تأملات في الرسم

الرسام العبقري ليس هو من يبدع رسما يشبه فن المتاحف، إنه يسعى إلى رسم الواقع لكنه يحرم نفسه من الأدوات الموصلة إليه، وبقدر ما يقحم أعماله في عتمات الغموض، وبقدر ما يطلب منا أن نغمض أعيننا عن لوحاته، لأنه عندما يغادر اللوحة ينذر نفسه للعدم بدلا من الفوضى التي عاشها في مرسمه، لذلك تبدو الألوان منتشية من الإفراط في الثمالة، وتقاوم الأوهام نظرا لحمايتها للحقيقة فبأي معيار يصبح اللون سبيلا للحقيقة؟ وهل أضحت الحقيقة هدف الرسام مثل الفيلسوف؟ وكيف يستطيع نقلنا من المرئي إلى اللامرئي؟
يقول بول سيزان، «ينبغي التوجه نحو الهدف، وأعني بذلك اعتماد نظرة منطقية عقلانية يغيب فيها العبث»، ولن يكون هذا الهدف سوى الحقيقة، التي تدفعه إلى الإقامة الشعرية في فضاء اللوحة، من أجل أن يهرب من الفوضى الممكنة إلى النظام المستحيل، فالرؤية تلتقط الأشياء في تموجاتها بين السماء والأرض، والرسام يسعى إلى حمايتها من العدم بواسطة حميمية الكينونة، لأن رغبته لا تتجاوز حدود الإقامة في كينونة هذه الأشياء.
يكتب ريلكه عن مخلوقات سيزان من أقداح وبرتقال وتفاح وقنينات قائلا: «إنه يخلق من القدسيين ويجبرها على أن تكون جميلة وأن تعبر عن الوجود وعن السعادة وعن العالم وبهائه»، ومن أجل ذلك كان الرسام يقضي وقتا طويلا في مرسمه، لأن ما يتعبه هو وضع اللمسات الأخيرة للوحة، وغالبا ما يوقعها تلبية لنداء العدم، إنه يضحي باللوحة بدلا من نفسه، ولعل هذا بالذات ما يسميه أحد النقاد بانتحار الرسام الذي يريد أن يتأمل الطبيعة، ويحول هذه التأملات إلى ألوان متوهجة في سماء الحقيقة غايته أن يدهشنا بنداء الكينونة، حيث تقوم بمقاربة للرسم، قال سيزان ذات يوم: «أمشي متجها صوب اكتشافات الروح لكن أي قوة تلك التي تقيد يدي وترغمني على الصمت وتقودني في الاتجاه المعاكس لنداء الكينونة، «يبدو أن القلق كان يسود كالغمامة السوداء على مرسم الفنان التشكيلي، فبين الاثنين، الرسام والقلق صلة قرابة خفية، لأنهما مولعان بخدمة الحقيقة وحمايتها من العدم، وإلا سيظل الظلام منتشرا على العالم قبل أن يشرق نور الوجود، ذلك أن الفنان الحقيقي هو من يفهم كينونة الفن بوضعها بالقرب من الحقيقة.
فمعنى كينونة الفن هي الاستجابة إلى وجود الموجود، من خلال الانكشاف أمام الحقيقة، سواء كان النداء مسموعا أو غير مسموع، ولكنه قابل للتأمل الذي يقود الفنان نحو اختبار حقيقة الوجود، إنها مهمة ميتافيزيقية لأن الفنان لا يفكر تفكيرا ضد الميتافيزيقا، بل إنه يمهد الأساس ويحرث الأرض لجذع شجرة الفلسفة، وما الميتافيزيقا سوى جذع هذه الشجرة، وبما أن الميتافيزيقا لا تزال مبدأ الفلسفة، فإن التفكير في حقيقة الفن، هو نفسه التفكير في حقيقة الوجود « فطالما كان الإنسان حيوانا ناطقا، كان أيضا حيوانا ميتافيزيقيا، فالميتافيزيقا تتعلق بطبيعة الإنسان».
ولذلك لا يمكن للإنسان أن يفهم ماهيته إلا من خلال الميتافيزيقا، فالرسام عندما يلبي نداء كينونته فإنه ينفتح على طبيعته بوصفه حيوانا ناطقا ميتافيزيقيا،
كتب ديكارت رسالة إلى مترجم كتابه «مبادئ الفلسفة» إلى الفرنسية يقول: «الفلسفة مثل الشجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزيقا والفروع التي تتفرع من الجذع هي سائر العلوم الأخرى»، وبإمكان هذه الصورة الواضحة من الأصل المشترك بين الفلسفة والفن هو الميتافيزيقا باعتباره الوجه الحقيقي للحقيقة، وإذا كانت غاية الفنان لا تتجاوز حدود الحقيقة في العمل الفني، فإن مهمة الفيلسوف هي تمزيق الحجاب عن هذه الحقيقة لكي يقربها من الانكشاف، هكذا تمسي الحقيقة هي ما يظهر في نور الوجود، وبواسطتها يتجلى الفنان الذي يسأل السؤال، ثم الامتثال الميتافيزيقي لنور الوجود، هكذا تكون غاية الفنان هي نفسها غاية الميتافيزيقا، إنهما الشيء نفسه، أي الوجود في حقيقته المتكشفة باعتبارها الأساس الذي تستقر فيه الميتافيزيقا، ومنه يتغذى الفنان الذي يعلم جيدا أن تأملاته اليومية تنبثق من الأرض التي فيها تضرب الميتافيزيقا كسؤال عن وجود الموجود.
وأياما كان الطريق الذي يسلكه الرسام إلى أن يحقق إقامته في فضاء اللوحة إلى جانب مخلوقاته المدهشة للعين، فإن نمو الروح في الفكر لا يحقق كماله إلا عندما يصبح تفكيرا في حقيقة الوجود الذي يحتوي جميع الأشياء ويستحوذ على ماهية الإنسان، وبما أن الرسام يفضل الصمت ورسم الأسئلة التي تقلق روحه، فإن الفيلسوف يعترف بمعاناته مع التفكير في الوجود وقهر العدم، هكذا نجد هايدغر يقول: «وما التفكير الذي حاولناه في كتاب الوجود والزمان سوى شروع في السير في طريق يمهد لقهر الميتافيزيقا، باعتبارها صدمة الإنسان من شأنها أن تثير تفكيره»، بيد أن رسم الأشياء بألوانها الحقيقية يقتضي من الرسام أن يتخلى عن ماهيتها، بمعنى أن يتماهى مع الألوان بمجرد ما يبعدها عن محيطها، وما دام أن كل لون يحمل في كينونته الرغبة في استحضار اللون المكون له، فإن ما يضفي عليها التناغم هو الحقيقة، وانطلاقا منها تصبح الألوان الهادئة مهتاجة تنشر ظلالها وتجذب العين، لأن منظرها في اللوحة حين نشاهدها في ضوء خافت ليس هو نفسه منظرها تحت ضوء الشمس.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية