«القاعدة»: كيف أسقط عظيموف الإمبراطورية الأمريكية؟

نفّذت شركة «أبل تي في +» سلسلة دراما تلفزيونية بديعة تستلهم روايات إسحق عظيموف، أحد أشهر كتاب أدب الخيال العلمي الأمريكيين تحت اسم «القاعدة» Foundation، وعالجت الشركة المنتجة حبكة عظيموف التي تخلّلت الروايات التي استقي منها العمل، والتي تدور ضمن سياق يقارب الألف عام، والتي كتبت في أربعينيات القرن الماضي، لتقديم حبكات جديدة تستلهم بذكاء شديد وقائع تاريخية مهولة طبعت عالمنا الحديث وحقبتنا المعاصرة، كما أنها قامت بتعديلات على الشخصيات الرئيسية تستفيد من حساسيات القرن الواحد والعشرين السياسية، في ما يخص مسائل التنوع العرقي والجندري.
يعتبر إسحق عظيموف (1920-1992) الكاتب الأمريكي الذي هاجر أهله من روسيا وهو بعمر 3 سنوات، يعتبر عظيموف واحدا من أكثر كتّاب الخيال العلمي تأثيرا في العصر الحديث، وتعتبر سلسلة رواياته المعنونة «قاعدة» من أشهر أعماله العديدة، التي قام بربطها لاحقا بسلسلتي روايات «امبراطورية المجرات» و»الرجل الآلي».
على المستوى السياسي كان عظيموف من أوائل الموقعين على البيان الثاني للمانيفستو الإنساني وأحد رؤساء جمعية الإنسانيين الأمريكيين، وهي منظمة تدافع عن الحقوق الدستورية والعلمانية والدينية للأقليات، وتعارض العنصرية وأسلحة الدمار الشامل، وتدعم حقوق الإنسان، وكانت من ضمن الداعمين لظهور محكمة دولية.

الأم/ العشيقة حامية النظام!

في إنتاجها الدرامي لروايات «قاعدة» قامت شركة «أبّل تي في +» في اعتقادي، بتطوير إرث عظيموف السياسي، بشكل يتناسب مع العصر، عبر تغيير كبير في الطابع الذكوري لبعض الشخصيات الرئيسية في أعماله، فتحوّل عبقريّ الرياضيات غال دورنيك الأبيض الآتي من كوكب متطوّر تكنولوجيا، في الروايات، إلى مراهقة سوداء من كوكب يعاني من الفقر والتخلّف والتعصّب الديني ترتبط بعلاقة عاطفية برايك فوس، صديق ومساعد العالم والشخصية الرئيسية في السلسلة، هاري سيلدون، الذي تنبأ بانهيار الإمبراطورية وأنشأ «القاعدة» لتكون موجودة لإعادة الحضارة عند ذلك الانهيار الكبير.
خضعت إحدى الشخصيات المهمة، سالفور هاردين، أيضا لتغيير من الذكورة للأنوثة وظهرت في المسلسل باعتبارها حارسة كوكب تيرمينوس (بدلا من كونها رئيسة البلدية حسب الروايات) وهو دور عسكري وليس إداريا، وهذا تغيير معتبر حيث تقوم المرأة، الجنس الذي يعتبر الأضعف والميّال للتسويات، إلى مقاتلة شرسة. إحدى التطويرات شديدة الأهمية المتعلّقة بجنس الشخصية في الدراما، جاء في التغيير الذي طرأ على إيتو ديميرزيل، المرأة الآلية، مستشارة الإمبراطور، وأمه، وعشيقته، والمسؤولة عمليا عن إدارة الإمبراطورية واستمرارها، وهي مستعدة لحبس الامبراطور العجوز، أو تدبير محاولة فاشلة لاغتيال الامبراطور الحاكم، أو التآمر لثنيه عن الزواج، ما دام كل ذلك يخدم استمرار النظام نفسه الذي بُنيت لتحميه!

الإرهاب يؤذن بسقوط الإمبراطورية!

قام العمل الدرامي أيضا بإضافة شديدة الأهمية على شخصية الامبراطور، ففي حين ظهر في روايات عظيموف كشخص غير كفؤ فإن مسلسل «القاعدة» ابتكر فكرة «السلالة الجينية» التي يقوم فيها الامبراطور كليون الأول بتأسيس خط سلالي من نسخه، الذين تتم تنشئتهم ليؤمنوا بأنهم ممثلون لاستمرارية إرادته. الإمبراطور بهذا المعنى هو التمثيل المشخصن لخلود الإمبراطور، المتواصل والذي لا يتغير، والحاضر أبدا، والذي لا يمكن أن يفشل. الثغرة التي يقترحها المسلسل هي أن هؤلاء، رغم أنهم نسخ دقيقة عن سلفهم المذكور، فإن نشوءهم كأطفال في ظل نسخة الإمبراطور العجوز والرجل والشاب، فإنهم يكتسبون صفات فردية أكثر مما يعتقدون.
انتبه الكثير من المشاهدين، على الأغلب، إلى التشابهات بين حدث الهجوم الإرهابي الذي يهزّ هيبة الإمبراطورية، والمتمثل بالهجوم على الجسر الفضائي للكوكب الحاكم، بحدث الهجوم على برجي التجارة العالمي في نيويورك، ومن غرائب الصدف طبعا أن يختار عظيموف اسم «قاعدة» لرواياته، وهو أيضا اسم تنظيم أسامة بن لادن الشهير، الذي هاجم أمريكا ذلك الهجوم الذي غيّر العالم وأخلّ بتوازناته، فأدى لاحتلال أفغانستان والعراق، ولتكاليف إنسانية فظيعة، وخسائر مالية مهولة لأمريكا وحلفها الواسع لـ»الحرب على الإرهاب».
يستشاط غضب الإمبراطورية إثر ذلك الهجوم، وتقوم بفعل تدميري هائل يمكن ان يعتبر معادلا موضوعيا لما حدث في العراق وأفغانستان، فبعد استدعاء ممثلين لكوكبين ومطالبتهم بالاعتراف بمن نفّذ الهجوم، يقوم الامبراطور بإصدار أمر بتدمير الكوكبين تماما. يهزّ الهجوم الإرهابي، من جهة أخرى، ثقة الإمبراطور بنفسه، وبعد تردده في قتل سلدون، الذي يعلن صراحة أن الإمبراطورية ستنهار، إذنا بإنشاء «القاعدة» في مكان ناء جدا من الكون، وتبدأ بذلك ديناميات الانهيار الطويل الأمد. ينسج سقوط الإمبراطورية خيوطه من الديكتاتورية التي لا مثيل لها في قوتها، وفي اعتقادها القدرة على السيطرة على كل شيء، ولا يكون الهجوم الإرهابي إلا مبررا يسرّع الانهيار، واللجوء للانتقام الأعمى كصورة مثلى عن التصدّع والضعف.

أدب الخيال العلمي ضد الإمبراطوريات

تظهر السلسلة أفكار عظيموف الفريدة التي تنسج على خطى التاريخ البشري، عبر استلهام تاريخ الإمبراطورية الرومانية، وتطبيقات العلوم التي طوّرها خياله الروائي بحيث تمكن، قبل وفاته، أشكالا مبكّرة من تنبؤاته المذهلة، عبر صعود دور الذكاء الاصطناعي، والإنترنت، والروبوتات. أثبت التقاء الخطّين، أيضا، بعضا من أفكاره حول السياسة، ونزعات الانتقام البشريّ، ولعل أهمّ هذه الأفكار يتعلّق بانحطاط الطبيعة البشرية وقدراتها على استخدام أعلى قدرات التكنولوجيا لممارسة ديكتاتوريات مطلقة لا نهاية لشرّها، أو قدرتها على الانتقام والتوحّش. يقوم الامبراطور بكشف إحدى الفتيات التي ساهمت في خيانة عرشه، فيقدّم الكاتب كيفية للانتقام تتفوّق على أي شيء قرأناه حتى الآن، حيث يقوم بإفناء كل من يقربها وتعرّف عليها خلال حياتها وكل عائلاتهم ومعارفهم، ثم يقوم بتعطيل قدراتها على العيش باستثناء القدرة على استشعار العذاب المؤبد!
يؤسس إرث عظيموف، الذي تجلّى بقوة في النسخة المبدعة التي اقتبستها «أبل تي في +» من رواياته، لخطّ واسع في الأدب المناهض للديكتاتوريات الإمبراطورية، يمكن أن نعتبر رواية 1984 لجورج أورويل (1949) واحدة من علاماته الأساسية، فيما تمثّل رواية الخيال العلمي «كثبان رملية» Dune لفرانك هربرت، التي أنتج عنها فيلمان مؤخرا (بعد أعمال سابقة عديدة) إحدى أمثلتها المهمة، لما تعطيه من انطباع بانطباقها على أحداث عاشها العراق والمنطقة العربية.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية