اليائسون والدرك: محنة المواطن السوداني

حجم الخط
0

اليائسون والدرك: محنة المواطن السوداني

حسن إبراهيماليائسون والدرك: محنة المواطن السوداني صدمنا جميعاً لمشاهد القتل الجماعي للاجئين السودانيين في القاهرة. وتصاعدت أصوات كثيرة تدين ممارسات قوات الأمن المصرية، بل وطالب معارضون سياسيون مصريون باستقالة وزير الداخلية المصري وتظاهروا في الشوارع مظهرين تعاطفاً متوقعاً من أبناء وادي النيل. لكن الحدث نفسه يستدعي قراءة متأنية للبدايات لأن الاستنتاج المتسرع واعتماد النهايات فقط سيؤدي فقط إلي ردود الأفعال العاطفية التي نراها هذه الأيام. وبالطبع يكثر المزايدون من معارضي الحكم المصري وينسون أنه باستخدام أخطاء الأمن المصري يسيئون إلي قضية اللاجئين الأساسية. ولنبدأ تفكيك المشهد من بداياته وهي تبعد كثيراً عن ميدان مصطفي محمود بحي المهندسين وسط القاهرة. أزمة هؤلاء هي أنهم أتوا من منظومة علاقات سودانية ملتبسة تسود فيها الديكتاتورية ومحاولات بائسة من الحركة الإسلامية السودانية لتأسيس ثيوقراطية عرجاء في بلد مترامي الأطراف مثل السودان. ولغياب الأرضية المحلية لمشاريع حضارية من هذا النوع فقد اضطرت الحكومة في عهد ما قبل اتفاقية السلام إلي استخدام القمع المتناهي وسيلة لإخضاع الجماهير و تمكين قواعد دولة المشروع الحضاري. علاقات الإنتاج التي أراد الإسلاميون ترسيخها علي أرض السودان كانت نسخة قاسية من وصفة البنك الدولي الرأسمالية الخانقة. وكان الفصل والتشريد والاعتقال والتعذيب وسائل الحكومة للسيطرة علي شعب قبلي جامح لا يحترم التراتبية التي أراد الإسلاميون ترسيخها في المجتمع. إذا أضفت هذا إلي الحرب الأهلية الطاحنة التي أرهقت الاقتصاد السوداني الضعيف أساساً لعلمنا مدي المعاناة التي دفعت ملايين السودانيين إلي الهجرة خارج البلاد. مصر هي الملاذ الطبيعي لهؤلاء بالطبع، واستمر تدفق اللاجئين علي مصر المرهقة بمشاكلها وأزماتها الخاصة حتي وصل إلي الملايين. وتختلف التقديرات لأعداد السودانيين في مصر. ويضعها البعض عند رقم ستة ملايين نسمة علي أكثر تقدير وثلاثة ملايين في أقلها. وكان التعامل المصري مع السودانيين جيداً في معظم الأحوال. فالسودانيون مستثنون من تصاريح العمل التي يحتاجها الأجانب في مصر ويدخل أبناؤهم مدارس الحكومة ويعاملون مثل المواطنين المصريين في معظم الخدمات. ولم يؤثر تذبذب العلاقات السودانية المصرية علي أحوال السودانيين بصورة كبيرة. والأمر يتعدي العاطفة إلي احتياجات مصرية إستراتيجية في السودان يلزمانها بتحمل عبء اللاجئين السودانيين الذين اعتبروا رصيداً حياً لحركتي المعارضة الشمالية ـ التجمع الوطني الديمقراطي ـ والجنوبية ـ الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ وبذلت مصر جهوداً كبيرة لدمج الحركتين المعارضتين في التسعينات واستقبلت مصر جميع حركات المعارضة السودانية سواء من شرق السودان أو غربه. وكان العالم الغربي في تلك الحقبة يستقبل اللاجئين السودانيين بأريحية كبيرة لكن بأساليب جعلت من بعض السياسيين السودانيين المعارضين أباطرة للجوء، بل أصبحت مكانة الزعماء المعارضين تقاس بقدرتهم علي تسهيل الحصول علي حق اللجوء السياسي في واحدة من دول الصف الأول، أي الولايات المتحدة أو واحدة من دول أوروبا الغربية. لكن جملة من المتغيرات حدثت علي الصعيدين الإقليمي والدولي من تدفق النفط في السودان ومتغيرات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر ثم توالي الضغوط علي الحكومة السودانية لكي تخفف من قبضتها الأمنية وأن تشرع في عقد اتفاقية سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. ويبدو أن الجسد السوداني مليء بالثقوب. فما أن سارت الأمور في طريق الحل علي الصعيد الجنوبي حتي تفجرت حرب أهلية طاحنة في غرب السودان لها أسبابها التاريخية الأخري وربما تتعلق بتعقيدات المشهد السياسي في العاصمة. فدارفور منطقة نفوذ لحزب الأمة السوداني الذي طالما ما أحس أنه الأحق بحكم السودان. بل كانت الملكية من الطموحات الخفية لزعيم الحزب الراحل عبد الرحمن المهدي. ولا يمكن فصل التمرد في دارفور عن طموحات حزب الأمة. ثم هناك اللاعب الأزلي في السياسة السودانية منذ عام أربعة وستين الدكتور حسن الترابي الذي يتهمه البعض بالإسهام في تأجيج الأزمة خاصة أن أحد الفصيلين المقاتلين في دارفور ـ حركة العدل والمساواة ـ يتكون في غالبته من أتباع الدكتور الترابي الذي كان قد انشق عن المؤتمر الوطني الحاكم وهو ما أدي لسجنه لمدة أربعة أعوام. هذا الوضع المتفجر الطارد هو ما دفع الملايين للخروج من السودان بحثاُ عن حياة كريمة. وربما للوعود البراقة التي أطلقها السياسيون المعارضون صدق هؤلاء أنه ما عليهم إلا الوصول إلي القاهرة حتي يجدوا الطريق ممهداً إلي العالم الغربي الناصع البياض حيث الحياة السهلة والدولارات التي تتساقط عليهم بسبب وبدون سبب!! لكن العالم تغير، وما عاد السودان من الدول المغضوب عليها. فالتعاون الذي أبدته الحكومة السودانية مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في حرب بوش علي الإرهاب جعل الأجهزة الأمنية السودانية من أقرب الأجهزة إلي الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ينسي الحفاوة التي استقبل بها مدير الأمن السوداني صلاح غوش في واشنطن. تراخت الضغوط علي حكومة السودان. حتي أن مقتل الدكتور جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان مر بدون تحقيق دولي جاد، وبدون مساءلة للحكومة السودانية أو الأوغندية. وتفرق دم الرجل ما بين قبائل النفط والسياسة. اللاجئون بالطبع هم مسؤولية المفوضية العليا لشؤون اللاجئين UNHCR وهي التي تتولي الإنـفاق عليهــم وإسكانهم. لكنها ومنذ شهر حزيران (يونيو) من عام 2005 أي منذ البدء في تطبيق اتفاقية السلام السودانية أبلغت اللاجئين السودانيين أنها بصدد الشروع في برامج عودة طوعية وأنها ستتوقف عن تقديم الإعانات لمن يختار البقاء في مصر وذلك بانتفاء أسباب اللجوء. حيث أن جنوب السودان لم يعد منطقة طاردة. لكن ما فات علي المفوضية أن اللاجئين ينتمون إلي مناطق مختلفة من السودان فمنهم من أتوا من دارفور ومن كردفان ومن شمال السودان. وهم لاجئون اقتصاديون. ولا أدري ما الذي يجعل الإنسان أقل استحقاقاً لاهتمام العالم إن كان لاجئاً اقتصادياً؟ فالعيش الكريم من حقوق الإنسان الأساسية، وواجب الحكومة السودانية قبل غيرها توفير أسباب الحياة لمواطنيها. لكن الحكومة أفلحت في شراء من تبقي من زعماء التجمع الوطني الديمقراطي، وتسبب موت الدكتور قرنق في شل فاعلية الحركة الشعبية التي يقتسم قادتها الآن مواقع السلطة ما بين جوبا والخرطوم. ومن هنا بقي اللاجئون بلا ظهر يحميهم. كان اعتصام اللاجئين محاولة يائسة منهم للفت أنظار الأسرة الدولية إلي معاناتهم، وحسبوا أنهم بإحراج الحكومة المصرية بهذا الشكل المريع سيدفعونها إلي الضغط علي المفوضية العليا للاجئين حتي توافق علي ترحيلهم إلي بلد أوروبي أو إلي القارة الأمريكية. وهنا أتي الخطأ الأساسي الذي ارتكبه هؤلاء. فالحكومة المصرية لا سلطة لها علي المفوضية التي هي هيئة دولية، ولا سلطة لها إلا علي أراضيها. ولم تساعد التصرفات الرعناء لبعض اللاجئين الذين أتوا بأسرهم وأطفالهم إلي ميدان مصطفي محمود بحي المهندسين أمام المفوضية العليا، لم تساعدهم في اكتساب تعاطف الجماهير معهم لا في مصر ولا في السودان. فعلي من يقع وزر ما حدث يوم الجمعة الدامي؟ لو كانت هناك سفارة سودانية ناشطة في القاهرة لا تعيش في برج عاجي وتتعالي علي معاناة مواطنيها لكان هناك حل سلمي لهذه الأزمة. فالسفارة كان يجب أن تحرك منذ بداية الاعتصام في ايلول (سبتمبر) من العام المنصرم. لكنها غسلت يديها من الأمر برمته واكتفت بالزيارة التي قام بها السيد الصادق المهدي للاجئين، وكذلك زيارة مستشار رئيس الجمهورية مصطفي عثمان إسماعيل. والأمر كان يستوجب طمأنة للاجئين تأتي من أعلي مستوي في الدولة السودانية، ثم استخدام الحزم بدون عنف مبكراً أي منذ أن كان عدد المعتصمين قليلاً بدلاً من تركهم يتراكمون بهذه الصورة المخزية. الموت الجماعي لهؤلاء وصمة عار في جبين حكومة السودان التي لم تتحرك جدياً حتي كتابة هذه السطور. فهي تختبئ خلف صيحات المعارضة المصرية التي ألقت باللوم علي الحكومة المصرية بدلاً من لوم حكومة السودان التي شردت رعاياها وحولتهم إلي متسولين دوليين. العنف مدان نعم لكن اللوم يجب أن يوجه إلي نظام آسن يرفض مد العون لمواطنيه داخل الوطن دع عنك المهاجرين في الخارج. ہ كاتب سوداني مقيم في قطر9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية