المشربية لشهلا العجيلي: حكي القصص بامتياز

حجم الخط
0

المشربية لشهلا العجيلي: حكي القصص بامتياز

الحبيب السائح المشربية لشهلا العجيلي: حكي القصص بامتيازالكتابة علي الكتابة مجازفة! وحين يتعلق الأمر بجنس القصة القصيرة تغدو المحاولة بلا ضمانات، لأنها غير مخضَعة لإجراءات القراءة.أحسست دائما أن هناك علاقة بين القصة القصيرة وبين القصيدة الشعرية؛ لِما تحدثانه من إرباك.أزعم أنه يمكن فتح نوافذ كثيرة علي نص روائي، بينما يبدو صعباً فعلُ ذلك مع قصة أو قصيدة. إنهما نصان يطلبان إليك أن تقولهما في كلّيتهما، أو تتخلي. أول انطباع ارتسم علي صفحة قراءتي، كان أن مجموعة المشربية كتابة قصصية، بالمعني النبيل لهذا الجنس الجميل الذي صار نادرا!ينبئ عن موهبة شهلا العجيلي في الإنشاء القصصي، هذا الأداء السردي القصير الذي يشبه حسن صنع المشربية (37 ـ 47) وجمال نمنمة الطاولة المستديرة (31 ـ 35).فعلي قدْر قصَر النصوص الأربعة عشر، التي تتضمنها المشربية ، جاءت منتهيات القص في كل واحد منها سلسلة، تامة وذات أثر.فكل نص في المجموعة، المتميز عن غيره موضوعاً ونكهةً، أُحكم بحادثة تبدو بسيطة ـ ولكن يعزّ تصيّدها عند كثير من القصاصين ـ وبعقدة سرٍّّ يجلو في النهاية من خلال حل منتهٍ ذكي ولبق، كمفْصل ثالث في البناء.فهو مثْل يقين عندي أن نصوص مجموعة المشربية كتبت علي تباعد (تباعد الولادات!). كان التأْريخ الذي تذيّل به عادة القصة القصيرة سيثبت ذلك! ماذا يعني التأريخ، أي فائدة يقدم، لماذا يُغفَل؟ أتصور أن هناك قصصا أخري سابقة أرجئت إلي مجموعة لاحقة!يسوّغ لي ذلك اليقينَ كونُ كل قصة تظل محتفظة باستقلاليتها، بفعل حرْص خفي من القاصة علي تنويع مضامين المجموعة ـ حتي ولو أن التيمة الغالبة فيها هي المرأة في علاقتها بالرجل ـ، وبفعل الجهد البارز في نحت ما أسميه الفضاء اللغوي لكل قصة (لعلها نقطة تقاطع القصصي مع الشعري!)، لذلك يظهر أن إنشاء كل نص يرتقي إلي درجة من الجودة، لأنه كتب لذاته! هذا يعني أن المشربية لم تكتب كمجموعة. فمن هنا الطريق إلي القصة القصيرة!لا أزايد إن اعتقدتُ أن المتعة المحصلة من قطعة موسيقية أو من لوحة فنية، ومن قصيدة شعرية أيضا، تكاد لا تختلف عما توفره قصة قصيرة.فاللذة في المشربية كلها، حاصلة من انتظار انفراج السر الذي يكتمل انسيابيا بهذه البسمات التي أشرقت في إحساسي من تلك الجماقات الصغيرة التي رسمتها مزحة (11 ـ 12)، ومن هذه السخرية التي تقولها أسرار الرجال (15 ـ 17) في فقرة واحدة، بجملة نحوية واحدة لوصف لحظة واحدة، وذلك أبرز التنويعات التي وقّعتها شهلا العجيلي في المجموعة كلها علي مستوي التوزيع اللغوي. إنْ تكن المشربية، كتحفة نادرة من القرن التاسع عشر، والتي تم نقلها ـ كيلا أقول نزْعها ـ من مكانها العتيق إلي وجهة أخري، تومئ إلي أثر تاريخي وثقافي خلفته يد تركية، فإن الطاولة المستديرة (33 ـ 35) شكلا، والموصوفة بأسلوب جميل دقيق، هي تحفة أخري محملة بدلالات خطية ومحوّطة بهالة من التمجيد، ليس لأنها صارت فحسب تذكارا لفرسان المقاومة الثمانية، الذين كانوا يجتمعون حولها داخل المقهي، ولكن لكونها علامة من علامات مقاهٍ كانت، ذات زمن، فضاءات ثقافية وفكرية وسياسية بامتياز!فكلتا التحفتين تذكارٌ! وكلتاهما تثير هذا الحنين إلي ما يضيع منا من زمن جميل! لكنْ، ما أجمل أن تري العالم من وراء مشربية! ص39.ففي ثلاثة مقاطع بثلاثة أسئلة، بصيغة كيف، تتقاطع في احتمال الرؤية من وراء المشربية (39 ـ 47) ـ والوراء هنا من داخل الغرفة إلي الخارج ومن ذاك الخارج إلي داخلها! ـ تُنسَج خيوط لعبة الظاهر والخفي، الستر والكشف، الحقيقة والوهم، ولكن أيضا الرغبة الجموح والكبت الكابس! تأسرني اللعبة، وتأخذني معها، أشعر كأنني أرتدي قبعة الإخفاء ، ص44. قد لا أخطئ حين أعتقد أن دلالة المشربية، إن كانت في جانب منها تحيل علي عهد الحريم، فهي في جانبها الآخر تعني الحجاب الذي من ورائه تمارس المرأة طقوسها علي خارج يقهرها أن تعبّر عن شيء منه بالمكشوف!فليست المشربية مثير غواية فحسب، إنها منفذ لرؤية ما لا يراه الآخرون مما يجري حولهم. أتراه رآني حين تناولت الكيس أمس…إنه يضايقني…ألا يعرف أن الحكومة كلها أصحابنا، وأنسباؤنا، وأصهرتنا…إن كان يريد حصته فلينطق…ليس معي أي شيء، لا هنا، ولا في السيارة، أو في المحل، أو حتي في البيت…تعال فتشني وخلصني…أريد أن أسهر مثل الناس، أريد أن أعيش حياتي بلا رقابة .. ص46. علي أن بغال الحكومة (51 ـ 57)، وما أقساه نعتاً! ذكّرني بفيلم سينمائي شهير (On achٹve bien les chevaux)، فإنْ كان الأبطال فيه يستنزفون في سباق الرقص إلي آخر رمق لآخر ثنائي علي الحلبة، فإن الرقص في أحد البلدان الإفريقية (الكونغو) ـ كإسقاط علي الواقع العربي ـ إنما لرسْم مشاهد من خيانات الساسة شعوبَهم ولتمثيل أولئك الأبطال الذي يشعلون الثورة ثم لا يلبثون أن يُمسَخوا، بفعل الرشوة، بغالا.فالتوازيات والمقابلات التي يحدثها القص بين أكاي ، ابن صاحب أهم مزرعة لتربية الخيول (في الكونغو!)، وبين ابن الدبلوماسي العربي المقيم في تلك الدولة التي تمزقها الحرب الأهلية، من جهة، وبين البغال وبين الجياد، من جهة أخري، تحقق استعارة مثيرة للإحساس بالحزن علي إهدار زمن الإنسان العربي بسياسات تزعم لها الخطابات الرسمية السائدة جيادا لقيادتها، وإنْ لم يكونوا في حقيقة الأمر سوي هجين من تناسل ابن أتانٍ نَزَا علي فرس.في عالمنا العربي كثيرا ما تنطلي علينا؛ فلا نفرق بين الجياد وبين البغال، ونحن أمة أعرف من غيرها بسلالة الجياد الأصيلة ذات الدم العربي!أعجبت كثيرا بهذا التخييل الذي ينبع من موهبة مؤكدة لدي شهلا العجيلي. فإنه لم يسبق لي أن قرأت نظيرا لـ بغال الحكومة في القصة القصيرة!في فلسفة (93 ـ 95) سؤال صغير بحجم الأخلاق التي تبغي المدرسة ترسيخها في واقع متغطرس، لا أخلاق تحكمه، يقف لها عند بابها ليصرخ في وجوه الخارجين منها بغير الحقيقة المثالية التي تلامس الكذب. إذا أفسدت شيئا، فلا بد أن يبتلعك النهر . ص94.تقول المعلمة إن صالح ابتلعه النهر؛ لأنه عبث بسور المدرسة، وكذلك يكون مصير جميع المفسدين! لكن صالح كان طفلا طيبا. وإنما أراد أن يلعب مع الرفاق.فلماذا لا يغرق غير الطيبين؟ كل عصر، حين أذهب إلي النهر، أراه يغص بالجثث: بحثت عن جثة رئيس البلدية الذي أفسد سور المدينة الأثري أمس، هدمه، بحثت عن جثة ذلك الرجل الذي يعيش في حارة السرايا ، لقد أفسد قلب الفتاة التي أحبته، بحثت عن جثث مديرين، ورؤساء، وموظفين، وتجار، وعسكر، أفسدوا ضمائر وأجسادا وعقولا، وسرقوا فرصا، وأعمارا…ثلاثون عاما وما يزال النهر يخدعني، وما أزال أحلم وآمل وأرتطم، وألعن فلسفة المعلمة . ص95. أثارت متطوعون.. في خدمة الإنسانية (99 ـ 101) في ذهني صورة لشريحة من أفراد تابعين لبعــض الفصائل الفلسطينية (في الخارج)، وأعادتني إلي جو جامعة وهران خلال نهاية السبعينيات. فإننا كنا، جزائريين وفلسطينيين أنفسهم من فصائل أخري، نغبط أولئك الزملاء الفلسطينيين في مقاعد الدراسة علي تلك البحبوحة التي كانوا يعيشون فيها!كما أيقظتْ حلمي بأن أري فلسطين، أن أمشي علي ترابها وأصلي في القدس، وأن أقابل فلسطينيين حقيقيين . ص99. فأنا في الجزائر أدرك الفرق جيدا. وأقدّر أن زخم الحياة التي يعيشها إبراهيم وصحبه في فلسطين أهم وأغني من حيوات شعوب بأكملها! ص100. متطوعون.. في خدمة الإنسانية ، التي تبدو لأول وهلة خالية من عقدة ومن نهاية، تؤكد قدرة شهلا العجيلي علي اختلاق البؤرة الدرامية: استشهاد إبراهيم (أحد متطوعي فلسطيني الداخل) برصاص إسرائيلي وهو يقوم بعمليات الإسعاف في القصف الإسرائيلي علي غزة . ص101. وتتيح هذا التفاؤل بانتصار قضية إبراهيم، فإن ساعته التي أهداني تزودني بالوقت من أجل الحياة! ص101. لا أحب أن أتعسف ربطا بين الأربع عشرة قصة، لأنها عوالم صغيرة في شكل منمنمة تجمع بين عناصرها ألوان اللغة المتزاوجة من الشعري والفلكلوري واليومي، ذات الظلال الفكرية، الفلسفية والوجودية! بالـ المشربية ، تحفر شهلا العجيلي لنفسها علامة طريق إلي الكتابة الأدبية. ذلك، لسردها الواثق، ولأناقة لغتها، وللوصف المقلّم المتنامي باعتدال، وللحوار المنجز بحسب ما تقتضيه كتابة القصة القصيرة ذات الخاصية الاختزالية والتكثيفية، ولهذا الحذق في فك العقد الصغيرة وإنهاء كل قصة بتقنية فائقة. ثم، لهذه المشاعر المتضمنة في نصوصها والتي تفيض إنسانيةً! المشربية ، قصص الحكاية، بامتياز!روائي من الجزائرـ شهلا العجيلي، المشربية قصص، دار كلمات للفنون والنشر، سورية، حلب، 2005.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية