بحثاً عن القاعدة وزعيمها

حجم الخط
0

بحثاً عن القاعدة وزعيمها

امجد ناصربحثاً عن القاعدة وزعيمهالا نعرف ماذا كان يدور في ذهن ذلك الشاب الذي قذفته ظروف احتلال مخيمه عام 1967 (بعد احتلال أرضه الأولي عام 1948) الي عمان، مع عدد كبير من أبناء منطقته، ليجد نفسه أمام مهمة صعبة: العمل والدراسة. لم يكن أنهي دراسته الثانوية بعد، ولأنه لم يتحدر من عائلة مرتاحة مادياً فقد كان عليه ان يعمل سائقاً ويواصل، في الوقت نفسه، دراسته.لعله كان يفكِّر، في ذلك العمر المبكر، في مواصلة تقاليد التضامن العائلي المرعية الاجراء في بلادنا: الكبير يرعي الصغير، والمقتدر أكثر يبذل للأقل اقتداراً.قلة في عالمنا العربي، يومذاك، كانت تدير ظهرها لهذا التكافل المضني، ومن يفعل، يجد نفسه في مهبّ عاصفة من النظرات المستنكرة.شخص يتنكر لهذا التكافل التلقائي كان يعتبر ساقطاً اجتماعياً.لكنَّ عمَّان التي استهل حياته العملية فيها سائقاً لشاحنة في مصنع، لم تكن الوجهة التقليدية لأبناء منطقته الذين غالباً ما يتوجهون، بحكم الجغرافيا والعلاقات الخاصة، الي القاهرة التي سرعان ما توجه إليها.هناك سبب آخر للذهاب الي القاهرة: فهي أقل كلفة علي الصعيد المعاشي من عمان.كان محظوظاً لأنه لم يكن بكر عائلته. لم يكن الأخ الأكبر الذي يقع عليه، عادة، عبء المسؤولية.. وبما أن لديه أخاً أكبر يعمل في السعودية، فقد كان ممكناً له أن يدرس في القاهرة.قاهرة تلك الأيام لا تشبه قاهرة اليوم.لقد كان محظوظاً، أيضاً، أنه لحق أواخر العصر الذهبي للقاهرة علي غير صعيد، كان هناك ما يزال عبد الناصر، ومشروع الألف كتاب و أهرام محمد حسنين هيكل، و الطليعة ، ونجيب محفوظ ويوسف ادريس وصلاح عبد الصبور وعبد الحليم حافظ وصلاح جاهين و المسرح القومي و مسرح الجيب الخ..هكذا، سينهل الشاب من هذه القاهرة التي تفور بالثقافة والفنون والصحافة وأسماء الرواد وبقايا العصر الناصري، لكنه، لن ينسي، (وهذه ميزة ابناء الفقراء) أنه يدرس علي حساب أخيه.. فلن يترك بريق القاهرة، يصرفه، عن هدفه: انهاء الدراسة في أسرع وقت ممكن ليرفع عبئه عن أخيه وليدخل، بالتالي، في دورة التكافل العائلي.في القاهرة يعرف الشاب ماذا يريد.إنه يريد أن يصبح صحافياً، وربما كاتباً قصصياً أيضاً.ستكون القصة بدايته في الكتابة.. لكنه، لسبب لا أعلمه، لم يواصل كتابتها، بل ستغويه أكثر: القصة الصحافية التي سيبرع فيها. سيدرس الشاب الذي أدرك بحسه الغريزي ان الانكليزية، ستكون لغة العصر، فضلاً عن كونها سلاحا وظيفياً أيضاً، هذه اللغة الي جانب مواصلة دراسته في كلية الاعلام بجامعة القاهرة. سيتخرج في الوقت المحدد ويبدأ العمل.. فدوره قد حان للانخراط في خلية النحل العائلية.لم اسمّ، حتي الآن، ذلك الشاب الذي اتحدث عنه.وقد لا تعرفون من هو.. لأن هذه الحكاية تتشابه، في بداياتها، مع حكايات العديد منا نحن الذين لم نولد وفي أفواهنا ملاعق من ذهب.ولكنها قد لا تتشابه، في أطوارها اللاحقة، مع حكايات اخري ينقصها العصب المشدود والاحتشــاد الداخلي والجرأة علي اقتحام مناطق الظلال.حكاية الحياة تلك مثل قصة لزكريا تامر تجمع الواقعي بالفنتازي والسردي بالشعري.. في اطار ايقاع سريع ومشحون بالترقب. لن ادعكم تتكهنون أكثر عمن يكون هذا الشاب.إنه عبد الباري عطوان.هناك عرف أرسيناه في القدس العربي هو التالي: ان لا نكتب عن بعضنا البعض وان لا يكتب الآخرون عنا حتي وان تعلق الأمر بما هو موضوعي تماماً مثل اصداراتنا، غير أنني سأضرب، هذه المرة، صفحا عن ذلك العرف القاسي، ولكن ليس بلا سبب أو مناسبة.والمناسبة تستحق الوقفة: صدور كتاب عبد الباري عطوان التاريخ السري للقاعدة باللغة الانكليزية عن دار الساقي اللندنية.فهذا هو الكتاب الأول لعبد الباري، ولكنه ليس اي كتاب. فقد كان بامكان عبد الباري، الذي جمعتنا، معاً، منذ لحظة الصفر مغامرة اصدار صحيفة القدس العربي التي استغرقت الشطر المهني الأهم في حياتنا، ان يجمع كتاباته فيها، علي غرار كثير من رؤساء التحرير والصحافيين، في أكثر من كتاب.. ولكنه لم يفعل.تحدثت، في مستهل هذه المقالة، عن بداية عبد الباري القصصية التي لم يمض بها قدماً.. وفي ذهني اكثر من فصل من فصول كتابه هذا افادت من تلك التجربة.. وذلك الشغف الذي لم يكتمل.سيتوقف المهتمون بتاريخ القاعدة وحاضرها وطريقة تفكيرها عند فصول عديدة يحفل بها هذا الكتاب .. ولكنني لن أتوقف عند ذلك.ما يهمني، هنا، هو تلك الطريقة التي يجدل فيها عبد الباري المادة السياسية التحليلية بالريبورتاج الأدبي، والتي تتجلي، خصوصا، في الفصلين الافتتاحيين اللذين يكرسهما لرسم بورتريه لصاحب غزوة منهاتن ولقائه به في جبال تورا بورا الوعرة.في هذين الفصلين نقع علي ذلك الشغف الذي ابداه عبد الباري، منذ مستهل حياته المهنية، بـ القصة الصحافية ، حيث يتداخل السرد بالمعلومات، والوصف التفصيلي بالافكار، والسيولة التعبيرية بالتوتر الذي تعكسه المغامرة الصحافية.فالرجل، موضوع اللقاء، ليس أي رجل عادي، والمكان الذي يرتحل اليه الصحافي سعياً وراء السبق و البحث عن الحقيقة ، ليس مكانا للنزهة والاستجمام.فبن لادن يومها كان يتقدم، حثيثاً، علي قائمة اكثر الاشخاص المطلوبين في العالم، وافغانستان (وتورا بورا بالتحديد) من اكثر مناطق العالم خطراً.من هذين العنصرين ينبثق التوتر والتشويق والفضول الخطر الذي يطبع الرحلة الي جبال افغانستان الوعرة للقاء الرجل الذي سيصبح، بعد وقت قليل، المطلوب رقم واحد في العالم.قد يلحظ القارئ افتتانا خفيا عند عبد الباري عطوان حيال الرجل الذي سعي، من خلال وسيطه في لندن، الي لقائه، ولكن هذا الافتتان لا يمنع عبد الباري من تحديد موقفه من ممارسات القاعدة ، اكثر ربما، من منطلقاتها السياسية.صحيح ان عبد الباري لا يبرر افعال القاعدة ، خصوصاً، بعد الحادي عشر من سبتمبر، ولكنه لا يري هذه الافعال مجرد غرام بالقتل والتدمير العشوائيين.فهو، في مقدمة كتابه، يدعو لدراسة الجذور المؤسسة لهذه الظاهرة، سواء تعلق الأمر بفساد البني السياسية والاقتصادية الرسمية العربية، ام في السياسات الدولية، الامريكية خصوصاً، حيال العالمين العربي والاسلامي.من يقرأ كتاب عبد الباري عطوان التاريخ السري للقاعدة سيجد نفسه أمام كتابة اكثر حذراً وتفحصا لظاهرة الارهاب الاسلامي ، خصوصاً في طورها الزرقاوي الذي لا يميز بين هدف مدني وآخر عسكري.ومن وجد، في الفترة الاخيرة، تبايناً ، او اختلافاً في موقفي عبد الباري عطوان وكاتب هذه السطور في خصوص الادانة الصريحة التي لا لبس فيها للاعمال التي تستهدف المدنيين بصرف النظر عن دينهم او عرقهم، عليه ان يقرأ مقدمة كتاب عبد الباري ليجد تطابقاً في الموقفين. التاريخ السري للقاعدة يقدم صورة غير مألوفة ربما، لقراء ومشاهدي عبد الباري عطوان، ويسهم، وهذا هو الأهم، في دراسة واحدة من أبرز ظواهر عصرنا، من داخلها.ليس كتاب عبد الباري مجرد عرض واسع، مطلّع، ومتابع عن قرب لهذه الظاهرة، وانما تحليل عميق لجذورها وتجلياتها، من دون ان يدفع قارئه الي التثاؤب والملل.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية