الوعد والمنعطف: مقتدي الصدر، الراديكالية الشيعية والاحتلال الأمريكي للعراق (1)

حجم الخط
0

الوعد والمنعطف: مقتدي الصدر، الراديكالية الشيعية والاحتلال الأمريكي للعراق (1)

هل سيكون التيار الصدري قادرا علي حسم تناقضه الجوهري مع الاحتلال والتحول لتيار شعبي تحرري ووطني؟حركة مقتدي الصدر انعطافة هامة في تاريخ الشيعة السياسي وخروج علي تآلف الأغلبية مع الاحتلال والتعاون معهالوعد والمنعطف: مقتدي الصدر، الراديكالية الشيعية والاحتلال الأمريكي للعراق (1) فاضل الربيعيفي هذه الدراسة الجديدة يعرض الباحث والمفكر العراقي فاضل الربيعي تصوره لمستقبل التيار الصدري في العراق، ويتناول الأسس والمنطلقات الفقهية والفكرية والسياسية التي قام عليها بعد التاسع من نيسان (إبريل) 2003. وإذ يلاحظ الباحث أن هذا التيار يجمع بين مقاومة الاحتلال ومواصلة سياسات تصفية حزب البعث في الآن ذاته؛ فإنه يتكهن بإمكانية حدوث انقسام خطير قد يدمر الأسس التي قام عليها. كما أن عجزه عن حسم التناقض الجوهري ضد الاحتلال، قــــد يفضي به إلي التحالف مع القوي والجماعات التي ارتطم بها في سياق تطوره. القدس العربي الرئيس الأمريكي يقول: بات العالم أكثر أمنا . أقول: باتت أمريكا أكثر أمنا والعالم أكثر خطرا بسبب سياساتك وسياسات العدو الصهيوني؛ فأنتم تنزعون أسلحة المقاومة ولا تنزعون أسلحة إسرائيل النووية، وأنتم تحاربون الإسلام ولا تحاربون غيره وتدافعون عن السامية ولا تدافعون عن الإسلام .الشيخ مقتدي الصدر (من خطبة في التظاهرة المليونية ببغداد 2004)، صحيفة الجمعة العدد 18.في لقاء بمجموعة من أهالي منطقة الكفل2 تحدث أحد مجتهدي النجف معقبا علي قصيدة شعبية لأحد شباب الكفل وأورد اسم السيد مقتدي في خاتمة أسماء مجموعة من رجال الدين فكان رد السيد 3 ردا عدائيا مؤسفا بحق آل الصدر العظام. ( .. ) وهنا انبري سماحة السيد المجتهد قائلا: ما هذا الاسم الأخير (يقصد اسم السيد مقتدي). غير مقبول. هذا غير مقبول بل هو تجرؤ شديد.من مقالة في صحيفة الحوزة العدد21 نيسان/ ابريل2005هل ينجح تيار مقتدي الصدر، في نهاية المطاف، في حل تناقضه مع الاحتلال الأمريكي؛ حسمه بكلام أدق ويتحول إلي قوة تحررية راديكالية حقيقية منحازة إلي قيم الديمقراطية ؟ أم أنه سوف يخفق ويتحول إلي قوة رجعية ُمنتجة للقهر والاستبداد؟ ينطلق هذا السؤال من فرضية في هذا المنحي، مقبولة إلي حد بعيد في أوساط المراقبين والمتابعين للسياسات التي انتهجها التيار حيال جملة من الموضوعات، وتدعم تصورا مركزيا ، من تصورات هذا البحث، يري من خلال حزمة من الوقائع، أن التيار الصدري وفي سياق التمايزات الحادة الراهنة في الميدان السياسي العراقي؛ الآخذة في الاشتداد والنمو بشكل متتابع منذ وقوع الغزو الأمريكي للعراق، بات فعليا علي أعتاب انقلاب حقيقي في أوضاعه ومواقفه قد تفضي به إلي نوع من الانشقاق أو الانقسام؛ بل إن إمكانية رؤية تحول دراماتيكي في هذين الاتجاهين، أي التجذر كتيار ديمقراطي أو النكوص، هي إمكانية حقيقية لا مناص من ملاقاتها.وخليق بالمرء المتابع للسياسات المتناقضة للتيار، أن يلاحظ، ومن دون رياء، أن الفرضية الآنفة ليست سوي استطراد في فرضيات واحتمالات عدة تطاول قوي وجماعات مذهبية وسياسية أخري، وقد تطبع بطابعها كامل المنظر السياسي الراهن. في هذا النطاق المحدود من المسألة؛ من الهام للغاية التأكيد علي أن التيار الصدري، وبخلاف الكثير من الجماعات الدينية- الحزبية، يمثل ويعبر بحق، عن أهم تطور راديكالي حدث، علي الإطلاق، داخل منظومة الفكر السياسي الشيعي في العراق المعاصر منذ ما يقرب من ثمانين عاما وحتي الآن؛ وهو عبر عن نفسه في صورة تحول شامل طاول شكل الحزب السياسي الديني الكلاسيكي، الذي أنتجه هذا الفكر وسهر عند مهده طوال العقود الماضية. وكما أن هذا التطور المفاجئ، أسهم علي نحو لافت للنظر في تبديل محتوي الحزب السياسي الشيعي التقليدي، وكذلك تعديل بنيته التنظيمية الجامدة، وأحدث علي نطاق واسع تغييرا عاصفا وجوهريا لا سابق له في أشكال التخاطب مع الجماهير؛ فإنه قام بنقله دفعة واحدة من طور الحزب بوصفه مجتمعا عقائديا صغيرا ومغلقا ، إلي طور الحزب بوصفه كتلة شعبية، منفتحة ومشرعة الأبواب أمام كل الفئات والطبقات الاجتماعية. وهذا هو المغزي الفعلي لوجود التيار وتمايزه عن سائر الجماعات الشيعية، فهو لا يعرف بنية تراتبية حديدية ومتماسكة ولا روابط متينة بين أفراده كما لا يعرف، تقريبا، الأساليب التقليدية في العمل الحزبي اليومي. وهو إلي هذا كله، وإن امتلك أيديولوجيا شعبوية بسيطة وخاصة به، تعتمد علي شعارات وأفكار ذات طابع تحريضي؛ فقد نجح، مع ذلك في تكوين اذرع سياسية ودينية متينة في كل مكان في العراق؛ وتمكن من تفعيل طاقات أعضائه علي التواصل مع مجموعات سكانية متنوعة خارج الإطار المذهبي. ولأن هذا التحول عني، في خاتمة المطاف، تحولا مذهلا في طبيعة الشيعية السياسية التاريخية في العراق، التي ظلت ولوقت طويل نسبيا أسيرة الرعاية الروحية، الخانقة للحوزة ومفاهيمها للعمل السياسي، وبحيث بدا وخلال حقب وفترات مختلفة، وكأن وظيفتها الوحيدة المناطة بها هي الدفاع عن مصالح الطائفة في وجه الدولة؛ فقد أصبحت الشيعية السياسية الجديدة، المتحولة مع صعود تيار الصدر وبفضل نشاطه وحضوره المكثف، وفي اللحظة التي شرع فيها الاحتلال بمحو الدولة الوطنية (ابتداء من التاسع من نيسان/ ابريل 2003) أكثر انشغالا واهتماما بمسألة الدفاع لا عن المجتمع ككل وإنما عن فكرة الدولة أيضا ؛ هذه التي خاصمتها الأحزاب الشيعية التقليدية وناصبتها العداء، وذلك مع ظهور أولي النتائج المدمرة الناجمة عن انحلال مؤسسات الدولة وتلاشيها عن المسرح (فوضي السلب والنهب، الانفلات الأمني، أعمال القتل والحرق وتحطيم المؤسسات والمراكز الخدمية، التجاوزات والتعديات المخيفة التي تعرض لها الأبرياء). لكل ذلك، وبصرف النظر عن رأينا بأفكاره وسياساته، يبدو تيار الصدر أهم تحول تاريخي حدث داخل ما يمكن اعتباره منظومة الفكر السياسي الشيعي الكلاسيكي.من الانغلاق الي الشعبيةلقد أنجز هذا التحول، ببساطة، ورغم كل اللغط والتهريج والتشنيع علي كفاءة الشيخ الصدر؛ المهمة التي كانت تبدو مستحيلة، نعني الانتقال بالحزب الديني من طور المجتمع الصغير العقائدي والمغلق إلي طور الكتلة الشعبية ؛ ومن موضوعات الدفاع عن مصالح الطائفة إلي موضوعات الدفاع عن مصالح الشعب بشكل مباشر. ولكن؛ وبصرف النظر ـ مرة أخري ـ عن موقفنا من هذا التطور وأهميته في المدي الراهن أو البعيد؛ فإنه مثير للاهتمام ويجدر بنا النظر إليه علي أنه يختزن إمكانيات مختلفة يصعب تحديد اتجاهاتها، وبعضها يتجه فعليا صوب الاحتمالين المتعاكسين بنفس السرعة والدرجة من القوة. ولذلك فالسؤال في صيغته الراهنة ليس تماما فرضية خيالية أو أنه يثير أمرا لا وجود له، والأدق أنه يثير موضوعا فريدا وحيويا من المواضيع التي غالبا ما يجري مواجهتها بالصمت أو اللامبالاة .لقد جسد ظهور تيار الصدر في الميدان السياسي العراقي، منذ الأيام الأولي للاحتلال، الطبيعة المتناقضة والمتنافرة لبني الشيعية السياسية؛ كما كشف عن هشاشة الخطاب التقليدي ودرجة تشوشه وتزييفه للواقع واستغراقه السقيم في المسائل غير الجوهرية؛ ولكنه من جانبٍ موازٍ، فضح طرق تفكير وسلوك مختلف الحركات والقوي والجماعات، وبشكلٍ أخص، تكتيكاتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية، وذلك مع انهيار المحرمات (كالعلاقة مع الاحتلال الأجنبي) عند بعض الأحزاب الشيعية التاريخية، وبحيث غدا التعاون مع الاحتلال علي لسان أغلب السياسيين الشيعة، وكأنه دليل الحنكة أو المهارة؛ مقابل التمسك بالثوابت الوطنية عند الصدريين. ويمكن للمرء، في هذا السياق، تقديم وصف مقتضب بأقل ما يمكن من الكلمات، لمغزي التطور الذي شهدته الشيعية السياسية في العراق، مع ظهور تيار الصدر وحدوده وآفاقه وعناصره علي النحو التالي:إن التيار الصدري هو التطور الأكثر أهمية في تاريخ الشيعية السياسية في العراق؛ لأنه وضعها كليا ومن دون أي تردد أمام منعطف خطير، وفي اللحظة التي أضحي فيها شطر كبير من القوي والجماعات الحزبية الشيعية جزءاً من بنية الاحتلال؛ أي في اللحظة التي انتقلت فيها قوي اجتماعية وسياسية شيعية، من مرحلة الترويج للحملة العسكرية الأمريكية علي العراق وتبريرها، إلي مرحلة العمل في خدمتها كأداة طيعة بصورة مكشوفة. وكان نشاط التيار، يتلازم في هذه اللحظة، ميدانيا ، وشيئا فشيئا مع حقيقة أن جزءاً من الشيعة، أصبح فعليا خارج سيطرة الأحزاب الدينية التقليدية، بينما يغدو، في الآن ذاته، جزء آخر، وتدريجا في مهب رياح عاتية تتقاذفه فيها سياسات ومواقف ومشاعر متناقضة ممُزقة للوجدان: ضد الاحتلال ومعه؛ ضد المقاومة المسلحة ومع مقاومة سلمية شريفة ـ بحسب التعبير الرائج في بعض أوساط الشيعة . في هذه اللحظة العصيبة من التاريخ جاء ظهور التيار الصدري ليضع الشيعية السياسية برمتها، وبعد عقود طويلة من الخمول الفكري وبق التقليدية في أساليب العمل السياسي وهيمنة الحوزة في النجف؛ أمام خيارات جديدة تبدو أكثر انسجاما مع التاريخ الوطني والنضالي للشيعة العراقيين، الذين شعر قسم كبير منهم بالحرج من مواقف الأحزاب والقوي والجماعات الداعمة والمتواطئة مع الاحتلال. ولذا يصح القول، أن ظهور التيار الصدري ربما يكون أسهم بشكل مباشر في تعجيل التمايز ، والاستقطاب، ومفاقمته داخل هذه الجماعات، وفي تحديد تخوم التحول داخل الشيعية السياسية ككل. إن أهم سمة مميزة، يمكن ملاحظتها في سياق هذا التطور، تتمثل في انقسام الشيعية السياسية (الحزبية) إلي مجموعتين أو كتلتين كبيرتين ابتداء من التاسع من نيسان (ابريل) 2003:تبلورت الكتلة الأولي، في صورة تيار شعبي جديد، سوف يجمع بين منطلقين سياسيين متناقضين: الخصومة أو العداء للدولة الوطنية وبين الصراع ضد الاحتلال الخارجي؛ وهذا هو التيار الصدري الذي لعب دور الصاعق في تفجير الموقف الشيعي برمته، وأعاد تركيب تياراته وعناصره وقواه الاجتماعية علي أسس مغايرة. بينما تبلورت الكتلة الثانية، نهائيا في هيئة ائتلاف سياسي من جماعات مسلحة متنافسة سوف تجمع، هي الأخري بين منطلقين متناقضين: التحالف مع الاحتلال ومعاداة المقاومة الوطنية، والترويج في الآن ذاته لشعار زائف ينادي بمقاومة سلمية. وفي حالات أخري تشترط الكتلة وبرياءٍ مفضوح إجماعا عراقيا شاملا علي المقاومة كأساس لتأييدها، أي اشتراط حدوث معجزة تجمع كل العراقيين دون استثناء في خندق واحد. وفي غالب الأحيان ناهضت علنا أي شكل من أشكال مقاومة الاحتلال يمكن أو يجب ان يبرز في صفوف الشيعة أنفسهم ، وهذا هو الائتلاف الشيعي 4 بكل فصائله. هاتان الكتلتان، عبرتا بقوة عن نمط غير مألوف من الاصطفاف داخل الشيعية السياسية، إذ لم يسبق، في أي وقت آخر، أن وجد الشيعة أنفسهم، مثلما حدث مع احتلال العراق، في قلب تجاذب هائل تحرسه البنادق لا الأفكار، والمصالح لا المبادئ. يكفي التذكير أن انقساما مماثلا ، وقع في صفوف الشيعة العراقيين وبدعم من إيران القاجارية سنوات 1917ـ 1919 (وبعد عامين فقط من الاحتلال البريطاني ) حيث برز آنذاك تياران متصارعان: تيار المجتهدين وتيار الشريفيين5، بيد أن هذا الانقسام لم يكن، علي أية حال، سوي نمط مألوف من الانشقاقات المجردة من أية دوافع أو بواعث فكرية حقيقية؛ وظل توزع الشيعة بين هذين الفريقين مجرد تعبير عن خلاف سياسي قابل للتجاوز؛ ولم يُقيض لهما، قط، أن يتبلورا في صورة كتلتين متصارعتين ومتنازعتين. قصاري القول أن الذين ابتهجوا بظهور التيار الصدري، وأيدوا أو دعموا الدور الذي لعبه، إنما كانوا ينطلقون من حقيقة أن التيار الجديد، الشبابي في الغالب، عبر بقوة عن الحساسية الشديدة في صفوف الشيعة إزاء تاريخهم النضالي، وعموما تجاه محاولات تمزيق الوجدان الوطني وهتك التقاليد الوطنية وتخريب روح العداء للاستعمار والتي حرص الفريق الآخر علي إشاعتها والترويج لها) وأنه كان تيارا مولدا لتلك الروح المتأججة، القادرة علي الدفع بالتمايز داخل الجماعات السياسية حتي ابعد نقطة ممكنة. ولذا رأوا فيه، وبحق، تواصلا ثوريا مع التقاليد النضالية؛ ولكنهم في الآن ذاته، وبرغم كل ما أبدوه من دعم وتعاطف، كانوا يشعرون بالحيرة والحرج بعض الشيء، وخصوصا حيال ما اعتبروه نوعا من التناقض الفاضح في تكتيكات وشعارات الصدريين، وربما تشوشا أو نمطا غير مألوف من مراهقة سياسية طبعت بطابعها الكثير من تصرفات أفراده وقادته الميدانيين. لهذا السبب وحده، يمكن إعادة طرح السؤال الآنف نفسه في صيغة أخري موازية: هل بوسع التيار الصدري أن يحسم فعليا تناقضه الجوهري مع الاحتلال، ويتحول إلي تيار شعبي تحرري ووطني منتج لقيم الديمقراطية؟ يتطلب الجواب عن هذا النمط من الأسئلة، إدراك حقيقة أن الشيعية السياسية الراهنة، هي ظاهرة حديثة نسبيا، وأن حضورها كقوة فاعلة في المسرح السياسي العراقي ظل محدودا، وربما ضعيف التأثير طوال ما يزيد قليلا عن أربعة عقود ماضية 1958 ـ 2003؛ وذلك بفعل جملة من العوامل من بينها أن الحزب الشيعي الوحيد آنذاك ( حزب الدعوة ) كان في مواجهة مبكرة مع اكبر تحدٍ رافق ولادته؛ إذ ارتطم بالصعود القوي للتيارات القومية واليسارية في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، لا في العراق وحده؛ بل وفي محيط عربي (سني ـ من وجهة نظر الأحزاب الشيعية الطائفية بالطبع ) عريض ويستمد معتقداته السياسية والفكرية من عالمٍ منقسم، بدوره، إلي معسكرين متعارضين، نظرت إليهما حوزة النجف وباستمرار علي أنهما معسكران معاديان لها؛ شرقي وغربي، شيوعي ورأسمالي، اشتراكي و ليبرالي (علما أن كلمة ليبرالية كانت تعني في الخمسينات شيئا معيبا عند رجال الدين وعند كثرة من الأحزاب والجماعات العلمانية ).كما أن القوي والجماعات الشيعية اصطدمت فجأة، بالحواجز الصلبة التي كانت تنتصب في قلب مجتمع يشهد، للتو، انتشارا ونموا مطردين للأفكار والنزعات الحديثة، بينما يشهد في المقابل خمولا وتراجعا في قوة الأفكار والنزعات التقليدية داخل المجتمع العراقي. ومع ذلك، عرفت الشيعية السياسية، فترات ازدهار وصعود في الحقب التي شهدت نزاعا دمويا بين القوميين واليساريين (أعوام 1958 ـ 1963) من جهة؛ وبين البعثيين والقوميين والناصريين أنفسهم من جهة أخري؛ وهي نزاعات وتوترات سوف تخلي تاليا المكان، و تدريجا أمام ظهور حركات وأحزاب وجماعات شيعية أكثر تنظيما ؛ ولتتواصل معها تقاليد مخاصمة الدولة الوطنية علنا في أوساط الشيعة بدعمٍ من المرجعيات في النجف. ولعل تجربة حزب الدعوة مثلا؛ الذي حصل منذ ولادته في الستينات من القرن الماضي وفي ذروة الصراع بين البعثيين والشيوعيين علي دعم صريح من المؤسسة الدينية، تدلل بشكل قاطع علي أن الحوزة أدركت، وإنْ متأخرا، أهمية الزج بجزء من سلطتها الروحية علي الشيعة في ميدان السياسة المباشر.لقد رأت في هذا الصراع فرصتها الذهبية لتثبيت نفوذها السياسي والديني؛ وفي الآن ذاته التقاط فرصتها العظيمة كمؤسسة دينية، للهيمنة علي العالم السياسي للشيعة بشكل مطلق؛ أي لتفرض سطوتها علي المجال السياسي وتقوم بنفسها بتطوير خصومتهم التاريخية مع الدولة، وذلك من خلال إشباعها بكل ما يلزم من النفور والكراهية، للعلمانية والقومية وحتي للديمقراطية بما هي فكرة غربية شيطانية6 . في هذا الإطار تبدو الشيعية السياسية في العراق، بالنسبة للمراقب، كخلاصة لسلسلة من التجاذبات شبه المنتظمة والدورية، بين الدولة الوطنية من جهة، والمؤسسة الدينية7 من جهة أخري، كما أنها في السياق ذاته، تبدو كنتاج لسلسلة مماثلة من التجاذبات بين أفكار التحديث والعلمانية وبين الأفكار التقليدية في المجتمع العراقي. فهل يمكن القول إن بوسع التيار الصدري تخطي هذا التاريخ من التجاذب وتجاوزه؟ ولكن؛ هل هذا التيار أصلا، من حيث هيمنة المنطلقات والأفكار الدينية علي منهجيته السياسية، وثقل رجال الدين فيه، والذين يؤلفون قوة شبه متماسكة تعمل مع قطاعات واسعة من المجتمع العراقي بفعالية عالية؛ هو قوة تحررية حقيقية قادرة بالفعل علي تجاوز تاريخ الخصومة التقليدية مع القوميين واليساريين؟ وأن بوسعه تمييز نفسه عن سائر القوي والأحزاب والمليشيات الشيعية ، بوصفه قوة ديمقراطية أو جذرية ؟ وماذا سيحدث، لو أن الأقدار وتطورات الأحداث في العراق، ساقت هذا التيار، أخيرا ومن حيث لا يتكهن أحد، إلي تخوم الإخفاق والفشل في هذه المهمة، أو لنقل، فرضت عليه الوقوف عاجزا مشلول الإرادة أمام مهمة إعادة تعريف نفسه كتيار شعبي تحرري؛ وهي مهمة حيوية وملحة لا تزال تواجه هذا التيار في كل لحظة من لحظات مقاومة الاحتلال الأمريكي علي الأرض ؟ وماذا لو انه، لأسباب أخري مختلفة وبدوافع شتي، وتحت ضغط ظروف ودسائس ومناورات لا قبل له بالصمود في وجهها، فشل في عرض تصور صحيح لأدواره في الحياة السياسية والعامة في المستقبل المنظور، وكذلك في الحفاظ علي قوة زخمه الجماهيري كتيار مناهض للاحتلال ؟ هل سيتحول، في هذه الحالة وحدها، إلي قوة رجعية منتجة للقهر والاستبداد، بدلا من أن يتحول إلي قوة ديمقراطية؟ وما هي علي وجه التحديد، الظروف والمهام والوسائل التي تمكن هذا التيار من الحفاظ علي طابعه كقوة تحررية؟ هل سيتوقف مستقبله بالفعل، وكليا، علي حسم (وحل) التناقض مع الاحتلال، قبل حل أي تناقض أو تعارض آخر ومهما كانت درجة أهميته؟ هوامش1 : منذ عام 1906 (الثورة الدستورية) وحتي الأربعينات من القرن الماضي، عرفت إيران تيارات فكرية صادرة عن شيعية راديكالية غيرت إلي حد كبير وجه الشيعية السياسية التاريخية. وبينما عاشت إيران سجالا فقهيا وفكريا هاما للغاية يمكن اعتبار نتائجه بمثابة أكبر تحدٍ واجهته المؤسسة الدينية التقليدية (علي يد محمد نخشب وجلال الدين اشتباني وسواهما) لم يشهد العراق والمؤسسة الدينية التقليدية في النجف(الحوزة) وطوال عقود عدة تحديا يُذكر، لا علي صعيد الفكر السياسي ولا علي صعيد الفقه. لقد عاشت النجف في ظل حوزتها التقليدية (المحافظة) عقودا متتالية، كما كانت في الماضي البعيد، قابعة دون خوف تقريبا من أي تغيير جذري في الثوابت والمنطلقات الفقهية والسياسية، ومن دون أي تحدٍ جدي أيضا . وفي حين كانت المؤسسة الدينية في إيران بحوزتيها (التقليدية والتجديدية في قم ومشهد) تشهد حراكا فقهيا وسياسيا طاول، في الجوهر، مسائل إصلاح وتحديث الشيعية السياسية التاريخية، ومفهوم العمل السياسي بالنسبة لرجال الدين مثلما طاول مشكلات تجديد بني الفقه الشيعي؛ كانت نظيرتها المؤسسة الدينية في النجف تواصل التفتيش عن الفرص والظروف، التي تمكنها من البقاء حبيسة جدران ماضيها وتقليديتها. بهذا المعني كان النموذج الإيراني في الإصلاح والتحديث ُيلهم، مع بروز دور علي شريعتي وتعاظم تأثيره في الخارج، رجال الدين العراقيين ويضعهم أمام أسئلة جديدة ومحيرة. كان الدور الفكري الهائل الذي لعبه شريعتي في تحرير الإسلام الإيراني من هيمنة المؤسسة الدينية؛ يطرح، في المقابل ومن خلال توجيه أفضل نقد فقهي ـ فكري صدر حتي الآن (بشكل أخص للصفوية الإيرانية كما لدور رجال الدين الإيرانيين) بل ويقدم الأفكار الأولي الضرورية والملهمة للمجتهدين الشيعة في العراق، ويعيد تذكيرهم لا بأهمية العمل الفقهي التجديدي وحسب، وإنما كذلك بضرورة إعادة النظر في مفهومهم السكوني للشيعية السياسية . العنوان أعلاه؛ فصل من عمل ضخم يعكف الباحث علي إنجازه. للمزيد حول النقطة الخاصة بتطور مفهوم العمل السياسي عند الأحزاب الشيعية أنظر مثلا: ( عادل رؤوف: عراق بلا قيادة، قراءة في أزمة القيادة الإسلامية الشيعية في العراق الحديث، منشورات المركز العراقي للإعلام والدراسات 2002 دمشق )وانظر كذلك فؤاد إبراهيم: الفقيه والدولة، الفكر السياسي الشيعي، بيروت 1998، دار الكنوز الأدبية).2 : تتبع مقاطعة الكفل الصغيرة من الناحية الإدارية محافظة الحلة (بابل التاريخية). والكفل هذه يزعم أنها تضم رفات النبي الذي ورد ذكره في القرآن (ذو الكفل) وأنه من أنبياء اليهودية الذين ماتوا خلال فترة ما يعرف بالسبي البابلي. اليوم أصبحت المقاطعة مزارا دينيا للإسرائيليين المتدفقين علي العراق الجديد وقد أحيطت برعاية خاصة، وبحيث شهدت تدابير أمنية واسعة و عرفت إصلاحات وترميمات واسعة لما يزعم أنها آثار دينية يهودية. 3 : تعبير السيد يستخدمه الشيعة عموما في معرض تبجيل مكانة ومنزلة بعض رجال الدين من خلال ربط شجرة أنسابهم بشجرة نسب الرسول الكريم محمد (ص ). وتقليد إلقاء قصائد المديح وتعظيم مكانة هؤلاء في المجتمع من التقاليد الشيعية الخاصة، ويُلاحظ أن احتجاج أحد المجتهدين علي القصيدة، يندرج في إطار الحط من منزلة الشيخ الصدر الدينية (درجة الأعلمية ـ من العلم في أمور الدين) كما يندرج في سياق مقاومة الدور الذي يلعبه في مقاومة الاحتلال الأمريكي، وبالطبع من جانب رجال دين شيعة ربطوا مصيرهم كليا بمشروع غزو العراق. رد الصحيفة، بدوره، يؤكد الطابع الحاد للصحيفة( المرجعيتين الصامتة والناطقة.( تفصيلات وافية عن هذين المفهومين في سياق البحث). 4 : يتألف الائتلاف الشيعي اليوم وكما برز في انتخابات 30 كانون الثاني (يناير) الماضي من حزبين تاريخيين: حزب الدعوة الذي يتزعمه إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء المؤقت، والمجلس الإسلامي الأعلي للثورة العراقية بقيادة عبد العزيز الحكيم، ومن مجموعات وأحزاب صغيرة ظهرت بعد الاحتلال مثل حزب الفضيلة، و البيت الشيعي بقيادة الليبرالي ـ العلماني أحمد الجلبي، وكذلك من أحزاب صغيرة أخري تشرف عليها المخابرات الإيرانية وتقودها بشكل مباشر مثل تنظيم ثار الله وحركة بقيت الله- يكتب اسم الحركة طبقا للتهجئة الإيرانية وبالتاء المفتوحة، وهذا دليل قاطع علي نوع الاستهتار وحتي الازدراء الذي ميز التدخل الإيراني في الجنوب ـ وهناك شخصيات وأفراد ضمهم الائتلاف إلي قائمته وهو اليوم يسيطر علي معظم مقاعد الجمعية الوطنية سوية مع شريكه الائتلاف الكردي.5 : لعبت إيران ابتداء من 1917 حتي عام 1925، أي ابتداء من سقوط بغداد في قبضة البريطانيين حتي سقوط حكم الأسرة القاجارية وانتقال العرش إلي رضا خان؛ الدور ذاته تقريبا الذي تلعبه إيران اليوم في العراق، وكأن التاريخ يكرر كثيرا من وقائعه المتشابهة والمتماثلة علي نحو سقيم. شجعت إيران، آنذاك، ظهور تيار موالٍ للاحتلال في صفوف الشيعة، بينما قاومت تيارا آخر عرف بتيار الشريفيين نسبة إلي الشريف الحسين نادي بتنصيب ملك عربي وحتي إلي مواجهة البريطانيين.أنظر، مثلا، كتابنا (الجماهيريات العنيفة ونهاية الدولة الكاريزمية في العراق) دمشق 2005، دار الأهالي. وفي الكتاب تفاصيل واسعة حول هذه النقطة. في هذا الوقت شهدت إيران حضورا لافتا لرجل الدين آية الله الكاشاني الذي باشر من النجف الدعوة للانخراط في ثورة عام 1920. والتي توجتها بالدعوة إلي التطوع للقتال في فلسطين؛ قبل أن يصبح نائــــبا في البرلمان بعد خمــــس ســـنوات من هذا التاريخ. 6 : ظل الخطاب الشيعي حتي مع بروز دور الفيلسوف الشيعي محمد باقر الصدر (الصدر الأول) مؤسس حزب الدعوة وصاحب أشهر مؤلفين عند جماهير الشيعة (اقتصادنا) و (فلسفتنا)، مُصمما علي النظر إلي الديمقراطية كفكرة غربية معادية للإسلام مثلها مثل الشيوعية. ويبدو أن حزب الدعوة الذي أسسه الصدر الأول ومنظره الأبرز، كان يثير بعض التحفظ في إيران وربما وصف الحزب من جانب بعض المسؤولين بأنه (يحظي بنوع من الحماية من قبل الغرب وأمريكا) بحسب تعبير محتشمي الذي ظل معاديا لحزب الدعوة (أنظر: اللقاء الصحفي الذي أجرته معه صحيفة عصر ما الإيرانية العدد 205 ونشر الباحث العراقي عادل رؤوف صورة فوتوغرافية من اللقاء، عراق بلا قيادة، مصدر مذكور) اليوم، وبعد عقود من العداء للديمقراطية كفكرة، تجري مصالحة نشطة لا سابق لها بالنسبة لشيعة العراق، مع أكبر ركيزة في الفكر السياسي الغربي. لهذا السبب وحده تبدو الديمقراطية في الخطاب الشيعي العراقي كما لو كانت مفتاحا سحريا لكل المشاكل المستعصية علي الحل. لقد طغت فكرة الديمقراطية في الأدبيات السياسية الشيعية المعاصرة وفي الفكر السياسي الشيعي علي ما عداها من مفاهيم.7 : عاشت حوزة النجف وترعرعت، تاريخيا، داخل نوع مستتر من الخصومة وحتي العداء للدولة الوطنية؛ ورأت إليها علي أنها دولة كافرة . إن أفضل مثال عن نوع هذه الخصومة ذلك الذي تعطيه واقعة رفض المرجع الأعلي للشيعة محسن الحكيم (والد باقر وعبد العزيز ) لقاء رئيس الجمهورية العراقية عبد السلام محمد عارف خلال عامي 1963ـ1964. وبدلا من لقاء الرئيس، الذي بذل المستحيل لتحقيق مصالحة بين الدولة والمرجعية، قام الحكيم باستقبال فرح بهلوي زوجة شاه إيران لساعات عدة (للمزيد أنظر عادل رؤوف، عراق بلا قيادة، مصدر مذكور). * باحث ومفكر عراقي مقيم في هولندا.7

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية