بمناسبة الذكري السنوية الأولي لوفاته: هِشام شرابي بين النظام الأبوي و العقل المجتمعي

حجم الخط
0

بمناسبة الذكري السنوية الأولي لوفاته: هِشام شرابي بين النظام الأبوي و العقل المجتمعي

علاء الدين الأعرجيبمناسبة الذكري السنوية الأولي لوفاته: هِشام شرابي بين النظام الأبوي و العقل المجتمعي إن الفلسطيني المكافح لا يمثل فلسطين وحسب، وإنما يمثل إرادة التحرير الإنساني الشامل . رائد بين عمالقة الفكر العربي، نفقده جسدا، ونخلده فكرا خصبا وعقلا حرا مقتحما، يدخل إلي أعماق أزمة الأمة العربية، فيكشف عنها بصراحة وجرأة، خاصة حين يقول: كشفت معاناتنا في العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة عن عقم الإيديولوجيات المتحجرة وعجز الأحزاب والقيادات الثورية عن إحداث التغيير المطلوب، وأدت بنا إلي الهرب نحو الماضي للتخلص من الحاضر وإلي اللجوء إلي الغيـبـيات الدينية للتحرر من الوضع الراهن وآلامه (النقد الحضاري للمجتمع العربي، ص9). وفي هذا المقال المكثف، سنكتفي بعرض ومناقشة ثلاث نقاط مختارة من فكره: أولا، التخلف الحضاري، ثانيا، نظرية النظام الأبوي ، لا سيما من حيث علاقتها بنظرية العقل المجتمعي ، ثالثا، ثورة الإسلام والثورة القومية. أولا: التخلف الحضاريفي خضم بحثه الأحفوري المعمق عن جذور أزمة المجتمع العربي، توصل شرابي إلي أن معظم أسبابها الرئيسية تعود إلي عامل التخلف الحضاري . وهو يلتقي في هذا الطرح مع عدد من المفكرين البارزين ومنهم قسطنطين زريق، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وزكي نجيب محمود. ففي كتابه النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي يقول شرابي: إن التخلف الذي أقصده هو غير التخلف الاقتصادي أو الإنمائي أو التربوي ، أي أنه أعمق وأبعد وأشمل من ذلك. ثم يحاول أن يوضح هذه العبارة ويحدد موضع الداء فيقول: إن التخلف الذي نجابهه هو من نوع آخر، إنه يكمن في أعماق الحضارة الأبوية (والأبوية المستحدثة)، ويسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد، وينتـقل من جيل إلي آخر كالمرض العضال. وهو أيضا مرض لا تكشف عنه الفحوص والإحصاءات. إنه حضور لا يغيب لحظة واحدة عن حياتنا الاجتماعية، نـتـقبله من غير وعي ونتعايش معه كما نـتقبل الموت نهاية لا مهرب منها، نرفضها ونتـناساها في آن .(ص14) ومع أنني أغْبـطـُُهُ علي تعبيره البليغ في وصف أبعاد تخلفنا، وأوافقه علي اعتبار الحضارة الأبوية مكمنا هاما لداء التخلف، غير أنني أقترح أن نـُبدل تعبير الحضارة الأبوية بـ الثقافة الأبوية . لأنني أري أن الثقافة أوسع من الحضارة ، خاصة لأن الأولي تنطبق علي جميع الشعوب البدائية والمتطورة، علي السواء. ومن جهة أخري، فإنني أري أن الثقافة الأبوية هذه تشكل جزءا مهما من العقل المجتمعي ، لا سيما وأن نظرية العقل المجتمعي ـ (التي تفترض وجود عقل مجتمعي، يتكون من مجمل المسلــَّمات السائدة في أي مجتمع، بما فيها الأعراف والتقاليد والمعتقدات، وما يرتبط بها من قيـَّم) ـ تنطبق علي جميع المجتمعات، في كل زمان ومكان. وقد شرحنا ذلك في كتابنا أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل .وعودة إلي تعريفه للتخلف، يستطرد الأستاذ شرابي قائلا: وعلي الصعيد النفسي ـ الاجتماعي، ومستوي النظرية والممارسة يتخذ هذا التخلف أشكالا عدة تتميز عن بعضها بعضا بصفتين مترابطتين: اللاعقلانية والعجز؛ اللاعقلانية في التدبير والممارسة، والعجز في التوصل إلي الأهداف. اللاعقلانية في التحليل والتنظير والتنظيم، والعجز عن الوقوف في وجه التحديات والتغلب عليها. إنه التخلف المتمثل في شلل المجتمع العربي ككل: تراجعاته المستمرة، في انكساراته المتكررة، في انهياره الداخلي . )ص14، النظام الأبوي) وهو يري أن السبب الجذري لجميع هذه المظاهر هو النظام الأبوي السائد في المجتمع العربي. وعلي خلاف هذا الطبيب الماهر، الذي يضع إصبعه علي موضع الداء، نجد أن الكثير من الكتاب العرب المعاصرين يعرضون أزمة الأمة العربية الراهنة والمتفاقمة، بطريقة إنفعالية: سطحية أو متشنجة. فإما يتصارخون من ظلم الآخر وجوره، ويعلقون جميع أزماتنا ونكباتنا علي شماعته، فيحملون الغرب (وبخاصة أمريكا، وربيبتها إسرائيل) وحده، مسؤولية هذه الأزمة، ويرفضون الاعتراف بأن جزءا كبيرا من المسؤولية يقع علي عاتق الذات ، بسبب تقصيرها في اللحاق بموكب الحضارة الحديثة الصاعدة ابتداء، ولا ينتبهون إلي أن هيمنة الآخر وتحكمه فينا، يعود سببه الجذري، قبل كل شيء، إلي ضعف الذات وتخلفها الحضاري، وهل هناك فرق بين الأمرين؟؛ وإما يستـنجدون بحضارتنا العظيمة السالفة، للمزايدة علي منجزات الحضارة الراهنة، أو يتفاخرون بها لتعزية الذات أو تهدئة تأنيب الضمير، أو يستخدموننا دفاعا عن تهمة التخلف الراهن، كالثري الذي فقد ثروته ومكانته، فأصيب بلوثة عقليه جعلته يهذي ويكرر ما كان يتمتع به من ثروة وسطوة، أو كالأعرابي البسيط الذي يقول: فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير ـ وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير . وبدل أن يؤدي هذا التغني بالحضارة العربية الإسلامية السالفة، إلي بذل الجهود للحاق بركب الحضارة الصاعدة، أدي إلي التبرير والتواكل والتقاعس، وبالتالي إعادة إنتاج التخلف. لذلك يقول شرابي: إذا أردنا لمجتمعنا العربي أن يتجاوز أزمته المتفاقمة، وأن يسترجع قواه ويدخل ثانية في مجري التاريخ، فلا بد له من القيام بعملية نقد حضاري يمكنه من خلق وعي ذاتي مستقل واستعادة العقلانية الهادفة (النقد الحضاري للمجتمع العربي، ص10). وهو ينتقد، من جهة أخري، المثقف العربي وتذبذبه الفكري، لا في موقفه المساوم إزاء السلطة السياسية وحسب، بل في موقفه المتردد تجاه السلطة الدينية والتيار الأصولي أيضا . كما يميز بين الحركات الأصولية والتراث الديني، ويري أن القائلين بالحل الديني لا يملكون حق تمثيل الحقيقة الدينية. فالدين الإسلامي ليس حكرا علي فئة من المسلمين دون الفئات الأخري، فالدين هو ملك كل مسلم آمن بالله ورسوله (النقد الحضاري، ص17). ثانيا: النظام الأبوي يعرف شرابي مفهوم المجتمع الأبوي بأنه نوع محدد من البنية الاجتماعية ـ السياسية، وهي بنية ذات سلــَّم قيم وخطابات وممارسات، وتعتمد هذه البنية علي نمط تنظيم اقتصادي مميز . ويضيف قائلا إن الأبوية هي سمة العلاقة الاجتماعية المركزية للتشكل الاجتماعي السابق علي الرأسمالية (النظام الأبوي، ص33). أما تعريفنا لـ النظام الأبوي ، بمفهومه العام فيقضي بأنه: نظام اجتماعي يستـند إلي روابط تراتبـية بين أفراد المجتمع، يخضع بموجبها البعض للبعض الآخر، ويأتمر بأوامره ونواهيه، بدرجات مختلفة وبأشكال مختلفة، رهنا بدرجة تطور المجتمع. وهكذا يجد الفرد نفسه في مثـل هذا النظام، و خصوصا في المجتمعات المتخلفة، محكوما بعلاقات عمودية، يخضع فيها الأدني للأعلي : أي الصغير للكبير، والمرأة للرجل، والمحكوم للحاكم، والمرؤوس للرئيس، والمقلـِد (بالكسر) للمقلـَد (بالفتح )، والرعية للراعي (لاحظ أن الراعي في الأصل اللغوي هو راعي الغنم والرعية هم الأغنام)، والفقير للغني. وتبعا لهذه العلاقة التراتبية العمودية، يُصنـَفُ الأفراد والجماعات في السلــّم الاجتماعي، وبالتالي في سلــّم الأولويات الذي يحدد نسب الحصول علي الحقوق والامتيازات، التي لا تخضع لمعايير الكفاءة الفكرية والعلمية والعملية، ومستوي الإنتاجية، بل لمجرد الانتساب إلي فئة معينة من الفئات المشار إليها أعلاه، أو الانتساب إلي عشيرة أو طبقة أو أسرة. والبديل عن هذه العلاقات العمودية هو العلاقات الأفقية القائمة علي المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، وإتاحة نفس الفرص لجميع أفراد المجتمع من دون أي اعتبار للجنس أو الأصل أو المعتـقـد أو الفئة أو الطبقة أو العشيرة.ولاحظ شرابي أن المجتمعات الغربية قد توصلت إلي هذه العلاقات الأفقية نتيجة تطورها الحضاري. فالنظام الإقطاعي الأوروبي الذي كان سائدا في القرون الوسطي لم يكن قائما علي النظام الأبوي، بل علي أساس نظام التعاقد الاجتماعي.(ص72 النظام الأبوي) وهكذا تتوفر في تلك المجتمعات علاقات أفقية تتجلي من خلال درجة معينة من المساواة في الفرص وفي الحقوق والواجبات فضلا عن حرية التعبير وإبداء الرأي والاختلاف والاعتراض. ولنا تحفظ علي هذا الطرح يتجلي في أننا نعتقد أن جميع المجتمعات تدين بهذا النظام التراتبي (الأبوي)، حتي المجتمعات التي نالت قسطا كبيرا من الحضارة، ولو بدرجات أقل. فضلا عن أن المجتمع الغربي المتقدم حضاريا، قد ينطوي علي حركات أصولية أبوية متغلبة أحيانا.. . أليست الإدارة الأمريكية المؤمنة بعقيدة مسيحية أصولية، خاضعة لفرسانها من المحافظين الجدد الذين يـبشرون بالثقافة الأبوية؟ فكتاب النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة لأستاذ العلاقات الدولية الأمريكي أندروا باسفيتش الصادر في شباط (فبراير) 2005، يعرب عن إيمان المحافظين الجدد بدور السلطات التقليدية كالآباء والجيش ومؤسسات تنفيذ القانون والأسرة داخل المجتمع الأمريكي. وقد رفض المحافظون الجدد الثورة الثقافية التي اجتاحت أمريكا في الستينات والتي نادت بالتعددية الثقافية وحقوق الأقليات والنساء، إذ رأي هؤلاء أن الهجوم علي المؤسسات التقليدية من شأنه أن يضعف أمريكا داخليا مما يضعفها خارجيا. أما السلطة الأبوية في المجتمع العربي، التي تشكل أهم مظهر من مظاهر النظام الأبوي فيه ، فإنها تطغي فتصبح كما يسميها شرابي ذهنية أبوية (أو عقلاً مجتمعيا، بتعبيرنا)، تتمثل في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوبا لفرض رأيها فرضا. إنها (ذهنية امتلاك الحقيقة) الواحدة التي لا تعرف الشك ولا تقرّ بإمكانية إعادة النظر (ص 16، النظام الأبوي). ولئن كنت نُعَبـِر عن هذه الذهنية الأبوية بـمصطلح العقل المجتمعي ، الذي يستغرق النظام الأبوي ، كجزء من أجزائه المهمة، نري أن هذه الذهنية السائدة، حتي عصرنا، والمُغرِقة في الاتـِّـباع، موروثة من عصور التخلف، وخاصة، من الفترة المظلمة التي أعقبت عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، فضلا عن عصور البداوة التي كانت تتحكم في العقل المجتمعي العربي في الحقبة الجاهلية. وقد حارب الإسلام هذه العقلية المجتمعية البدوية، فقال الرسول (ص) في خطبة الوداع إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي علي عجمي فضل إلا بالتقوي .ثالثا: ثورة الإسلاموثورة القومية العربيةويري شرابي أن المجتمع العربي شهد حتي القرن العشرين حركتين اجتماعيتين أساسيتين فقط، عملتا علي تجاوز هوية العائلة/ العشيرة وتطلعاتها، أي ثورة النبي الكريم في القرن السابع في دعوتها إلي إحلال أمة الإسلام مكان القرابة القبلية، ثم الحركة القومية العربية في دعوتها إلي جمع عرب القرن العشرين تحت راية عقيدة علمانية في وطن قومي واضح الحدود الجغرافية (ص70، النظام الأبوي).ونعلق علي هاتين الحركتين بنقطتين:1 ـ الإسلام كان ثورة عظيمة علي الجهل والخرافة وعلي البداوة. بيد أنه لم يتمكن من القضاء علي الطباع القبلية، بل ظلت هذه الذهنية تنخر في الحضارة العربية الإسلامية، منذ وفاة الرسول، وتجلت، بين أمور كثيرة أخري، بالصراع علي الخلافة فيما بين بطون قريش نفسها. ذلك الصراع الذي استمر بتأثيره السلبي علي كيان الأمة حتي يومنا هذا. ولنا من الخلافات والصراعات القائمة اليوم في العراق ولبنان وسورية، بوجه خاص، مثال ودليل علي ذلك. وقد حللت وشرحت السبب الرئيس لاستمرار هذه الظاهرة بنظرية” عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة علي نحو يكفي لمحو الذهنية البدوية”، في كتابي المشار إليه أعلاه. 2 ـ وفيما يتعلق بالحركة القومية العربية العلمانية الداعية إلي جمع العرب في وطن قومي واحد، يحقق آمال الأمة ويقف درعا ضد أعدائها، نلاحظ بكل وضوح أن أكثر الجهات المعارضة لها تصلبا، هي الطبقات الحاكمة في المجتمعات الخليجية حيث يتجلي النظام الأبوي القبلي (أي العقل المجتمعي البدوي بتعبيرنا)، في أوضح صوره، فضلا عن الحركات الأصولية التي هي الأخري خاضعة للنظام الأبوي المتزمت، والذي يتجلي برفض الآخر أو إلغائه بل تصفيته تماما. والمفارقة الكبري أن هذه الاتجاهات الخليجية والإسلامية المتطرفة، تلتقي تماما مع خطط الدول الغربية وعلي رأسها أمريكا، وربيبتها إسرائيل، في تدمير أية محاولة لتوحيد العرب في أمة واحدة. أما النظام الأبوي المستحدث، الذي طرحه المفكر هشام شرابي، فله حديث طويل آخر، يضيق به هذا المجال. بطاقة:بطاقة تعريف بالمرحوم الدكتور هشام شرابيـ ولد في مدينة يافا (فلسطين) في عام 1927، وتوفي في بيروت في 13كانون الثاني/ يناير، 2005.ـ تخرج من جامعة بيروت الأمريكية في عام 1947، والتحق بجامعة شيكاغو، حيث كتب أطروحته في التاريخ الحضاري في عام 1953.ـ انضم إلي الحزب القومي السوري الاجتماعي عام 1947، الذي أسسه أنطون سعادة. وكان مسؤولا عن فرع الحزب في أمريكا حتي انسحابه منه في 1955.ـ قام بتدريس مادة تاريخ الفكر الأوروبي في جامعة جورج تاون، وشغل كرسي عمر المختار ، للحضارة العربية في الجامعة. ـ تولي رئاسة تحرير مجلة دراسات فلسطينية الصادرة عن مركز الدراسات الفلسطينية.ـ ساهم في إنشاء عدد من المؤسسات التي تهدف إلي تحقيق فهم أفضل للعالم العربي وللقضية الفلسطينية.ـ وبرز من بين هذه المؤسسات مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون (1975)، المركز الاكاديمي الوحيد المخصص لدراسات العالم العربي في الولايات المتحدة.ـ كما ساهم في تأسيس مركز التحليلات السياسية حول فلسطين في واشنطن في 1990، ثم صندوق القدس، المنظمة الفلسطينية التي تقدم منحا للطلاب من فلسطين. ـ له عدة مؤلفات باللغتين العربية والإنكليزية أهمها: المثقفون العرب والغرب؛ مقدمات لدراسة المجتمع العربي؛ الجمر والرماد؛ النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي؛ النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين. محام وباحث من العراق يقيم في نيويورك 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية