النص العابر للأجيال!

حجم الخط
0

النص العابر للأجيال!

خيري منصورالنص العابر للأجيال! إذا كان وجود مثقف عابر للطبقات أندر من أن يتحول الي ظاهرة، فإن المثقف العابر للأجيال هو ظاهرة كونية بامتياز، إذ لولاه لاقتصر الموروث المعرفي علي التراكم، ولم تصبح الرؤي النافذة والعابرة للقرون مرجعيات تستحق أن تصبح ملاذات عندما ينحرف التاريخ عن مجراه، ويتورط بقوي غاشمة تقتاده الي مصب آخر، هو منفاه. وقد يكون ما قاله الفرد وايتهد عن حضارة الإغريق مثالا بالغ الفصاحة عن تجارب رائدة، اجترحت آفاقا، وقاومت عوامل الإماتة، وإن كان هذا الفيلسوف البريطاني المولع بالمنطق والرياضيات حد التصوف قد بالغ في رهانه علي خلود أسلاف، يتمددون الي المستقبل بفضل ما لديهم من فائض الكشف والمغامرة فهو يري مثلا أن ما تبقي للإنسانية بأسرها بعد عشرين قرنا منذ الإغريق، هو أن لا يكونوا يونانيين، أي أنهم محكوم عليهم بالمراوحة في تلك الدائرة ذات المركز اليوناني، ولهذا السبب، حاول مفكرون معاصرون ورواد اتجاهات في الفكر والفلسفة أن يؤصلوا تياراتهم بالبحث لها عن جذور لدي أرسطو أو سقراط أو هيراقليطس اضافة الي أفلاطون بالطبع، ولا يمكن لناقد حديث أن يتعامل مع مسرحية لأسخيلوس أو شعرية لفيرجيل دون أن يشعر بأن هؤلاء عبروا الزمان والأجيال معا، بحيث كان من السهل علي دانتي الاليجري مثلا أن يردم الهوة السحيقة بين عصره وعصر فيرجيل في كوميدياه الإلهية، بحيث يقتاده الشاعر القديم الي ملكوت آخر، وإلي الفردوس والجحيم واللمبو الذي هو الحد الفاصل بينهما، أو ما يسمي في أدبيتنا الدينية الأعراف!حتي منظومة القيم، سواء تعلقت بالفروسية أو المناقبية التاريخية، أو الحس الوطني ما تزال تتغذي من شواهد قبور الإغريق القدماء. . حيث كانت تلك الشواهد ممهورة بعبارات أشبه بالأيقونات، عن الشهداء الخالدين، ومنهم من صورهم أفلاطون في حكايته الشهيرة عن رجل بامفيليا الذي احتفظ بطزاجته ونضرته وشبابه بعد الموت بزمن طويل، لأنه قتل وهو يدافع عن أثينا!ولكي لا نبقي في النطاق الإغريقي، ورغم جدارته بالمكوث عنده طويلا، لأنه كما قال عنه ماركس يمثل طفولة البشرية وبكارتها ويستعصي علي التصنيف التقليدي لحقب التاريخ، فإن معلقات الجاهلية سواء كانت سبعا أو عشرا أو غير ذلك، تعتبر عبرة للأجيال وما نزال نقرأ امرأ القيس وطرفة بن العبد علي وجه التحديد باندهاش، خصوصا ما يتعلق بالصورة الشعرية، وعقد علاقات بين عناصر العالم المتباعدة. وما يرشح من ذلك المعمار الشعري من رائحة وجودية يتجاوز ما يسميه المدرسيون الرؤي الوثنية للعالم، خصوصا لدي طرفة الذي قدم هواجس عن الحياة والموت، لا يعادلها الا تلك الهواجس الإغريقية التي انتظمت فكرا مجردا وليس ابداعا شعريا..هنا، يكون النص لا المثقف هو العابر للقرون والأجيال معا، لأن عناصر وأقانيم اقامته الدائمة في التاريخ تتأقلم معها الحساسيات والذائقات علي اختلاف أنماطها ومستوياتها، لهذا لم يجد السورياليون ضيرا في البحث عن جذر أرسطي لاطروحاتهم الفنية أو عن مسودات مبكرة لهيراقليطس خصوصا ما يتعلق بالزمان، أو بالنهر الذي لا يقطع مرتين!وهنا، ينبغي التفريق بين موقفين أحدهما اتباعي ومدرسي، وأفقي، والآخر اجتراحي وموسوعي وعمودي. الأول فكرة الخلود لمجرد أن الأجيال تتوارث النصوص حفظا أو تدوينا، أو بحثا عن اطار لهوية ثقافية. والثاني، فكرة العبور المسلح بالوعي والجماليات، الذي لا يحتاج الي أيقنة أو تقديس قومي دفاعا عن موروث أو هوية، ويمكن أن يسمي هذا النوع العابر للزمان والأجيال الخلود لذاته مقابل الخلود بذاته اذا استعرنا مصطلحات الوجوديين التي تسعي الي التفريق بين ما هو مكتف بذاته وما هو لبلابي يعتاش علي سواه!تقدم لنا النصوص الأدبية من رواية ومسرح وشعر نماذج صالحة للاستقراء، والفرز بين ما هو عابر للأجيال وما هو متحفي يبقي لمجرد أن يقتني، ويحرس لأسباب توثيقية فمن بين روايات القرن التاسع علي كثرتها وتنوع موضوعاتها ثمة روايات تقرأ اليوم كما لو أنها كتبت البارحة، ومنها ما تحول الي منجم للمحلل النفسي وعالم الاجتماع والأنثربولو جي أيضا، فمن المعروف مثلا أن روايات ديستوفسكي قدمت المادة الخام والبكر لعالم فرويدي كلينيكي، وقد تصبح عبارة واردة علي لسان الاب زوسيما في الأخوة الاعداء مقولة أثيرة لفلاسفة ولدوا بعد عقود من رحيل مؤلـــفها، ليس لأن ديســتوفسكي كتب ما سيـــحدث، فـــهو كتب ما حدث بالفعل. . لكن القـــابل للحدوث في كل أوان، ما دام قد ألـــقي القبـــض بأصابعه علي المفتاح الذهبي الذي يفتض الأبواب كلها. وحين قدم ألبير كامو مسرحة معاصرة لرواية الممسوسون لم يكن النص المعاد انتاجه مفارقا لجذور النص الأول، وما كان لألبير كامو أن يجد ضالته في ذلك المثال الا لأن هواجس واسئلة الروائي الروسي عبرت القرن التاسع عشر الي منتصف القرن العشرين. وهذا يعيدنا الي ما يقوله مؤرخو القرن التاسع عشر عن ذلك القرن، فهو امتاز بأنه حاضنة الايديولوجيات، وكأن علي أهم أطروحاته أن تعبر القرن العشرين، وكي تترجل من المرتفعات النظرية الي أرض الواقع، وتصبح أكبر حروب القرن العشرين مجرد ترجمة مؤجلة وغير فورية لحروب الايديولوجيات المتناحرة في القرن التاسع عشر، وبالرغم من أن البيان الشيوعي لماركس ليس نصا أدبيا فهو كتب في بضع صفحات عام 1848 وكان عليه أن ينتظر سبعين عاما كي يترجم الي ثورة كبري تحدث انقلابا كونيا استمر سبعين عاما أخري، وما يزال له من الترددات الزلزالية ما يستحق الرصد !يذكر ناقد فرنسي أن عدد الروائين من جيل مارسيل بروست كان كبيرا، ومعظم هؤلاء حقق شهرة واسعة لم يحققها بروست، لكن صاحب رواية البحث عن الزمن الضائع عبر الزمان الي أجيال جديدة، وأعيد له الاعتبار، مما يضيف الي كونه عابرا للأجيال ميزة عبور الذائقات والحساسيات وهذا ما يقوله مؤرخو الفترة التي ظهر فيها أبو الطيب المتنبي في تاريخنا الأدبي، فقد خلف هذا الشاعر وراءه أعدادا غفيرة من الشعراء الذين مكثوا حيث هم. ولو اقتربنا أكثر من هذا، لوجدنا أن رواد الشعر العربي الحديث قبل ستة عقود، منهم من عبر الي العقود والأجيال اللاحقة ومنهم من مكث في قبره بحيث لا يرد ذكـــر الماكث في ديوانه أو قبره الا لمــــاما ولأسباب تاريخية خالصة، تخص مـؤرخــــي الأدب أكثر مما تخص الشعراء !وهناك وهم لا بد من تبديده احترازا من اختلاط النوايا أو درءا للالتباس وسوء الفهم، وهذا الوهم، هو ادعاء بعض الشعراء ممن ينصرف عنهم أهل زمانهم بأنهم ولدوا قبل الأوان، وأنهم بانتظار أجيال تعيد لهم الاعتبار، وتتوفر علي أدوات ومناهج تليق بقراءتهم أو استقراء مكنونهم المهمل. حقيقة الأمر أن من يعتقدون ذلك انما يدافعون عن نصوصهم ضد الهجران، وقد يكونون أدري بشعاب هذه النصوص من غيرهم، لأنهم يدركون أن للطلاق البائن بينهم وبين ما يحيط بهم من شقاء ثمنا لا بد من تسديده فالتذرع بالذات باعتبارها الحقيقة الوحيدة الماثلة في الوجود، واقصاء التاريخ والتمحور حول الأنا بأضيق معانيها الفردية، ولا ينتج بالضرورة نصوصا عابرة لزمانها وللاجيال لأن ليس كل ما هو غامض ماسا يتلألأ من أعماقه، وثمة الكثير من الفحم الموصد علي سواده، والذي لا يوحي بغير حقيقته الفيزيائية!وقد طويت تلك الصفحة التي تساءل فيها بطل قصة موباسان عن النهر الوهمي في اللوحة، ولم يعد بعد كل هذه الخبرة البشرية ممكنا اغواء ناقد بلوحة مقلوبة، أو بنص شعري تم تلفيق مفرداته جزافا وبطريقة اليانصيب كما فعل أحد المفتونين بالدادائية لمجرد أنها مصطلح عديم المعني في اللغة!إن ما يكتب الآن به من الوفرة ما يتحدي أي حاسوب علي الحصر، خصوصا بعد أن شارك الانترنت في الكتابة علي طريقته، وأتاح للهواة تجريب كل ما يخطر ببالهم بمعزل عن أي تقنين ابداعي. وقد تبدو بعض النصوص عاجزة عن عبور صفحة في جريدة أو مجلة لتدوم أكثر من يوم واحد، والرهان علي عبور ما ينشر الآن الي القادمين ليس ميسورا حتي للعرافين، ومدعي النبوءات، لكن الخبرة الجمالية تتيح للمرء أن يحزر بحاسته النقدية ما هو مرشح لهذا العبور، إن لم يكن الادراك الواعي متاحا، إن ما يضاعف من ازمة الاستقراء لما يكتب وليس قراءته علي نحو استهلاكي فقط، وهو انحسار النقد كحرفة، بحيث اصبح يمارسه العاطلون عن الإبداع لمجرد كتابة استثمارية لما هو مقروء فقط، حتي لو كان مقروءا بعيون الآخرين! ہ شاعر وكاتب من الاردن0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية