الكلـــب
محمد اكويندالكلـــبأفلت من قبضة يده، بل ينفلت منه الحبل المضروب، طوقا حول عنقي. أنسل تحت السيارات الرابضة جنب الطوار، ينقر الأعمي بعصاه، باحثا عني: فوكس…فوكس اللعين لا يكف، يجثو علي ركبتيه، ثم يأخذ في التلويح بعكازه تحت السيارات، الواحدة، بعد الأخري. أختبئ وراء إحدي عجلتي السيارة الخلفيتين. أصغي إلي لهاثه وسخطه الممزوج بالتهديد والوعيد. كثيرا ما كنت أتفادي ضربات عصاه بمهارة عجيبة.. الضربات التي تحدث ارتطاما قويا، بهياكل السيارات الجاثمة، هناك. أقعي علي قائمتيّ الخلفيتين، متحفزا للهروب إلي الجهة الأخري، أري ظل الأعمي ينأي عني بعيدا، يبدو طويلا كعملاق يمشي فوق ظل طابور السيارات المنعكس علي الإسفلت، أنبطح أرضا، لأتفرج علي هذا العرض، الذي يشبه عروض الظل. في الهوة السحيقة التي ينتهي بها ظل الطابور، يهوي العملاق وعصاه إلي الأبد.تخلصت من هذا الدنس (المسمي حبل) نفضت فروي الكثيف من الغبار، وأعدت همتي ورشاقتي، ثم هرولت نحو ـ المقهي ـ المركون زاوية الدرب، كدت أقترف حمقا، أضيفه إلي حمقي، عندما أخذت ألعق حذاء أحد الزبناء الثلاثة، فور اندساسي تحت طاولتهم، كان نعل حذائه لينا، وشديد اللمعان يغري بذلك، فكان صاحباه، لا يكفان عن السجال والجدال الساخن بينهما، وهو يحاول تهدئة الجو وتلطيفه، مرة، مرة، يغير وضع رجليه، مما اضطرني إلي استقامة جذعي بقائم الطاولة، كنت أكون في مخيلتي صورة عن وجه صاحب الحذاء، ما استنتجته من صوته العذب، إلا وجها بشوشا، عكس وجه الأعمي العبوس، وما يدعم صدق تصوري تراجعه السريع عن انفعالاته، وتبريراته اللبقة. أحيانا تخوننا حاسة الشم والبصبصة عند الحاجة.ينفض جمع الرجال الثلاثة، أتمطط استعدادا لملاحقة الرجل البشوش. كادت قدمه تدوسني، تنبه إلي وجودي، هشني برجله ـ هش ـ خفف من وقع سيره، أترك بيني وبينه مسافة، احتياطا من الركلات المفاجئة كان كلما التفت وجدني أتبعه. نهرني. أحنيت رأسي كإشارة إذعان، توقف ثانية، أخذ يحدق في كما لو كان يتفحصني، بدوري حدقت فيه متفحصا، تورد وجهه البشوش احمرارا، أسدل جفون عينيه خائفا، ثم تمتم بكلمات مسموعة: إن كنت من أهل الإنس، فمرحبا بك، وإن كنت… فحال الله بيني وبينك . كدت أضحك من سخافته، استأنف سيره، أدار رأسه إلي الخلف، فوجدني بمحاذاته، تماما..أجمل ما في أصحاب برج ـ الحمل ـ أنهم وديعون وطيبون، ومسالمون، أطعمني من طعامه، وقاسمني دفء بيته، أخذت أنامله لا تكف عن مداعبتي، ألعقها بلساني الدقيق، كتحية متبادلة بيننا، أحيانا أزوي ذيلي بين قائمتيّ الخلفيتين، وأزوم ملتفا حوله فرحا، بقدومه، أو استعدادا لمرافقته. أبالغ في تدللي، (كنت أعرف أن خصلة الدلال لا ترتوي أبدا.) يقاسمني قهوة مسائه، ويفرجني علي مجلاته المصورة، أحيانا أنط فوق سريره، أمد عنقي طويلا لملامسة الرفوف العلوية التي بها أمهات الكتب النادرة، يمسد علي فروي اللين (بفضل عنايته) ويحثني: ذوقك سليم . للكلاب غدرها قبل غدر الزمن، فلولا ثمل الأعمي، لظللت ضالا بين الحانات، ومتسكعا بين الدروب، فلا أرقي إلي هذا الوضع.. أين شردت ياجروي اللطيف، أسحب بوزي من بين حواف الكتب السميكة الحجم، أقفز إلي الأرض، فأبتعد قدر الإمكان، ثم أذرع الممر، ركضا، يمصمص إلي بشفتيه، ثم أعود إليه ملوحا بذيلي فرحا، يضربني علي ظهري، ضربا خفيفا: تيتوا ..تيتوا أشعر بالمهانة والإذلال.. أزمجر في وجهه بعينين محتقنتين بالدم.. لم يعرني أدني اهتمام، أحس أن كبريائي قد جرح، فأقبع فوق سجاد صوفي، أخدشه بغضب، أجعل غيوما كثيرة محلقة حولي من الصوف، يغضبه ذلك، ينظر إلي بوقاحة، يرميني بمجلة مصورة: ميرد تستقر المجلة المصورة أمام ناظري مفتوحة علي صورة ـ كلب ـ جميل المنظر، ذي فرو بني أنيق، وعلي عنقه سلسلة ذهبية نقش عليها اسمه: طوكسي وتحت الصورة تعليق: بفضل شكله الجميل، المتميز اختير رمزا للحزب . أخذت الغيرة تأكل قلبي، فأصبح مزاجي متقلبا.. قل هي بداية التبرم والتنصل بيني وبين عشيري، وهو ما أدركه بتعليقه: المزاج السيء ناتج عن الغيرة والغرور، وعدم رضانا عن ذواتنا . بدأت فكرة الشهرة تستحوذ علي، فأخذت أخطط للتخلص من هذا الطوباوي الحالم.. أعرف أن الشهرة دودة الأنانية والحسد والأهواء المنحطة، ذلك الوحش الرابض في أعماقنا والذي لا ينجح في ترويضه إلا القليل منا. وطوكسي هذا من يكون؟ يحدجني بعينين لوزيتين، يغريان حقا بالمساءلة: من أنت حتي تكشف عن بهائك وطلعتك، وتصطفيك اللجنة رمزا من أنت، يا من استأصل ـ بشهرته ـ نياط قلبي، ما من جرم أقترفه إلا وأنت أداته .. أعرف، وأعترف أنني الخاسر الأكبر للصداقة.. الشهرة؟ فهل أفرشت لي أعتابها لنصعد؟ درجها الأخير للتتويج ـ مدللك ـ من يومها أخذت أتحين الفرصة. ذات مساء كئيب، لم نكن نعرف من الكلب، من الآدمي. كلانا العراك. وكلما غرزت أنيابي في مكامن الروح. أنشب مخالبي في الحنجرة حتي يطفر الدم. باغته في هدنة الهجوم ومزقته، اختلط العويل بالصراخ.شاع خبر فعلتي الشنعاء. تلقيت علي إثرها الركلات الموجعة من كل الجهات حتي تقلصت معها عضلاتي وهيئتي، فصار جسمي ضئيلا، في حجم فصيلة كلاب الباكلوہ التي لا تتجول إلا محمولة في جيوب مالكها. تكورت ملتفا، ومحتميا، تحت باسط الدكان القصاب، وأنا أرمق المارة في غدوهم ورواحهم، كالأشباح ظانا نفسي متواريا عن الأنظار إلا أن الشياطين الصغار، يرمونني بالحجارة، وهم يتصايحون: عودة كلب ـ عمر الأعمي آنذاك، لم تتر في جلبة الأطفال أية فزعة، لكن صورة الوجه العبوس الماثلة أمامي، جعلت عضلات قوائمي مشدودة ومرتعشة كنوابض فولاذية، استعدادا ….كاتب من المغربالباكل: فصيلة من الكلاب الهجينة، ضئيلة الحجم جدا فهي لا تقوي علي المشي وغالبا ما تحمل في الجيوب. 0