انحراف باتجاه خط العرض عمل جديد للسوداني جمال محجوب: عن الجاز والمعمار والشرط الانساني.. البحر هو بداية السؤال وجسر الولاء والانتماء
ابراهيم درويش انحراف باتجاه خط العرض عمل جديد للسوداني جمال محجوب: عن الجاز والمعمار والشرط الانساني.. البحر هو بداية السؤال وجسر الولاء والانتماءجمال محجوب كاتب سوداني، اصدر حتي الان ست روايات نالت حفاوة نقدية، ولانه يعبر عن ثقافة المزيج، بريطاني ـ سوداني مثلا فرواياته تدور في هذا الاطارـ محاولة استكشاف الهوية والولاء والانتماء، والتأكيد علي ان معرفة العالم غير ممكنة بدون معرفة النفس، وان معرفة الطريقة للنهاية غير متاح دون معرفة البداية. وقارئ روايات محجوب يعثر علي هذا التوزع والتجاذب بين السودانية في حياته والاوروبية، فهو اي جمال محجوب قادر علي استعادة الجو او الفضاء السوداني اذا اراد العودة لذلك وقادر علي تصوير المجال الاوروبي الذي يتحرك فيه الابطال ان ارادوا، ولكن في كل العلاقات التي يقوم بها الابطال تنتهي، وكأن الزواج بين الاعراق محكوم عليه بالفشل، مثلا في رواية الرحيل مع الجن تعلن ايلين نهاية الزواج لياسين ظاهر في البداية، وفي رواية علامات الساعة يعود هاوي من رحلته الاوروبية بدون ان يقيم علاقات مع نساء اوروبا، اما في عمله الاخيرة (انحراف باتجاه خط العرض) فراشيل تنهي زواجها من امين بعد النهاية المفجعة لابنها سيف، الذي يقتل اثناء مشاركته في الحرب في الجنوب، وتعود لاستكشاف تاريخ والدها وعلاقتها المضطربة مع امها وتاريخ والدها الالماني الرحالة والمخترع. لعل ما يميز الرواية الجديدة ان البحر فيها موضوع فهي عن البحث عن الذات، في داخلها جيد المعمارية التي تعمل في شركة تصميم وهندسة معمارية محترمة (غايلز، ستوك اند ويفرلي)، وتواجه عددا من التحديات لعل اهمها وفاة عامل غير شرعي في المشروع الذي صممته ومحاولة المعمارية المنافسة لها الاستفادة من هذا الحادث لكي تجد حظوة عند مدير المكتب المعماري، يطلب منها كايل، المدير ان تختفي قليلا عن العمل حتي يتم التغلب علي الصعوبات، وهي تجد صعوبة في قبول الامر لانها المسؤولة عن التصميم ولان تصميمها هو ما جلب العقد للمكتب. نعرف فيما بعد ان عملها في هذه الشركة بدأ عندما كانت صغيرة مع والد كايل، المدير الجديد، ونعرف ان عملها كان بداية النهاية لزواجها.تحدثنا جيد عن كايل، الشاب المتردد، الذي لم يكن بمستوي المهمة بعد وفاة والده، ولكنه استطاع الحفاظ علي مستواها كأحسن مؤسسة تصميم معماري في لندن، واعتمد في هذا علي الجيل الذي عمل مع والده، وكانت جيد واحدة منهم، اي قبل الحادث الذي سيعيد جيد للبحث عن مركز جذب حياتها، والرحيل في ذاكرة والدها. حينما تشعر انها في مازق ومركزها مهدد، تدفع الي جافة الادمان والبحث عن ماضي والدها، حيث تحدثها اختها غير الشقيقة عن علاقة والدها ارنست فراغر مع والدو شميدت، وعندها تذهب للبحث عن والدها وتتعرف عليه وهو شاب في خمسينات القرن الماضي في ليفربول، المدينة التي كان يعيش فيها اشتات من البشر، الميناء الذي تحضر اليه البضائع لكي تملأ المخازن وجيوب التجار بالمال. في هذا الفضاء المتنوع يتعرف فراغو الذي فر من المانيا وذكريات الحرب فيها علي فتاة من ترينداد، ميرندا، وهو ما يفسر لون جيد، فهي هجين ومزيج بين اب ابيض وام سمراء من الكاريبي. جيد تقول يبدو لي ان هناك لحظات في الحياة لا نبحث عنها ولكنها تأتي الينا، والطريقة التي نرد فيها علي تلك اللحظات تحدد من نحن وكيف نواصل الحياة…. . يلتقي الاب ارنست مع الام في ناد للموسيقي يملكه نوبي سوداني، ناد للجاز اسمه النيل الازرق ، ميرندا التي نلتقي بها وقد بدأت تفقد عقلها كانت منذ البداية فتاة غير مشوشة. اما عن راشيل فهي اخت ليست شقيقة كانت نتاجا لعلاقة بين الاب ارنست وصاحب وكالة استيراد وتوريد الات ارثر بريستون. راشيل تهاجر الي السودان مع زوجها امين الذي يتحول لمكة والدين وتختفي لديه الطموحات الكبري، السودان الذي رحلت اليه راشيل كان بلدا ريفيا ـ مضيافا كالعادة ورغم الحفاوة ومحاولة تقبل الفتاة الانكليزية القادمة من المدينة ولا تعرف الطبخ فان ما كانت تعاني منه راشيل هو غياب الخصوصية، فالحياة في السودان تعني الانتماء للجماعة والعيش في داخلها. لكن الخيط الذس يقطع علاقتها مع السودان وزوجها هو تحول ابنها الي التشدد الديني. في هذا السياق تبدأ راشيل تتحدث عن علاقة والدها مع مزور اللوحات الفنية شميدت. العالم الذي يقدمه محجوب هو عالم فوضوي، يتقاطع احيانا، يتداخل، ويدور حول نفسه من المانيا النازية وحرائق اللوحات الفنية، الي الايام الاخيرة في جمهورية فايمار، والدو شميدت يهاجر من المانيا في نهاية ثلاثينات القرن الماضي، ويلتقي مع ارنست، الذي كان نسخة متناقضة عنه، فالاب/ ارنست كان مخلصا، واضحا في ولائه لبلده، علي خلاف شميدت الذي كان يبحث في ارنست عن علاقاته، ولهذا لم تكن مصادفة ان يلتقيا في معرض لندن التجاري. وبعيدا عن اجواء لندن واوروبا، تبحر الرواية في السودان الذي شهد تحولات كبيرة منذ الاستقلال، من الشباب الساعي لبناء بلده بعد الاستقلال الي الخيبة والسجون والتعذيب الي الثورة الاسلامية وعهد ثورة الانقاذ. وفي هذا العالم يمزج محجوب بين المعمار، الموسيقي، الذاكرة والزمن بحيث يصبح فيه السرد او الكتاب غرفة صدي، ويدور الابطال هنا في داخل ثلاث حركات يقطعها صوت راشيل الذي يصبح بمثابة الدليل لجيد، هنا تقدم لنا رسائل او بطاقات راشيل لاختها من السودان صورة عن الهواجس والهموم التي احاطت بهذا البلد، وهموم الجيل، الذي عاش ذروة الامل والخيبة في كل تجلياتها. يستخدم محجوب هيرمان ميلفيل الذي كان يبحث عن والده في ليفربول. وهنا لا بد من الاشارة الي رمزية البحر في هذا العمل، فالبحر المحيط هو الذي يربط الدول والقارات وهو المسافة التي تفصل بينها، وهو الزمن الذي يفصل بين جيل وجيل داخل العائلة، والعبور في البحر، بالذاكرة او عبر غواصة هو في النهاية عبور او ابحار باتجاه الهوية الحقيقية. يمثل والد جيد، صورة عن هاجس التجوال، فهو ليس مشردا او شخصا مسكونا بهم ما، بقدر ما يتعلق الامر بعدم قدرته علي بناء جذور في مكان، ولهذا يرحل دائما بهدوء، تستقيظ يوما ميراندا التي شاركها اياما جميلة في غرفة في مدينة ليفربول في احد الصباحات لتجد الرجل، رجلها قد رحل. هاجس الرحيل، هو في النهاية صورة عن رضوض الذاكرة في الوطن، فهو يخشي من البقاء لئلا يتعرض لاثار لوثة السياسيين. جمال محجوب، الذي يجدل اشياء كثيرة في عملية السرد، الفن والموسيقي، اوروبا الصناعية، والنهضة، الدين والسياسة، معني بتوضيح كيف تتحول مأساة الحاضر وتعقيدات اليوم الي صورة عن تعقيدات الماضي، خفاء ولغز النشوء، الولاء والانتماء. حتي عندما تبدأ جيد رحلة استعادة سيطرتها علي زمنها في شركة المعمار، وتعتمد علي خبرات محقق خاص لكي يحدد هوية هذا العامل غير الشرعي الذي سقط ميتا في موقع العمل، فان عمل المحقق يتحول الي بحث في حياتها، فهنا يعكس التحقيق تاريخها الملغز اكثر من هوية العامل المجهولة. فجيد، تبحر في تاريخها وهي بحاجة لمرساة او عمود امان يساعدها علي الوصول لبر الامان. وفي هذا السياق تبدو مأساة اختها غير الشقيقة، التي تجسد في كل شيء هوس والدها في الترحال والهجرة، علامة الامان لها، فخسارة راشيل، تصبح فوزا لجيد، حيث تستعيد كل الاماكن التي مر بها والدها، ومن ضمنها نادي النيل الازرق الذي غني فيه عدد من فناني الجاز، والمثير للسخرية ان البحار الذي تحول الي صاحب ناد، اسماعيل بلال لم يكن يعرف عن الجاز شيئا، ولكن النادي صار بمثابة الواحة للباحثين عن حب او علاقة دافئة، وهو بمثابة مكان يقف علي تقاطع الطريق بين اوروبا وافريقيا، الذي يمثلهما هنا، ارنست، وميراندا. رواية محجوب هي عن الشرط الانساني، وعن اهمية الولاء والانتماء خاصة للاشخاص الذين يجدون انفسهم علي حافة الطريق، في الهامش او الذين يعيشون في المركز ويحملون في داخلهم تاريخا معقدا، فالبحث عن الشيء المفقود يفضي في النهاية للبحث داخل النفس. في روايته الاخري اسفار مع الجن ، يحاول ياسين ظاهر، شرح تاريخ اوروبا لابنه، بعد اعلان زوجته ايلين انفصالهما، ولكنها تطلب منه ان يقيم علاقة مع الابن قبل فوات الاوان، يقرر ياسين اخذ ابنه في رحلة الي اوروبا، بدلا من بلده السودان، فظاهر يشعر بالانتماء لاوروبا اكثر من وطنه الاصلي، وتصبح الرحلة ضربا من العبث امام انشغال الاب باكتشاف نفسه وعكس تاريخه الشخصي علي تاريخ اوروبا، وفي النهاية يقدم ياسين روايته عن التاريخ التي تختلف بالضرورة عن التاريخ الذي يدرس في المدارس الاوروبية، ولكن الرحلة التي لم تنجح باستعادة الاب لابنه، او عقد صداقة، تتحول في مداها الي رحلة في الذات، وتشير لعزلة ياسين عن عالمه الذي اعتقد انه ينتمي اليه، تماما كما يشعر بالعزلة في وطنه الام، هنا تجربة الهجرة والمهاجر، تخلق زمن المابين، فهو ليس هنا او هناك، في مسجد باريس، يقول لنا الروائي ان ياسين اجبر علي الخروج لاعتقاد البعض ان ياسين هو سائح اوروبي.في حالة جيد، فان نهاية رحلة البحث ليست مهمة، فالبحث في الماضي، الذكريات، هو جزء من البحث عن محددات الشرط الانساني، فهي لم تعد في نهاية الطريقة تحلم ببناء الابراج العالية، ونهاية الرحلة تعني ان عليها الاعتراف بنقصها او عدم اكتمال حياتها، فالصعود للسماء وبناء العمارات العالية للشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات لم يعد يثير اهتمامها، فهي تريد العودة لمعمار المدن، معمار الحياة الانسانية، وكيف يعيش الناس حياتهم الاعتيادية في هذه المدن. اما عن راشيل، فهي تعيش معزولة في عالمها تنتظر سيف، الذي يأتيها، وناداها عندما مات في الجنوب ولم تكن معه، وهي مثل اختها في رحلة بحث عن الماضي، والذي تعثر عليه احيانا مخبأ في اوراق الليمون.ما يثير في قراءة محجوب ان اعماله لا تتحدث بجدية عن علاقة الشمال بالجنوب، وعبثية العلاقات بين الاعراق او الزيجات المختلطة، فهو مشغول اكثر بالهم الانساني العام، ورحلة الانسان في بحثه عن قدره، وعثوره علي مستقبله من عبر الماضي. كما ان الكاتب هنا ليس معنيا بتحليل فكرة التدين او الدين، فالابن سيف يذهب الي الجنوب ليقاتل في جهاد ضد المتمردين، ولكن الكاتب هنا ليس معنيا بالادانة، او الدفاع، انه يرسم لنا مشهدا عن المأساة والفجيعة الانسانية وفقد الام لابنها، وعودتها الي زمنها الاخر، الذي تركته وراء ظهرها في بريطانيا.في اعمال جمال محجوب الاولي كان مشغولا بتاريخ السودان اجنحة الغبار (1994) عن منفي سوداني يحلل سنوات الاستقلال، علامات الساعة ، تاريخية عن الثورة المهدية في السودان والاحتلال البريطاني، حيث يحضر المصلح السوداني محمد احمد المهدي، والجنرال البريطاني غوردون باشا الذي قتله اتباع المهدي كرمزين، يلقيان ظلهما علي الابطال العاديين من الرعاة، والمزارعين والجنود. في رواية المرسال (1998) عن علم الفلك، ورحلة نوبي سوداني راشد الكنزي، ابن عبد نوبي يشتري حياته بعد ان اتهم ظلما بالقتل من خلال الحصول علي تلسكوب يمكن استخدامه في سرد اجمل واغرب الحكايات. والرواية تغوص في مسألة العرق، والعبودية ولكنها ايضا عن الفضول العلمي، حيث اظهرت الرواية اهتمام كاتبها بالتطور العلمي الغربي وسبب عدم حدوث مثل هذا في التفكير الاسلامي. ولد في لندن عام 1960، حيث كان والده يعمل في المركز الثقافي بيت السودان ، وقضت عائلته فترة في مدينة ليفربول، عاش طفولته في الخرطوم، ودرس في كلية كامبونيس قبل ان يحصل علي منحة للدراسة في كلية اتلانتيك في ويلز، ودرس علم الجيولوجيا في جامعة شيفيلد، وخلال دراسته كان ينشر قصصا واعمالا ادبية. رجع محجوب الي السودان بحثا عن عمل ولكنه قرر تكريس نفسه للكتابة، وعاش في لندن، والدنمارك، والان يعيش في برشلونة، اسبانيا، وكذلك قضي فترة طويلة في فرنسا. عمل في اكثر من مجال، في مجال الغداء، والتسويق، والعمل الصحافي، والترجمة من العربية والدانماركية، والكاتالانية، ونشر اعماله الثلاثة الاولي ضمن سلسلة الكتاب الافارقة التي اصدرتها دار هاينمان. واول عمل نشره كان رحلات صانع المطر (1989).The Drift LatitudesJamal MahjoubChao & Windus, London/2006ہ من اسرة القدس العربي 0