المسرحي التونسي محمد المديوني: ثورة المقهورين كان وراءها تراث فكري حر والاستبداد لن يعود

حجم الخط
0

كان المسرح التونسي، من سبعينيات القرن الماضي ولعله ما يزال، يتمتع بمكانة عالية تضعه في مقدمة المؤسسات والمسارح العربية.
وما يزال جمهوره في دمشق يتذكر بإعجاب روائع من عروضه الفنية على خشبة مسرح الحمراء، منذ أكثر من ثلاثين سنة. ويكفي أن نشير إلى أيام قرطاج المسرحية والسينمائية، لنؤكد على هذه المكانة العالمية المتميزة. ولقاء الدكتور محمد المديوني، سواء في مهرجانات السينما أو بعيدا عنها، يكشف لنا جوانب مشرقة من هذه الثقافة والعروض والمهرجانات المسرحية والسينمائية، التي سبقت المشرق العربي بعشرات السنين. والمديوني أستاذ معروف بمكانته العلمية وبحوثه وكتاباته النقدية وإشرافه الإداري، سواء في المعهد العالي للفن المسرحي بتونس أو في الجامعة التونسية لنوادي السينما، فضلا عن تجربته الأكاديمية كأستاذ ومحاضر في المعهد العالمي للغات والحضارات الشرقية في باريس. وأجمل ما في لقاء الأستاذ المديوني نظرته المتفائلة للمستقبل، وثقته الأكيدة بأن تونس لا يمكن أن تنكفئ إلى الوراء، بدءا من السينما والمسرح وليس انتهاء بمكانة المرأة والتقدم الاجتماعي، ومسيرة الثورة قد تتعثر وترتبك في البداية، ولكن لا يمكن اختطافها.
* دكتور محمد لك بحوث وتجارب فكرية وأكاديمية وإدارية متعددة، أين ترى نفسك بين العمل الإبداعي في البحث العلمي وعملك أستاذا جامعيا وبين إدارة المهرجانات المسرحية ونوادي السينما؟
* ‘أنا أستاذ في التعليم العالي في جامعة تونس وأدرس في المعهد العالي للفن المسرحي الذي أشرفت على حدوثه وإدارته لست سنوات. ولعل هذا من بين الميزات التي تميز الحياة الثقافية في تونس أنه يوكل إلى غير الموظفين من رجال الثقافة ورجال الفن إدارة ومسؤولية تظاهرات كبيرة، شأن أيام قرطاج السينمائية وشأن أيام قرطاج المسرحية أو مهرجانات أخرى أو معرض الكتاب الدولي، هذا عادة في تونس وهي عادة محببة وأتمنى أن تتواصل. إذاً، أنا وقبل كل شيء جامعي وطبعا أمارس عملي الجامعي الأكاديمي كتابة وبحثا وتأطيرا، وكذلك أنا رجل مسرح لي صلة وطيدة بالمسرح بسبب البحث والتدريس، وفي وقت من الأوقات كان الإبداع المباشر، كذلك أنا محب للسينما ولي علاقة وثيقة بالسينما باعتبار أني ترأست الجامعة التونسية لنوادي السينما، وهي جمعية ذات قيمة أساسية في الثقافة الوطنية الحديثة لأنها نشأت منذ سنوات الخمسين واستمرت حتى الآن، وقد نشأت أيام قرطاج السينمائية، أي أن أيام قرطاج السينمائية هي في الواقع نتاج لعمل ثقافي قامت به النخبة التونسية في بدايات القرن العشرين واستمرت. فالجماعة التي أسست بفضل جهودها كتاب الدولة للثقافة وقتها، كما كانت تسمى، هم رجال جمعيات وهم من كانوا يعملون في المسرح بشكل أهلي بمستوى الجمعيات والمؤسسات، وكذلك جماعة نوادي سينما، مثل المرحوم طه الزريعة، نوري زنزوري، وكذلك منصف بن عامر.. وغيرهم كثر، هؤلاء من نوادي السينما وأنا كنت دوما عضوا في نادي السينما، وكنت ناشطا ومربيا وأشرفت على حدود هذه الجامعة، وهو ما جعلني أواكب الحياة السينمائية عامة من خلال اهتمامي بالسينما، وبالتالي أواكب حتى الحياة السينمائية في تونس من خلال عضويتي لعدد من لجان الدعم واللجان المتعلقة بالتفكير في السينما، فأنا قريب جدا من هذه الأمور. والتوفيق ينطلق من أن شواغلي في ذاتها هي شواغل فنية بعينها، لكن يترجم عليها بشكل أكاديمي طبعا إشرافي الإداري وهذا يأخذ مني وقتا كبيرا، لكن دوما من موقع العارف بمجالات السينما، والساعي إلى الاستفادة من الخبرة الإدارية، وكذلك من خبرة الأشخاص الذين اخترتهم حتى يكونوا معي في إنجاز هذا المهرجان’.
* سنعود للمسرح لأن انطلاقة المبدع تكون من المسرح دوما، وهو أبو الفنون، كيف تنظر لمسيرة المسرح واستمراريته في تونس بشكل خاص وفي الوطن العربي بشكل عام؟ وهل كان للتلفاز أثره في عزوف الجمهور عن المسرح؟ أم أن هناك أسبابا أخرى؟
* ‘بالنسبة لتونس أنا كتبت على الأقل ثلاثة كتب حول المسألة، ولي كتاب حول المسرح وهو كتاب تحليلي نظري اسمه ‘إشكاليات تأصيل المسرح العربي’. أظن أن المسرح يندرج ضمن سعي تونس وسعي النخبة التونسية منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في الحداثة. المسرح كان يعني من الممكن أن تختلف النخبة. وكما تعلمين في تونس لدينا نخبة تصنف لصنفين كبيرين، لدينا خريجو الزيتونة، جامع الزيتونة والجامعة الزيتونية وهو في ذلك الوقت كان يدرس تدريسا تقليديا وكان محدودا في ما يدرس في خصوص ما يسمى العلوم الدينية من علوم إنسانية من فقه وتشريع وحتى الآداب لم تكن تدرس به، ثم لنا المدرسيون كما يقول طه حسين هم الصادقيون نسبة إلى المعهد الصادقي الذي نشأ سنة 1875. إذاً، من تلك اللحظة انطلق المسعى للاندراج في الحداثة. أقول ذلك لأن خريجي الصادقية كانوا يدرسون مختلف اللغات، العربية بشكل أساسي، واللغة الفرنسية بالإضافة للغات اللاتينية واليونانية، أي يعرفون أصول اللغة الفرنسية. وكانوا يدرسون العلوم الحديثة مما أهلهم لمتابعة دراستهم إما في الطب مثلا أو في الحقوق في جامعات فرنسية، وبعودتهم إلى تونس لعبوا دورا أساسيا في بناء المجتمع الأهلي فكونوا جمعية اسمها الجمعية الخلدونية، نسبة إلى ابن خلدون في عام 1898. وتعهدت هذه الجمعية بالسعي لتوفير التعليم الذي ينقص الزيتونيين، فكان عدد كبير من الزيتونيين يتابعون الدروس في العلوم الصحيحة واللغات في الخلدونية، وكذلك فتحوا آفاقا لمهن حديثة لم تكن لتدرس في ذلك الوقت. إذا مبادرة النخبة التونسية قديمة، وهذا ما يفسر طبيعة تونس وطبيعة الثقافة التونسية، وطبيعة المسار الذي عرفه المجتمع التونسي وثقافته المسرحية. ومن جملة من دعا للعمل على المسرح، هؤلاء الذين كانوا في الخلدونية وانفتح الباب. إذاً، فالمسرح هو رديف بناء هذا المجتمع الحداثي، إذا أولا هي مرحلة أقرب ما تكون إلى اكتشاف هذا المسرح كالنظر من فوق الباب ثم اكتشافه، ثم ترسخ هذا المسرح بشكل جمعيات كجمعية الآداب وجمعية الشهامة، ثم اتحدت هاتان الجمعيتان كي تكونا فرقة. وهكذا تجمعت في جمعيات ثم تفرعت لتتجمع من جديد. إذاً، الحياة المسرحية مرتبطة بحياة المواطن، إن استطعنا القول.
* ماذا عن الموقف الرسمي، وخاصة الرئيس بورقيبة من المسرح؟
* ‘مع بداية الاستقلال قفزنا قفزة كبيرة، كان لنا خطاب للزعيم بورقيبة عام 62 يتكلم به عن المسرح باعتباره رهانا من رهانات الدولة الحديثة، وهو في الواقع ترجم ما عبر عنه أعضاء لجنة الدفاع عن المسرح التونسي التي نشأت عام 45 ووضعت عددا من النقاط لبناء هذا المسرح في تونس. ولنا أيضا المسرح المدرسي الذي نشأ منذ 68 وكسر كثيرا من الحواجز، منها مثلا دخول الفتيات للمسرح. المرحوم الزعيم بورقيبة يقول سوف ينتهي الكلام عن العنصر النسائي، لا! سنرسل فتيات مثقفات مدرسات يدرسن في المعاهد المختصة ويعدن، فان تكون الفتاة ممثلة، هذا ليس شيئا ينقص من القيمة، بل على العكس هو أمر يرفع من شأن صاحب هذه المهنة. فتأسست على المستوى الاحترافي فرقة مدينة تونس، ثم الفرق الجهوية في المحافظات كانت احترافية، لكن كان ينقصها الإمكانيات الفعلية لكنها نشأت. ونشأة المسرح تشكل رهانا من رهانات الثقافة والحداثة لدى المثقفين ولدى رجال المسرح. وطبعا نتيجة قرب تونس من أوروبا منذ الاستقلال، لم يعد المصدر الوحيد هو المشرق، فمباشرة كانت هناك علاقة بفرنسا وإيطاليا. لهذا، تلاحظين نوعا من الفرق بين المسار الذي عرفه المسرح في تونس، وبين المسار الذي عرفه المشرق مثل مصر وغيرها، وهو مسار تفاعل مباشرة مع ما كان يختمر في الحياة المسرحية في أوروبا، وفي العالم بصفة عامة. فكانت هناك المرحلة البريشتية أي هناك تفاعل مباشر مع النص في لغته الأصل تترجم للغة العربية، كذلك في مستوى التفاعل مع البعد المشهدي.
* ماذا عن مسرح الحمامات والتجارب الجديدة؟
* ‘المسرح الماركسي الثقافي للحمامات هو مسرح الهواء الطلق، وهو تجربة جديدة ومتميزة، وقد أنجز من طرف أحد كبار رجال السينوغرافيا الفرنسيين، وهو مسرح مفتوح دائري فرض بصورة أو بأخرى على المخرج التونسي أن يتحرر من مفهوم العلبة، أي ذاك المسرح الجبهوي القائم على الديكور. وأصبحنا نتكلم عن متممات ركحية، والركح هو الخشبة ونتكلم كذلك عن السينوغرافيا، لم نعد نتكلم عن الديكور. وهذا منذ أيام المرحوم علي بن عياد. ولهذا تلاحظين في تونس لمسة منذ البداية تجعل ممارسة المسرح مختلفة، كذلك في مسألة تكوين الممثل، أي لا تقف عند حد تكوين ممثل يستطيع أن يلقي بقدر ما يتعلق بتكوين ممثلين يسيطرون على أدواتهم، أدوات تعبير الجسد والتركيز. وهذا مر طبعا عبر المدارس مثل مدرسة التمثيل العربي التي كانت تدرس بشكل تقليدي، ثم بعد ذلك مركز الفن المسرحي، ثم أصبح المعهد العالي للفن المسرحي، بالإضافة إلى استفادة عدد من المسرحيين من تجاربهم، سواء في إيطاليا أو في فرنسا أو في ألمانيا. وهذا طبعا له انعكاس كبير على المقاربة التي يقوم عليها المسرح، وتقوم عليها ممارسته في تونس. الآن قضية الجمهور هو في الواقع مشكل وليس مشكلة، لأن الجمهور يطرح في جميع الفنون لكن في تونس بالنسبة للعروض. فهناك عروض جمهورها متوفر وبكثافة، ونفس الأمر بالنسبة لأيام قرطاج السينمائية، فنحن مهرجان يتنازع الناس حتى يدخلوا القاعة ولسنا مهرجان ينجز في فندق، كلا! المهرجان يقوم على محبي السينما، ستشاهدين عندما تأتين إلى تونس إقبالا كبيرا، وهذا يعني ما أنجزته نوادي السينما في السابق وامتدادات ذلك. ومن الممكن أن تشاهدي مسرحية تعمل لمدة سنة. وهناك بعض المسرحيات تقدم عرضا أو اثنين أو ثلاثة وتنتهي. ويجب، إحقاقا للحق، أن أقول: هناك عدد من الآليات استعملتها وزارة الثقافة. طبعا، توصيات رجال المسرح هي في نوع الدعم للعروض، وهذا كتبته في مقال لي حول واقع المسرح في تونس أميز بين شيئين: بين المسرح وبين اكتمال الفعل المسرحي، أي أنك تقولين في بلد ما لديه مسرح عندما يكتمل الفعل المسرحي، أي من دون جمهور ودون رغبة لن يكون هناك مسرح، وإلا سيصبح المسرح قائما على مسألة اصطناعية. أعني في أي بلد تستطيعين أن تضعي مسرحا وتأتي بمخرج كذا وتعرضيه أمام عشرة من الأشخاص وانتهى. كلا، المسرح يتطلب أكثر من ذلك، يتطلب تفاعلا مع ما ينتج ورغبة فيه وردة فعل تجاهه، سواء بالقبول أو بالنقض أو غير ذلك’.
* سننطلق من تونس الخضراء، تونس الثقافة، المطلة على أوروبا وعلى الشرق أيضا، تونس الممتعة بكل هذه الأشياء الجميلة. في تونس اندلعت ثورة والوضع لا يزال غير مستقر، هل تخشى على الإبداع في الفنون والآداب في تونس الجديدة؟ وإلى متى ستبقى خشيتك قائمة؟
* ‘الثورة التونسية قامت من أجل الكرامة ومن أجل التقدم، وثورة تونس قام بها أولادها المقهورون والمظلومون، وكذلك قام بها من ناضل من أجل الحرية والكرامة. ولهذا بالعكس، هذا غير وارد أن نخسر ما أنجز في تونس، وكنت قد أجبتك في سؤالك الأول عن المسار الذي عرفته تونس وعرفته ثقافتها. على العكس، هذه الثورة من المفروض أن توفر ما لم يتوفر، أي المزيد من الحرية والمزيد من فتح آفاق الإبداع، وما جد في تونس هو برأيي جزء كبير منه مهول، ولو تحملت الحكومة مسؤوليتها منذ بداية خروج بعض الشبان المغرر بهم أو من هم مدفوعون في طريق لا يشبه تونس ولا التونسيين، ليس المثقفين فحسب بل الناس العاديين. تونس بلد يطيب العيش فيه، وفيه تعدد الثقافات. بلدنا صغير في حجمه وحتى في عدد سكانه، لكنه متنوع ومتعدد، وكان دائما مفرق طريق لثقافات مختلفة حتى ترسخت به الثقافة العربية الإسلامية، لكنه بقي متصلا بالثقافة المتوسطية. ويكفي أن تري طبيعة الأكل وطبيعة اللباس، وكذلك الثقافة الافريقية في الجنوب. هناك الكثير وستجدين لهم الحس الافريقي الزنجي، وحتى في طبيعة تونس تجدين الصحراء والجبال، فهناك تنوع ولا يمكن أن يختزل في صورة واحدة غريبة. وأنا أريد أن أفهم ما هي المواصفات المطلوبة. في الواقع هو أمر فيه قطيعة تامة مع تونس الأعماق، وتونس الحقيقة.
* أليس هناك مشاكل في رأيك، وما هي إن وجدت؟
* ‘طبعا هناك عدد من المشاكل والصعوبات عاشتها تونس وتعيشها على صعيد المستوى السياسي، والمستوى الاجتماعي، والمستوى الاقتصادي. لعل هذا له انعكاساته بشكل عاجل على مظاهر الثقافة، ولكن ما أنا مقتنع به، ولا أشك به للحظة، أنه لا يمكن أن تتزعزع الأسس التي قامت عليها الثقافة التونسية، وأن الثقافة والفنون ركن من أركان تونس، وكذلك المنجزات الاجتماعية، خاصة موقع المرأة وما تحقق لها، وما هي ساعية في تحقيقه، وما هي أهل له، فلا يمكن أن نعود إلى قرون خلت من دون أن نكون في ذلك الظرف. هناك عدد من المسائل، كما يقال، هي نقاط حمراء: موقع المرأة لا سبيل للتراجع به، حتى وإن اتبعت طرق ملتوية فلا سبيل لأن تمس، لأن ذلك هو منجز منذ ثلاثينات القرن الماضي في تونس. طعمي حداد وبورقيبة، وفي الواقع بورقيبة أنجز ما أقامته النخبة التونسية. وكتاب طعمي حداد ‘امرأتنا في الشريعة والمجتمع’ حدد مواصفات منذ سنوات 1932 وهو كتاب معروف. إذاً، هي خطوط حمراء لا يمكن أن يقبلها التونسي، وأنا أكثر من متفائل لأني مستعد للمواجهة، لأن هذه المسؤولية مسؤولية أجيال. أنا عشت حياتي وكونت نفسي، ودرست في الجامعة التونسية ودرست في باريس، وأنا متكون في الجامعة التونسية. إذاً، لا يمكن أن نعود للوراء. لكن طبعا الحذر واليقظة هي أشياء مطلوبة وهو متحقق يوميا في تونس. إن أي مساس بهذا، الشارع يتحرك في هذا الاتجاه، ومسؤولية تونس تتجاوز تونس لأن تونس هي استثناء، ولعل هذا لم تقبله عدد من الأنظمة التي يسوؤها أن تكون تونس كما هي’.
* كما تعلم، هناك فئات شعبية هي التي نزلت إلى الشارع وبدأت بالثورة ولكن فئة أخرى هي التي استلمت السلطة، سواء في تونس أو مصر، ونترك ليبيا جانبا. هل تعتقد أن هذه الفئة مخطط لها كي تبعد الشباب وتعتلي العرش؟
* ‘في الواقع، ما حدث في تونس هو أمر ممكن أن يفهم ولو أنه يقلق، لكن كانت ثورة غير موجهة توجيها مباشرا من جهة معينة، ولم يكن هناك حزب من الأحزاب وراءها، بل كان هناك حراك شعبي. لكن هذا الحراك الشعبي قام على حراك فكري نضالي و14 تموز هو تاريخ ورمز. وقبل ذلك كانت هنالك انتفاضات كثيرة. نتكلم عن المسرح عن السينما عن الكتابات حول واقع تونس وما يجب أن تكون عليه، هذا كله أدى إلى زخم وكذلك طبيعة النظام المهترئ، نظام بن علي الذي بالغ في استبلاه الناس إلى حد أنه لم يعد يستطيع أن يحافظ على نفسه، خاصة أنه في حالة اهتراء ذاتي. مع الانتفاضة كان ما كان. لكن وراء هذا نجد عددا من المؤسسات منها أحزاب مثل حزب النهضة مثلا، وهو حزب عدد من أعضائه عذبوا وضربوا، ولكن في كثير من الأحيان كانت من أجل خيارات سياسية حزبية وليس بالضرورة وطنية. وأيضا هناك أشخاص درجوا مع أحزاب أخرى، أحزاب اليسار التي استمرت تناضل ومنهم من عذب وغير ذلك. وهناك التحالفات التي تمت مع حزب النهضة ذي التوجه الإسلامي، وأحزاب أخرى ذات توجهات إسلامية. إذاً ما حدث أن المؤسسة المنظمة أكثر، أي الحزب المنظم أكثر هو الذي نجح نجاحا نسبيا، معولا على نصيبه النضالي العام. ومع ذلك انكشفت أمور كثيرة جدا، وسنتكلم عن الأشخاص الذين كانوا في لندن وكانت لهم أموال كثيرة، وسنتكلم عن وزراء كانت لهم شركات، كان من المفروض أن تكون الحكومة ليست حكومة سياسية، بل حكومة تكنوقراطية وتكون المهمة الأساسية هي إعداد الدستور. لكن النهضة غيرت هي وحلفاؤها، وأصبحت تريد السلطة وأخذت السلطة، والآن نرى من خلال الكاشف عددا من الخيارات غير الصائبة، هم أنفسهم يبدلون بكثير، وحتى لا أقول عجز، سأقول عدم استعداد لممارسة العمل الحكومي، خاصة في المستوى الإداري. فهناك الكثير من الأخطاء وقعت وأساءت لتونس، والتونسيون يعرفون ذلك فلا يمكن أن نقبل أن تخسر تونس موقعها على المستوى العالمي بسبب أخطاء. لهذا، الآن التونسيون على بينة بشكل أوضح بما هو موجود، ففي السابق كان رد الفعل انتخابا اندفاعيا. الآن أصبح خيارات سياسية، والنزاعات الموجودة الآن هي تتعلق أساسا بطبيعة النظام في تونس، وطبيعة تونس الغد في مستوى الدستور. لكن هناك الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي هي لا تنتظر، ولا بد من إيجاد حلول لها، وهناك أيضا العلاقات الدبلوماسية. من كل هذا، هناك أمور يتبين عن طريقها للمرء، هل هناك قدرة على تسيير ملف مثل تونس أم عدم قدرة؟ الآن هناك وما نرجوه نحن، وهو شيء بسيط، المطلوب هو التعامل مع التونسي على أنه مواطن، أي له حقوقه وعليه واجباته. الشيء الثاني ألا أحد يفرض على الآخر نمط حياته أو نمط الحياة الذي يريد، خاصة إن كان لها علاقة كلها بتونس. المسألة الأساسية الأخرى هو الحكم المدني، الحكم الذي لا صلة له بأي دين، ولا يعتمد على الدين والشريعة، فهذا يسيء للدين ويسيء للسياسة في نفس الوقت. أيضا التناوب على السلطة، وهناك صناديق الاقتراع، أرجو أن تتم بشكل مناسب. ولكن من سيأخذ السلطة لا يظن أنه سيحكم مثلما كان الأمر في السابق وأنه سيورث ابنه أو أبناءه السلطة، هذا هو المطلوب في تونس. وكل الأفكار تحترم، وكل الرؤى تحترم، وكل الآراء تحترم، ما دامت تحترم الآراء الأخرى’.
ـ لنتأمل دور الإعلام من البداية وأثناء مواكبته للثورة والتطور الذي جرى عليه، هل الإعلام برأيك أضر بالثورة.. أم أنه ما زال يتقلب ما بين الآتي والسابق؟
* ‘الآن النزاع الكبير يدور فعلا حول حرية الإعلام والصحافة من خلال تحركات نقابة الصحافيين، لأن طرق السلطة القديمة معروفة بأنها تسيطر على أجهزة الإعلام الغالبة، خاصة ما يتعلق منها بالتلفاز والصحافة المنتشرة حيث كان سابقا الرئيس وجماعته، والحزب وجماعته، يسمون من يرونه مناسبا لهم، وهؤلاء تحت رحمة من يعينهم في ذاك الموقع. هناك نزاع كبير ووعي كبير لدى العدد الأكبر من الصحافيين، وكذلك المثقفين والوطنيين، بأن الرهان الآن هو رهان حرية الإعلام فعلا: على الإعلام أن يمتلك الحرية الآن. هناك قراران لم يقع توفير العناصر لتطبيق هذين القرارين، وهما قراران يعملان حرية التعبير وكذلك الحق في الوصول للمعلومة، لأن الأمر أيام الدكتاتورية ماذا تفعل؟ تجرم الإعلام مثلا عن معلوماته العادية وتمنعه وتغالطه في حين أن الحد الأدنى الذي يجب أن يتوفر للإعلاميين وللإعلاميات هو أن تذهب للمعلومة، وتتوفر المعلومة خاصة في سير الأمور في البلاد، وكذلك حرية أن يعبر عنها في إطار احترام الأمور الشخصية وغير ذلك. إذاً هو رهان أساسي وعلى أساسه تقاس درجة إنجاز الثورة لمهام الثورة’.
* لنتحدث عن مهرجانات السينما، وأنت مدير مهرجان في تونس، كيف ترى تنظيم مهرجان أبوظبي وغيره، من حيث التنظيم أو مستوى الأفلام التي تم عرضها، وكيف رأيت تطور هذا المهرجان في دورته الأخيرة؟
* ‘أتيت مهرجان أبوظبي أول مرة، ولكن لي علاقة نوعا ما بما يتم في عدد من الإمارات وكان لي الشرف أن حضرت في مهرجانات السينما أو مهرجانات المسرح. أظن أن هناك جهودا كبيرة مقدمة لاستنبات السينما واستنبات الصناعة السينمائية في الخليج، وهناك جهود كذلك لجعل هذه السينما حاضرة من خلال حضور مؤسسات الدولة في الإمارات مجال السينما عبر المتدخلين مباشرة من وزارة الثقافة أو ما يشبهها، ولقد اختاروا طريقا ليس لي أن أحكم عليه أو له لكن أرى أن الارتباط بالمقاربات السينمائية العالمية، أي مسألة كبار نجوم في سينما الشركات الكبرى هو خيار، لكنه خيار مرتبط بطبيعة هذه الشركات، أي أنه مرتبط بنوعية السينما التي تنتجها هذه الشركات وبطبيعة الخطاب، نوعا وكيفية وشكل تعبير وكذلك مضمونا، لأن العلاقة جدلية بين الاثنين. أبو ظبي أو دبي بلد صغير، هل من الممكن أن تنشئ سينما وطنية تكتفي بذاتها وترتبط بجمهور من الإمارات؟ وهذا سؤال الإجابة عليه واضحة، فعدد السكان لا يسمح للفيلم المنتج أن يعيد أرباحه، وهذا ما يفسر خيار الاتجاه نحو الارتباط بحراك سينمائي عالمي ولو أني لاحظت مشاركات في مسابقات الإمارات، وهذا أمر أظن أنه إيجابي ومدخل من المداخل التي يسمح لشباب الإمارات أن يدخلوا مجال السينما من خلال الممارسة الفعلية ومن خلال الدخول في تقديم أعمال مكتملة، أرجو لهؤلاء الشباب أن يجدوا طريقهم ويجدوا آفاقهم ويصبح الفعل السينمائي فعلا حقيقا لديهم’.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية