بابل القديمة ولعبة الأمم الجديدة: مشاهدة صور العراق كوسيلة لإعادة تركيب العالم وتدمير الثقافة الكونية.. لإحلال امبراطورية الاعتقال
ابراهيم درويشبابل القديمة ولعبة الأمم الجديدة: مشاهدة صور العراق كوسيلة لإعادة تركيب العالم وتدمير الثقافة الكونية.. لإحلال امبراطورية الاعتقالمنذ احتلاله في نيسان (ابريل) 2003 اصبح العراق في مركز وعي العالم، ولا مركزه، فصوره موجودة وغير موجودة، مشاهدة وغير مشاهدة، حاضرة في الزمان والمكان، في مراكز التسوق، علي اغلفة المجلات، في آلاف العناوين التي تصدر كل يوم، عن بطولات جنود في الفلوجة، عن سياسيين حرروا العراق من ديكتاتورية صدام، وصحافيين نقلوا الحدث العراقي من غرف فنادقهم التي يحرسها مرتزقة، جاءت بهم الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات للعراق. والغريب ان العراق الذي يعاني اهله من مآس يومية، وقتل ودمار للبنية التحتية، في الوقت الذي يختلف فيه الساسة المتمترسون في منطقة اسمها المنطقة الخضراء علي مواعيد الصلاة لم ينتج صورته الاكيدة، الصورة التي تلخص الالم العراقي المسكون في بلاد الرافدين منذ ابد الآبدين، ليس هنا غورنيكا عراقية، مثل غورنيكا بيكاسو، ولا صورة الجثث المنتفخة للفلسطينيين الذين ذبحهم شارون وحلفاؤه في صبرا وشاتيلا، ولا صورة محمد الدرة المتربع خوفا ينتظر مصيره، ولا صورة طفلة النابالم الفيتنامية التي غيرت مسار العملية العسكرية الامريكية، هناك. في المقابل هناك آلاف الصور التي تحضر من العراق كل يوم ولكنها لا تحمل معني، حتي صور فظائع سجن ابو غريب الرهيبة لم تنتج ذلك الحس الذي انتجته الصور السابقة، ربما لان مشاهدي العالم، علي الاقل الذين تتاح لهم فرصة مشاهدة التلفاز، يعيشون في لجج من الصور والخيالات. ولكن غياب صدمة الصورة العراقية لها علاقة بثقافة العولمة، والطريقة التي يعكس فيها المشاهد مشاكله وقلقه علي هذه الصورة. ولها علاقة بمفاهيم السلطة والقوة، اي عملية القولبة، والتنميط التي تخضع لها الصورة من قبل السياسة، خاصة في ظل الظروف الناتجة عن الازمات السياسية. ولعل الامر مرتبط بطريقة اخري بالتطور الحاصل في مجال المعلوماتية وثورة المعلومات، فالصورة وتحليل لهجتها الخاصة تتطلب بالضرورة مدخلا متعدد الاتجاهات، متقاطعا مع علوم ومجالات فكرية مختلفة، ومداخل بحث اجتماعي، انثوي، اذا اخذنا بالاعتبار ان ثقافة العولمة هي بالضرورة ثقافة ذكورية بالدرجة الاولي، وهناك اتجاه اخر، له علاقة بعادية الصورة، فالدهشة التي اعترت العالم عندما ظـهرت صورة الفتاة الفيتنامية الخارجة من حقول النابالم، لم تعد موجودة، نظرا للتحول الذي تعرضت له الصورة باعتبارها نتاجا من نتاجات الثقافة الرأسمالية. فرأس المال تحول في الستينيات الي صورة، وفي مرحلة ما بعد ايلول (سبتمبر) صارت سلاحا ذكيا، استخدمت بطريقة ذكية. والغريب ان التطور الكبير الذي حدث في تكنولوجيا الصور المرئية تم بفعل التطور الكبير والاستثمار العسكري الهائل فيها، ولهذا حملت الصور المرئية طابعا عسكريا.ان معالجة الصورة، الحرب، الاحتلال، الالم الانساني، يتطلب كما بينا اعلاه مدخلا متعدد الاتجاهات يأخذ بالاعتبار المحلية وعلاقتها بالكونية، ففي الوقت الذي لم يعد للمحلية فيه اي اهمية في ظل ثقافة طاغية علينا، الا ان هذا لا ينفي وجود خصوصيات محلية، حادة قادرة علي التواصل، كما وضح ذلك الناقد المعروف ادوارد سعيد. الصورة هنا، تحولت الي سلاح، ولكن لا معني له، فالمشاهد للحرب في لونغ ايلاند في مركز للياقة البدنية لا تهمه الصور عن الدمار والفوضي، والنهب الذي حدث بعد انهيار النظام. ولكن نظرة اكثر دقة تظهر ان الحرب ليست بعيدة عن المشاهد الامريكي، اذ تتمظهر في اكثر من اطار، في شكل السيارات التي يفضلها الامريكيون سوف او هامر في الطريقة التي يبحث فيها الناس توسعة بيوتهم بحثا عن فضاء اوسع. واقبال الامريكيين علي سيارات سوف المزركشة بالصور والكلمات التي تشير للولاء والوطنية لامريكا نثق بالله هو رد فعل غير مباشر علي الحرب، مع انها اقل السيارات آمانا، ولكن رد الفعل يختلف عن الطريقة التي شاهد فيها الهندي الحرب، كما سجلته ارونداتي روي، او طارق علي من بريطانيا. واختيار الحي الامريكي، لتحليل او فهم الطريقة التي تعامل فيها الامريكي مع الحرب، مهم لان الحي اصبح في العقدين الاخيرين يجسد الحياة الامريكية، تماما كما تعبر عنها الدراما التلفزيونية الجديدة ربات بيوت يائسات ، حيث تدور احداث المسلسل في الحي، ومعظم الامريكيين لا يعيشون في قلب المدن، والحي اصبح يشير الي لامكان (لا معني له)، وليس الي ثقافة هامشية (مقاومة). وعليه فان الربط بين رؤية ابن الحي الامريكي الجديد والحرب في ظل الثقافة الكونية، يجب ان يعيد تشكيل المفردات اليومية في حياة هذا الامريكي، الذي تدعوه الثقافة الاستهلاكية للتحرك دائما، الشراء دائما، والدوران في مجال الاستهلاك ولكن في مكان واحد. ولان الثقافة الكونية تؤدي الي ولادة ثانية للقارئ، علي حد تعبير اللغوي والسيمولوجي الفرنسي المعروف رولان بارت، فان ثقافة الحي الامريكي وعلاقتها بالحرب تظل مهمة في هذا السياق. ولكن الفرق بين هذه الثقافة انها ليست هامشية، انها عن الدوارن فقط، لاننا عندما نصفها بالهامشية، فاننا نعتبرها ثقافة مقاومة. لان الحي الامريكي في بحثه عن فضائه الخاص، هو في النهاية عرضة للخطر، وله محدداته، كما حدث في انقطاع التيار الكهربائي 2003 في امريكا والذي اشار لمحددات بحث الامريكي عن الامان في بيته الواسع، واشارت الي مشاكل في الخدمات، ومعمار البيت الحديث. في الماضي كان المطبخ ومدفأته قلب البيت، للطبخ والتدفئة، اما الان فالغاز والكهرباء يشكلان عصب البيت، ومع ذلك فانقطاع التيار الكهربائي، هو عرض عن مشاكل امريكا في العراق التي فشلت بعد ثلاثة اعوام من احتلال العراق اعادة بناء التيار الكهربائي والماء، في الوقت الذي استطاع فيه صدام حسين اعادة التيار الكهربائي والخدمات الاساسية بعد شهرين من حرب الخليج عام 1991. هاجس الخوف والبحث عن امان بدا واضحا في العديد من افلام الرعب التي بدأت تظهر في امريكا في نهاية سبعينيات القرن الماضي مثل رعب اميتفيل اومين ، ابن روز ماري الخاتم الذي قام علي نسخة يابانية.منحي اخر، بدا مرتبطا او انعكاسا للحرب علي العراق هو العودة الي ماضي بلاد الرافدين، وفي هذا السياق هو التركيز في عناوين الكتب الصادرة في امريكا وبريطانيا علي العراق باعتباره ارض بابل، وبابل في دنيا الصورة تختلف من موقع الي اخر. والسؤال عن بابل هو عن الصورة وكيف شاهد مواطنون العراق وهو يحترق او ابناءه وهم يعذبون او كيف يشاهد العالم ابناء العراق يقتلون بعضهم البعض، في مدي الصورة وتفاصيلها. ففي مجال ثقافة العولمة لم يعد للخصوصيات الثقافية او المحلية اي معني باعتبار ان كل مكان علي هذه الارض هو جزء من حركة العولمة، الا انه وبالعودة الي الطريقة التي شكل فيها الغرب رؤيته عن الخارج او الشرق، فرؤيتنا عن العراق/ بابل تعتمد علي المرسلة الاعلامية التي يرغب المشاهد في رؤيتها او المرسلة الاعلامية المتاحة له، فالمشاهد الامريكي الذي كان يشاهد عملية الصدمة والترويع من مركز اللياقة في لونغ ايلاند يختلف عن المشاهد الذي كان يتابع الاحداث علي قناة الجزيرة في مخيم من مخيمات اللاجئين. فالصورة تحتوي علي ثلاث طبقات متقاطعة، اولا المكان او المحل، الثاني: محتوي الصورة واخيرا: الخيال العام الذي يحاول المشاهد بناء حس عالمي عما يشاهده. وخلال حرب العراق الاخيرة جاءت من بابل كمية هائلة من الصور وغمر المشاهد العالمي بفيضان من الصور علي غرار الفيضان الكبير الذي اجتاح ارض الرافدين في الحقب القديمة، وتدين الصور التي ليس لها سابقة في التاريخ الانساني الي الثورة في مجال الصور الرقمية ديجيتال كاميرا خذ مثلا الصور التي خرجت من سجن ابو غريب التي تعد بالالاف وكأن هم الجنود/ الحراس/ الجلادين هو ممارسة هواية التصوير والسادية علي المعتقلين بدلا من حراستهم. ولان الصورة تغمرنا فاننا نشاهدها ولا نشاهدها، في اثناء انتظارك لكي تأخذ مثلا الوصفة الطبية من الصيدلية تغمرك صور من قناة فضائية عن الدواء، تنتظر بفارغ الصبر كي ينتهي الصيدلي من تعبئة الطلب، تواجهك الصور ولكنك لا تلتفت اليها، في الفندق، في محطات قطار الانفاق، صور تغمرك عن الازياء، المطاعم وحتي الاخبار. وهنا فان العلاقة بين النشاط الذي يقوم به الشخص والصورة المعروضة علي الشاشة هي جزء من مجال اوسع عن العلاقة بين الصورة وعلاقات القوة فيها، الصور التي خرجت وتخرج من العراق تستعصي علي التصنيف انها مثل المقاتلة المحملة باطنان القنابل الذكية، سلاح دمار، خاصة في وضع الازمة الاقتصادية، فالصورة لم تعد محايدة، بل مثلها مثل الخطاب السياسي صارت مجالا للقولبة والتلاعب، خاصة في ظل الثورة المعلوماتية وظهور البرامج الكمبيوترية التي تمنح مستخدمها الفرصة للتلاعب والتنويع علي الصورة ادوب فوتو شوب . ان علاقة الصورة كموضوع قابل للتلاعب والتنميط ارتباط بصورة بابل، اي ان الصورة هنا تدور في مجالين، مجال الحلم/ بابل القديمة، والصورة الحالية/ العراق، فبابل القديمة عادت للظهور في ثقافة الحداثة، لان الاخيرة تعود الي الماضي. فصورة بابل تحضر في ثقافة الحداثة منذ بداية الثورة الصناعية في اوروبا، فالكاتب الامريكي ايمرسون اثني علي اسلوب صديقه توماس كارلايل واصفا اياه بانه يحمل عبق بابل ، في اشارة الي تعقيدات الميتروبوليس الحديث، فالحداثة كما جسدتها الثورة الفرنسية، تم تصويرها وادخالها في ظل الماضي البابلي. المخترع البريطاني ويليام هنري فوكس تالبوت، مخترع التصوير كان خبيرا في قراءة الرقم الاثرية. ويمكن اعادة الاهتمام ببابل كموضوع للفن في تاريخ الفن الغربي الي ويليام بليك عاهرات بابل وادغار ديغاس واهتمامه الشديد بالملكة البابلية سميراميس، والفن الاستشراقي الشعبي في القرن التاسع عشر الذي امتلأ بالكثير من الصور عن بابل، مثال متطرف في عودته الي بابل هو لوحة الفنان البريطاني ادوين لونغ سوق الزواج البابلي . الهوس ببابل حاز علي حياة من خلال اختراع اشور وبابل وبلاد الرافدين في الحفريات الاثرية الحديثة، واعادة اكتشاف اثار نينوي، والبحث الاثري عن بابل تأثر بتصوير هذه الحضارة في الفن الغربي مثل سقوط بابل للفنان الانكليزي جون مارتن، ولان العمل يحمل واقعية خاصة فقد استخدمه المخرج الامريكي غريفيث كأرضية لفيلمه لا تسامح (1916) ومثل اللوحة السابقة، ففيلم غريفيث خدم ايضا كأرضية لأفلام اخري لعل اخرها كان ماتريكس ((2003. بابل لعبت دورا مهما في فن الحداثة وفي الدين وايضا دورا في النظريات المعادية للحداثة، فبابل تظل رمزا مهما في الكتابات الدينية المسيحية، بدرجة لا تقل اهمية عن الموقف الكنسي من الشيوعية، وبابل كمكان للنفي والسبي اليهودي، الهمت حركة راس تفاري التي ولدت في الثلاثينيات من القرن الماضي في جامايكا، واتباع هذا الدين الجديد، قاموا بتوليفة من القصص من العهد القديم واخضاعها للرؤية الافريقية عن العودة وتقوية الافارقة، واتخذوا من الامبراطور الاثيوبي السابق هيلاسيلاسي رمزا معبودا لهم، واغاني الريغا المعروفة قامت باستعادة رمز بابل، كرمز للنفي والمقاومة، سواء في اغاني الشوارع في جامايكا عند نهر بابل الي انتفاضات السود في شوارع لندن احتراق بابل . بابل في المخيلة الاستشراقية او اعمال فناني الحداثة كانت ارضية عن الماضي مع ان بابل لم تكن بمرتبة الحضارة المصرية مثلا، الا انها خدمت كأرضية عن الماضي القديم. ولان الماضي يعود الان بحديته المعروفة، في ظل مفاهيم عن صراع الحضارات وعن عالم يتمحور حول اما معنا او ضدنا فان صورة بابل القديمة تستعيد وهجها في الغزو الامريكي للعراق، وليس غريبا ان تحمل العديد من الكتب هاجس بابل القديمة، التي تري في العملية العسكرية الامريكية محاولة لتدمير البلاد والسيطرة علي مقدراته، اي اعادة تدمير هويته التاريخية من اجل ضمان تدفق الرأسمال الذي يخدم الشركات المتعددة الجنسيات التي تتواجد بقوة كبيرة علي ارض العراق. وفي مجال الصور كان العراق اكبر ميدان لانتاجها ومع ذلك لا توجد صورة خالدة يتذكرها المشاهد، فالصور القادمة والمتواصلة من العراق غمرت المشاهد لحد الاشباع لدرجة اصبح فيها من المتعذر مشاهدة شيء، انها بحد تعبير الالمانية اليهودية حنا ارنت، تعبير عن عادية او تفاهة الصورة ، وكل الصور التي ولدتها حرب العراق الاخيرة تحمل في طياتها فكرة الضحك او انها تعرضت للتلاعب، من التقديم الذي قدمه كولن باول، وزير الخارجية الامريكي، في هيئة الامم المتحدة والذي عرض فيه ما اسماه صور تجسس عن قدرات العراق الكيماوية، وافتقد ما اسماه المعلقون لحظة ادلاي ستفينسون، اثناء الازمة الكوبية، الي العرض الممسرح لانزال تمثال صدام في ساحة الفردوس، الي العرض البرافدو للرئيس الامريكي الذي اعلن من علي متن بارجة حربية في الاول من ايار (مايو) 2003 نهاية العمليات العسكرية في العراق وبدء عملية البناء، وعلي خلفية يافطة كبيرة المهمة انتهت بعد ثلاث سنوات لا زال الجنود الامريكيون يقتلون والعراق يحترق.ان مفهوم العودة للماضي باعتباره شكلا من اشكال الحداثة يعود الي الثورة الفرنسية وبالتحديد عام 1789، ولم تكن بابل بعيدة عن الحرب في العراق، فقائد الفرقة المحمولة جوا 101 اختار اثار بابل لكي يسلم فيها مهام القيادة العسكرية الي القوات البولندية، والعودة الي بابل لم يكن بعيدا عن الطريقة التي تعامل فيها الاعلام الامريكي مع شخصية الرئيس العراقي صدام حسين، الذي صور انه يريد استعادة المجد البابلي ومجد نبوخذ نصر. العودة لبابل جاء علي الرغم من النظرة الدونية الغربية للحضارة البابلية، حيث جعلها البحث الاثري، بمرتبة اقل من الحضارة المصرية وحضارة الازتيك في المكسيك. وربما كان الفنان الفرنسي المعروف ديلا كرو، احد الفنانين الذين صنعوا اهم لوحة، استشراقية عن بابل موت سارندابوليس (1826)، والذي يصور مشهد الملك البابلي وهو يراقب نهب الفرس لمملكته.ان رؤية بابل الجديدة في ابعادها الكونية، لا تتم الا من خلال قراءتها في اطار ثقافة المقاومة، وصعود تيار المحافظين الجدد في امريكا، والعمال الجدد في بريطانيا، وسياسات العزلة الاسترالية. ففي الاولي يمكن الاشارة الي ثقافة راس تفاري التي ألمحنا اليها، بالعودة لبابل باعتبارها ارض الحنين والمنفي. ولكن الربط بين راس تفاري، وبابل، هو في النهاية ربط بين ممارسات الاستعمار وعلاقته بالعبودية، وبالتالي تحول في الحداثة الاوروبية منذ قرنين، اي العودة الي المربع الاول، خاصة في مجال الحدود الجغرافية بين الامم، بين ما هو قومي واجنبي، وهو الفصل الذي قام في الماضي علي العرق والجنس. ما حدث وهو انعكاس ضروري لما حدث في العراق هو ولادة ثقافة الكاميرا ذات الدائرة المغلقة او ثقافة الرقابة، فالمواطن اضحي عرضة لعملية رقابة، تماما كما اراد الانكيزي جيرمي بينثام (1748 ـ 1832) الذي طالب باصلاح السجون البريطانية وانشاء سجن مراقب طوال الوقت اسماه بانوتيكون اي يتم مراقبة كل صغيرة وكبيرة في حياة السجناء دون ان تتاح للمسجونين رؤية سجانيهم. وكعرض من اعراض هذه الرقابة العودة الي سياسة الترحيل والسياسات التي تتم ضد اللاجئين والمهاجرين لدواع اقتصادية، خذ مثلا مجمع سانغات الفرنسي. ان جذور هذه السياسات تعود الي سياسة ترحيل العصاة الي مناطق غريبة ومقفرة كما حدث في ترحيل العصاة الي استراليا، والغريب ان استراليا في عهد جون هاوراد والتي تريد الحفاظ علي استراليا بيضاء قامت بانشاء معسكرات لتجميع المهاجرين، ومنع سفينة كانت تحمل مهاجرين عراقيين وافغان من الوصول الي استراليا مع ان الاخيرة، شاركت في غزو العراق لـ تحرير العراقيين . بل ان حكومة هوارد ارسلت حقائب مليئة بالاوراق المالية الجديدة لدول صغيرة/ جزر كي تستقبل المهاجرين الجدد، والذين دخلوا الارض الاسترالية وضعوا في محتجزات لاجبارهم علي العودة لبلادهم او اختيار بلد اخر. فيما صارت بريطانيا ودول اوروبية لبناء محتجز في كرواتيا بعيدا عن اعين العالم. ان الفرق بين النموذج الاصلاحي للسجن الذي اقترحه بينثام في القرن التاسع عشر وثقافة الكاميرا ذات الدائرة المغلقة ان الاخيرة قادرة علي مشاهدة كل شيء لكن ليس لديها القدرة علي منع حدوث اي شيء. انها ثقافة جديدة، ولدت بعد ان تم نزع صفة القومية عن العراق وفتحه امام الشركات المتعددة الجنسيات هالبيرتون وشركات الامن الكثيرة التي جلبت معها جيشا من المرتزقة، نحن امام ثقافة جديدة هي امبراطورية المحتشدات او المعتقلات الممتدة علي سجون سرية، ومعتقلات للمهاجرين الباحثين عن فرصة ورغد في بلاد الشمال. ومن خلال هذا الفهم يمكن تحليل العودة لاستخدام ابو غريب الذي جاء تحرير العراق لاغلاقه بدلا من تحويله الي مسلخ تعذيب جديد، وهنا فان الكونية الجديدة في ظل المحافظين الجدد ما هي الا كونية رجعية، او مظهر استعماري جديد. لكل هذا يفهم الالحاح الدائم علي معني بابل وعلي لا معني الصورة في العراق، وبعد اكثر من عام لم نعرف ماذا حدث للفلوجة لدرجة ان الذين شاركوا فيها اخذوا يعتقدون مثل المنظر الفرنسي بوديلارد ان الحرب فيها لم تقع ابدا.ناقد من اسرة القدس العربي اعتمدت في هذه المقالة علي الكتاب المهم مشاهدة بابل: الحرب علي العراق والثقافة الكونية المرئية من تأليف نيكولاس ميرزويف: (Watching Babylon, By: Nicholas Mizoe, Rotledge,New York, London, 2005).0