الناصرية كانت رهان الأمة علي الحرية والوحدة والعدالة
ميشيل كيلوالناصرية كانت رهان الأمة علي الحرية والوحدة والعدالةكان ياسين الحافظ يعزو جزءا كبيرا من فشل عبد الناصر إلي تخلف الانتلجنسيا الناصرية وتأخرها ونخبويتها، ويري أن طابعها العصبوي مثل عبئا علي محاولات القائد الكبير في الحقلين الاجتماعي والقومي، أسهم في كبح الثورة وتعطيل مسارها، قبل إسقاطها بيد قوي ثورة مضادة لطالما سمت نفسها ناصرية وانتمت إلي مراتب القيادة السياسية العليا في مصر.وكان الياس مرقص يعتقد أن افتقار التجربة الناصرية إلي حاضنة ثقافية قادرة علي تقديم بدائل وخيارات ثورية وحديثة حال بين عبد الناصر وبين الانخراط في حوار كان ضروريا لتطوير فكره وتاليا ثورته، وحمّله وزر نخب بائسة ومتأخرة جنحت إلي الارتزاق والمزايدة، وشدت تجربته التاريخية العظيمة إلي الخلف وقوضت طابعها الخلاق، الذي تلمسه القائد الكبير وعمل علي غرسه في وعي الشعب، بينما كانت الأنتليجنسيا المحسوبة تكرر كالببغاء مقولات عمومية، بدل أن تقدم له وللثورة الزاد الفكري الملائم.لم يكن عبد الناصر قوميا عربيا. لقد كان وحدويا عربيا. لو كان قوميا عربيا، لكان مثل القادة الذين وصلوا إلي الحكم في سبعينيات القرن الماضي، ولاستعمل المسألة القومية لبناء صروح أوطد للتجزئة والاستبداد، ولاستخدم اللغة والشعارات القومية ضد وحدة العرب وحريتهم، ولناقضت سياسته العملية وعوده المعلنة، ولما حدد خياراته وخطواته العملية انطلاقا من وحدة الأمة ووضع مصر ومواردها وسلطته في خدمتها، ولوضع الأمة في خدمة شخصه وأسرته، ولصفي القوي الوحدوية، وقاتل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتاجر بالأمة في الداخل والخارج وأعمل فيها نهبا وإفسادا، وأخرجها من العصر وقادها إلي انحطاط يتفق وعصر الإمبريالية ويخدمه، ولقال عاصمتي تكفيني، ولفر من المواجهات مع أمريكا وإسرائيل ومارس سياستين: واحدة فوق الطاولة وأخري تحتها، تتشدق الأولي منهما بالعرب وتتآمر الثانية عليهم، ولأقام سلطته علي الطائفية والعشائرية والشللية وعلي كل ما هو متخلف وما قبل وطني ومجتمعي في واقع العرب. واليوم، وقد اختفت الناصرية بصورة تكاد تكون تامة، ترتفع أصوات البقايا المتخلفة، التي كانت دوما أقرب إلي عقل البعث منها إلي مشروع القائد التاريخي الكبير، لتحل الشعارات محل العمل الوحدوي الحقيقي، وخطاب الاستبداد المؤمن بالفرد وحزبه محل خطاب الديمقراطية المؤمن بالأمة، متجاهلة ما يفترض أنه درس تاريخ العرب الحديث، وهو أن البطش بالشعب مهد للهزائم وحال دون تشكل حامل سياسي تاريخي للثورة الوحدوية، وجعل من النظام وطننا ومن الوطن زريبة يعامل الشعب فيها معاملة البهائم، وقلب السياسة إلي تجارة بالقيم والمقدسات الوطنية والقومية، وأسقط مناعات الداخل العربي واستدعي ذئاب الخارج، التي وضعت يدها في يد المستبدين الذين قوضوا حصانة أوطانهم وجعلوا سقوطها مسألة وقت. هذه البقايا، المنحدرة من عالم ثورة ديمقراطية قومية حملت اسم الناصرية إلي عالم استبداد شمولي بعثي، دأبت علي لعب دور مشين في تاريخ العرب الحديث، حتي أن أحد أبرز رموزها شتم المثقفين العرب أثناء لقاء تضامني مع العراق نظمه هؤلاء في دمشق قبيل الغزو الأمريكي، لأنهم يواصلون مطالبتهم بالحرية والديمقراطية في العراق وغيره من أقطار الوطن العربي، بدل أن يؤيدوا البطل القومي. وللعلم، فقد قال هذا القومي العربي ما قاله رغم أن طارق عزيز كان قد رد علي من طالبوا بتشكيل حكومة وحدة وطنية تبيض السجون وتحسن شروط الصمود في المعركة القادمة ضد أمريكا: لدينا وحدة وطنية كاملة في عراق القائد المنصور، الذي انتخبه الشعب بنسبة تفوق المائة بالمائة. وليس لدينا معارضة، ومن يقبعون في سجوننا مجرمون سياسيون ومرتزقة أبقينا علي حياتهم لأن الرفيق القائد رقيق القلب . لم يقف القومي العربي ليقول: هذا المنطق يضعكم علي طريق الهزيمة، بل وقف يشتم المطالبين بتحصين العراق، بحجة طرح مطالب لم يحن وقتها بعد، سيحققها القائد المنصور بعد النصر الأكيد. يطرح مثقفو سورية ومعارضو نظامها منذ نيف وثلاثين عاما برنامج تغيير وطني ـ ديمقراطي محوره الرئيس إقامة ديمقراطية تقوي الدولة والمجتمع وتحرر الأرض وتردع العدو الإسرائيلي، فيشيد النظام السوري بوطنيتهم، ويختفي بامتناعهم عن مد أيديهم إلي أمريكا، لكنه يمتنع في الوقت نفسه عن قبول برنامجهم الوطني، تمسكا بالسلطة ومغانمها. بالمقابل، تتعالي أصوات قومية عربية أمريكية ـ شغل الـ CIA ـ شاتمة حانقة، وتعلن أن حرية الشعب تهدد الوطن، وأن في استبداد النظام حصانة الأمة وقوتها، وأن التناقض بين المستبدين وأمريكا يحتم اصطفاف الوطنيين معهم، وإن كانوا غير قادرين علي رد خطرها أو خوض معركة دفاع جدية عن الوطن، كما ثبت في العراق. ماذا يمكن أن يقال في قوميين عرب يرون أن الشعب لا يستحق الحرية، وأن العربي خلق كي يبتزه المستبدون باسم الوطن، وأن حالة الطواريء والأحكام العرفية هي خير ضمان لمصالح العرب العليا، وأن المواطن الحر سيضيع بلده؟ وماذا يمكن أن يقال في قومي عربي يؤيد استبدادا جاء ضعفه بجيوش العدو الصهيوني مرات متكررة إلي مشارف عاصمته، وعجز عن حماية وطنه بالأمس، ويعجز عن حمايته اليوم، بعد أن قوض مقومات صموده وقضي علي لحمة أبنائه الشعبية والسياسية؟ يعتقد هؤلاء السذج أن ردع الإمبريالية ممكن بيد المستبدين، الذين سلبوا المواطن حريته، وخربوا دولته، وكشفوا وطنه أمام أي غاز أو طامع! فهل موقفهم هذا قومي بحق، وهل يحق لحملته الانتساب إلي عبد الناصر العظيم، الذي لم يمارس يوما حملات قمع أعمي لكسر روح الشعب أو إذلاله أو إخراجه من الشأن العام، رغم أنه خاض معارك داخلية وخارجية أكبر مليون مرة من معارك أي مستبد بعثي، بل راهن دوما علي حرية المواطن، الذي أوصل بركات العدالة الاجتماعية إليه، وعلمه وثقفه وشحذ همته واحتمي به، ولم ير في حريته خطرا عليه وعلي الوطن، وحين وقعت هزيمة حزيران نسبها إلي نقص الديمقراطية والحرية، وأعلن عزمه علي إعطائهما الأولوية، ليكون ممكنا تحرير الأرض وقهر العدو؟عندما يكتب أحدنا مطالبا بالحرية والعدالة، يصفه قوميو أمريكا العرب بالمهبول أو السخيف أو الأبله. وحين يؤكد أهمية الديمقراطية ودورها في حماية الأمة، يكون تعليق هؤلاء: خائن أو كذاب أو مجنون. بل إن البريد الأمريكي يضم من حين لأخر رسائل تتحدث عن خطر إسرائيل علي العرب، ولو كان أصحابه وحدويين ووطنيين حقا، لأرسلوه إلي من يعرض ثلاث مرات في اليوم الواحد مفاوضات دون شروط مسبقة علي إسرائيل، التي دأبت علي رفض عروضه، لعلمها أنه قتل روح شعبه، وفقد، لهذا السبب، القدرة علي تحديها أو مواجهتها. ان تحول المرء من ناصري إلي قومي يؤيد نظما استبدادية يعني أنه لم يعد ناصريا أو وحدويا أو قوميا. لا يدفع الناصري العرب إلي كوارث مؤكدة، برميهم في أحضان استبداد جبان وعاجز. ولا يدعم المستبدين ونظمهم المفلسة، ولا ينكر أهلية العربي للحرية، ولا يؤمن بعجزه عن بلوغ سن الرشد الديمقراطي، قبل قهر أمريكا، الذي لن يتم علي يد المستبدين، ولو بعد مليون عام. لم تكن الناصرية نظاما استبداديا، بل كانت رهان الأمة علي الحرية والوحدة العربية والعدالة الاجتماعية. ولا يجوز أن يقبل الوحدويون العرب الاستبداد ودعاته من جماعة الـ CIA ، لأنه لم يخدم إلي اللحظة أحدا غير الـ CIA. 9