي قصة تحكي عن لص كان يسرق مرتديا انفس الحلي وأفخم الملابس وكان علي نحو خاص شديد العناية بحذائه حريصا علي تلميعه، ويوما اندس بين جمهرة من الناس يبحثون عن قطعة ذهبية ثمينة سقطت من أحدهم وبعينين ثاقبيتن أجال النظر حوله فلمح القطعة الذهبية وداس عليها بإحدي قدميه ريثما ينصرف الناس فيدسها في جيبه بخفة لص محترف، وفيما شغل الناس في معاونة صاحب القطعة المفقودة كان اللص ذو الحذاء اللامع يقف منتصبا يحدق في الباحثين ببرودة وثبات يحسد عليهما. فلما يئس صاحب القطعة المفقودة طلب الي الجميع رفع أقدامهم فلا شك ان القطعة المفقودة قابعة تحت هذه الأقدام وبحث عنها تحت هذه الأقدام لكن بلا جدوي الي ان بلغ حيث يقف اللص فأخذ بأناقته وحذائه اللامع وتردد قليلا ثم عدل عن تفتيشه ومضي متحسرا علي كنزه الضائع، ولو انه أزاح ذاك الحذاء لوجد تحته حقيقة مهولة فلم يكن ذلك الحذاء الجميل الا سارقا، والآن أيها السادة لا ترفعوا أحذيتكم بل ارفعوا الفضائيات العربية وحدثوني ماذا وجدتم تحتها! كاتب صحافي من السودان يقيم في لندن 0