بوش في شبه القارة الهندية: الكيل بمكيال غوانتانامو الصغري

حجم الخط
0

بوش في شبه القارة الهندية: الكيل بمكيال غوانتانامو الصغري

صبحي حديديبوش في شبه القارة الهندية: الكيل بمكيال غوانتانامو الصغري أرونداتي روي، الروائية الهندية البارزة والناشطة الجسورة ذات الحماس الذي لا يكلّ في مناهضة الإمبراطورية العسكرية والإقتصادية والثقافية الأمريكية، عثرت علي جيرة طريفة ـ ولكنها بالغة التعبير ـ للرئيس الأمريكي جورج بوش أثناء زيارته للهند: حديقة حيوانات العاصمة الهندية دلهي! والحكاية أنّ الحكومة الهندية فكرت، أولاً، في استضافة بوش داخل جدران البرلمان الهندي لكي يلقي خطبته البروتوكولية، ثم اكتشفت أنّ عدداً كبيراً من النوّاب سوف يقاطع الجلسة أو سيهتف ضدّ بوش طيلة الخطبة، الأمر الذي سيحرج الحكومة الهندية، كما سيجرح كبرياء سيّد العالم. وهكذا استبدلت الحكومة خيار الخطبة أمام البرلمان بخيار آخر، هو أن يتكلم بوش من داخل أسوار الحصن الأحمر ، حيث اعتاد رئيس الوزراء الهندي إلقاء خطبه في المناسبات الهامة. لكنّ هذا الخيار الثاني استُبعد دون إبطاء، لأنّ الحصن الأحمر يقع في قلب دلهي القديمة حيث تقطن أغلبية ساحقة من المسلمين، وحيث تصبح إجراءات حماية بوش سلسلة كوابيس مفتوحة علي كلّ المخاطر. ما الذي يتبقي؟ القلعة القديمة ، لكي تكتمل المفارقة: أكثر الأماكن أماناً للرئيس الأمريكي، القادم لامتداح الحداثة الهندية، هي القلعة العتيقة التي تعود إلي العصور الوسطي!وهكذا تعلّق روي: بما أنّ القلعة القديمة هي، في الآن ذاته، موقع حديقة حيوانات دلهي، فإنّ جمهور بوش سوف يتألف من بضعة مئات من الحيوانات أسيرة الأقفاص، وبضعة كائنات بشرية أسيرة أقفاص بدورها، يُطلق عليها في الهند اسم الشخصيات المرموقة . إنهم في الغالب مجموعة أثرياء يعيشون في بلادنا الفقيرة مثل حيوانات أسيرة، تقهرهم في هذا ثرواتهم الخاصة ذاتها، وبأنفسهم يقفلون علي أنفسهم داخل أقفاص من ذهب، ظانّين أنهم بذلك يحتمون من الرعاع والدهماء، أغلبية الشعب التي لم يكفّ الأثرياء عن نهبها طيلة قرون . ما الذي سيحدث إذاً، تتساءل روي، ما خلا أنّ بعض طيور السماني سوف تحمد الله لأنّ بوش لم يصطحب معه نائبه ديك شيني، الصيّاد الماهر الذي يصطاد أصحابه!في أفغانستان كان حظّ بوش أفضل بما لا يُقاس، ليس لأنّ زيارته استغرقت أربع ساعات يتيمات فحسب، بل أساساً لأنه جاء من أرض أمريكية لتهبط طائرته في قاعدة باغرام… وهي بدورها أرض أمريكية افتراضية، وبامتياز عالٍ نابع من حقيقة أنّ لقبها، لكي لا نقول اسمها الثاني، هو غوانتانامو الصغري ! ففي هذه القاعدة الجوية أقامت القوّات الأمريكية سجناً سرّياً زجّت فيه قرابة 600 من المحاربين الأعداء ، كما تقول التسمية الأمريكية البهلوانية الخاصة، الهادفة أساساً إلي تفادي استخدام أية مفردات أو اصطلاحات ذات صلة دلالية بمفهوم الأسر أثناء الحروب، وعلي رأسها مصطلح أسير حرب بالطبع. وكانت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قد كشفت النقاب، الأسبوع الماضي، عن ذلك السجن السرّي الذي يثير أسئلة جدّية حول رفض إدارة بوش الإلتزام بالقانون. لقد اختارت غوانتانامو أوّلاً لأنها منطقة حرّة في ما يخصّ القانون. والآن، بعد أن أقرّت المحكمة العليا أنّ الإدارة خاضعة لمحاسبة قانونية وإنْ محدودة في غوانتانامو، ها هي الإدارة تبحث عن مواقع أخري لا يُطبّق فيها القانون ، كما يعلّق البروفيسور دافيد كول، أستاذ القانون في جامعة جورجتاون والرجل الأكثر خبرة في الحقوق الدستورية.شروط الإحتجاز في غوانتانامو الصغري تلك لا تقلّ فظاعة عن تلك السائدة في غوانتانامو الكبري: إخفاء لوائح السجناء، منع الزيارات نهائياً، السجن في أقفاص من الأسلاك الشائكة بدل الزنازين، النوم علي الأرض دون فراش أو غطاء، انعدام المرافق الصحية والاستعاضة عنها بالدلاء، منع أي شكل من أشكال الرياضة والمشي. وتقول ديبورا بيرلستين، مديرة برنامج قانون وأمن الولايات المتحدة في المنظمة الحقوقية Human Rights First، إنّ معتقل باغرام تذكرة صارخة بأنّ الحكومة الأمريكية، وبعد مرور أربع سنوات ونصف علي كارثة 11 أيلول (سبتمبر)، تواصل احتجاز ما يقارب 15 ألف مواطن من جنسيات مختلفة، خارج أيّ قانون وشرعة وحقّ، علي الإطلاق. طريف إذاً، شرط أن تكون طرافة قاتمة دامية فقط، أن تهبط طائرة الرئيس الأمريكي، داعية تصدير الديمقراطيات وكبير المدافعين عن حقوق الإنسان، في قاعدة باغرام دون سواها، علي مبعدة أمتار من غوانتانامو الصغري هذه! وإذا كان قرابة 100 ألف مواطن هندي قد خرجوا يهتفون ضدّ بوش، مجرم الحرب و القاتل بالجملة و الإرهابيّ الأوّل كما قالت اللافتات والهتافات، فإنّ مظاهر الإحتجاج الوحيدة التي سمحت بها أجهزة الرئيس الأفغاني حميد كرزاي كانت البيوت الطينية البائسة الرثة التي حلّقت فوقها حوّامة الرئيس الأمريكي. في باحات تلك البيوت، وخلف الصورة الوردية التي رسمها بوش لهذه الأفغانستان الجديدة ، كانت الحقائق الأخري تشير إلي التالي، بين وقائع وأرقام أخري لا تقلّ هولاً: ثلاثة ملايين جائع حسب إحصائيات الأمم المتحدة، و13% فقط ممّن تتوفّر لديهم مياه الشرب الصحية، ونسبة وفيات في سنّ ما دون الخامسة هي الرابعة الأعلي علي مستوي العالم، فضلاً عن عودة الطالبان، وعودة البرقع، وعودة الأفيون، وعودة الجهالة والجاهلية! والأرجح، من جانب آخر، أنّ الإنفجارَين اللذين وقعا في مرآب سيارات تابع للقنصلية الأمريكية في كراتشي، وتسببا في مقتل خمسة أشخاص وجرح 49، لم يتزامنا مع زيارة بوش إلي المنطقة فحسب، بل كانا أيضاً ثأراً من القصف الجوّي الأمريكي الذي أودي بحياة العديد من الباكستانيين الأبرياء قبل أسابيع قليلة.غير أنّ المحطة الثالثة في زيارة بوش، أي الباكستان، هي ذروة المفارقة في الواقع، بل يلوح وكأنّها لا تُقارن البتة بطرافة ما اكتشفته أرونداتي روي من جيرة بين بوش وحديقة الحيوان: هذا رئيس قوّة عظمي، مصدِّر ديمقراطيات معلّبة مسبقة الصنع، يأتي لمباركة جنرال دكتاتور جاء إلي السلطة، ويستمر في الحكم، جرّاء انقلاب عسكري! وهذا رئيس الولايات المتحدة، متعهد ترويج حقوق إنسان كِيْلتْ بمكيالين أو بمكاييل عدّة، يطلب من نظام مستبدّ عسكرتاري أن يقضي علي خلايا الإرهاب ! وهذا، ثالثاً، سيّد البيت الابيض الذي لم يتذكّر اسم جنرال الباكستان برويز مشرّف ذاته، قبل سنوات معدودات حين كان الثاني قد أنجز انقلابه، وكان الأوّل مجرّد جورج دبليو بوش… المرشّح الرئاسي!ونتذكّر، في باب الطرافة، أنّ الجنرال مشرّف عدّل الدستور الباكستاني لكي يناسب، ويشرعن قانونياً، بقاءه في السلطة حتي يشاء الله. لكنّ الطرافة لا تكمن في تعديل الدستور، بل في أنّ مشرّف اختار توقيتاً مذهلاً بالفعل، هو وجود وزير خارجيته في زيارة رسمية إلي واشنطن، بحيث أنّ الجنرال لم يستمهل نفسه بضع ساعات تتيح لوزير خارجيته أن يحفظ ماء الوجه في العاصمة الأمريكية. الطريف، طبعاً، أنّ الوزير كان قادماً إلي واشنطن وهو يحمل وعود التحويل الديمقراطي وعودة العسكر التدريجية إلي الثكنات، لكنّ مشرّف كان أكثر وفاء لروحية الجنرال الذي يحتقر الدبلوماسية، لأنه اختار تعديل الدستور (بما يخلّد وجود العسكر في السلطة، وليس في الثكنات!)، حتي قبل أن تنقضي ساعات علي تصريحات كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي السابق، المتفائلة بعودة الديمقراطية إلي الباكستان.ونتذكّر كذلك، بعيداً عن الطرافة هذه المرّة، أنّ انقلاب مشرّف كان يطوي صفحة في تراث الإنقلابات العسكرية العالمثالثية، ولكن ليس ليغلق كتاب تلك الإنقلابات، بل لكي يفتح صفحة جديدة فيه. فلقد مضي زمن كانت فيه الإنقلابات العسكرية شراكة أمريكية ـ عالمثالثية، يتولي التخطيط لها خبراء أمريكيون في البيت الأبيض أو وكالة المخابرات المركزية أو البنتاغون، ويمتهن تنفيذها العسكر من مختلف الرُتب هنا وهناك في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولقد لاح أنّ هذا الطور الصاخب انطوي مع وضع الحرب الباردة أوزار الشدّ والجذب بين واشنطن وموسكو، وأنّ أخلاقيات اقتصاد السوق والليبرالية المعمّمة والمعولَمة لم تعد تتسع لمغامرات العسكر، إلاّ في حدود ضيّقة تماماً يكون فيها الجنرال ـ العسكري محطة قصيرة لا بدّ من التوقف عندها قبل مجيء الجنرال ـ المدنيّ.إنقلاب مشرّف، أواخر 1999، بدا وكأنّه يَجُبّ الكثير من تلك الأخلاقيات ، علي نحو بسيط تماماً في تقنيات التخطيط والتنفيذ. لقد كان، أيضاً، بسيطاً أكثر في مفردات السياسة التي تكتنف تحرّك العسكر، وبسيطاً أكثر فأكثر في ما يخصّ مباغتة المقاربة الجيو ـ إستراتيجية التي اعتمدتها الولايات المتحدة في التعامل مع ذلك الشطر الفريد من شبه القارّة الهندية، حيث تمتزج التجربة الديمقراطية بالتجارب النووية، والنزاع الهندي ـ الباكستاني بالنزاعات الإثنية والدينية والثقافية.والحال أنّ التاريخ كان يعيد نفسه في كلّ مرّة، لأنّ التاريخ الباكستاني الحديث اتصف علي الدوام بمزيج من الديمقراطية الناقصة والإستقرار السياسي الغائب. ويكفي القول إنه، علي امتداد نصف قرن من عمر التجربة الديمقراطية الباكستانية، لم يتمكن سوي رئيس وزراء واحد من إكمال فترة حكم تامّة بين دورتين انتخابيتين. وإذا لم يتدخل الجيش عبر إنقلاب عسكري مباشر، فإن رئيس الدولة كان يبادر إلي خلع رئيس الوزراء والدعوة إلي انتخابات جديدة. وفي كل مرّة كانت تتعالي الإتهامات والإتهامات المضادة حول التلاعب بالإنتخابات وعدم شرعيتها، وفي معظم الحالات كانت نسبة الإقبال علي الإقتراع تجعل البرلمان المنتخب أبعد ما يكون عن تمثيل المجتمع. أكثر من ذلك، كان هزال صندوق الإقتراع يجعل البرلمان أشبه بهيئة صورية تعيّنها مراكز القوي الأساسية في البلاد (الجيش، المؤسسة الأمنية، النُخب الحزبية المحترفة، حفنة من رجال الأعمال والمافيات، ونحو ألف أسرة من أشراف الباكستان).والصحافي الباكستاني نجم سيتي، رئيس تحرير أسبوعية فرايدي تايمز التي تصدر في لاهور، يتذكّر الشهر الطويل الذي قضاه تحت الإعتقال والإستجواب في ضيافة الإستخبارات الباكستانية، ثمّ يطلق هذه العبارة الصاعقة، في التعليق علي انقلاب مشرّف: ليس هذا محاق الديمقراطية. لقد ماتت الديمقراطية من قبل . وبالفعل، كان الجنرال مشرف قد تعشّي برئيس الوزراء السابق نواز شريف بعد أن ظنّ الأخير أنه يستطيع تناول العسكر لقمة سائغة علي مائدة الغداء. وتبيّن سريعاً أنّ الجيش منحاز إلي العشاء العسكري وليس إلي الغداء المدني، وأنّ المؤسسة الأمنية (هذه التي اعتمد عليها شريف في قمع الصحافة والأحزاب المعارضة والشارع العريض، وكانت بمثابة سيف مسلط علي عنق المؤسسات المدنية)، ليست قادرة علي تنفيذ مناورة مضادّة لهجوم الجيش.إلي هذه الـ باكستان يصل الرئيس الأمريكي اليوم، داعياً إلي إغلاق خلايا الإرهاب، وكأنّ ما تصنّعه حكومة مشرّف من تلك الخلايا أقلّ ممّا تصنّعه سياسات الولايات المتحدة في أربع رياح الأرض. وعلي مبعدة امتار من غوانتانامو الصغري ، في تلك الـ أفغانستان الجائعة البائسة التائهة المخدّرة بالأفيون والجهالة، هبطت طائرة بوش. وأمّا في الهند فإنّ سيّد البيت الأبيض لم يجد مَن يصغي إليه سوي رهط الأقلية، حيوانات الهند الثرّية سجينة أقفاص الذهب كما في تعبير أرونداتي روي، وبالتالي كان بعيداً تماماً عن نبض البلد الحقيقي.وكيف لا تكون هذه حال أمّ جولاته الآسيوية، إذا كان يهبط في سجن، ثمّ ينتقل إلي جوار حديقة حيوان، لينتهي في دكتاتورية عسكرتارية!9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية