الفنان

حجم الخط
0

الفنان

محمود قتايةالفنانورد عليه.. فل عليه.. يا محيرني بسحر عينيه.. صلي عالنبي.. صلي عالنبي.. حصوة في عينك ياللي.. ما تصلي عالنبي!كانت هذه هي بعض الكلمات، التي كان يبدأ بها الفنان الشعبي محمود شكوكو غناءه في الحفلات!وهكذا سمعته أنا ورفقاء الصبا في الخمسينيات من قرننا الفائت يرددها، مقلدا شكوكو..كان مسرحه شوارع بلدتنا الصغيرة التي تعيش في حضن النيل المتجه إلي رشيد.. ينساب صوته ذو الرنين الخاص والطعم المميز، الذي كلما استعدته أكاد أشم في اشتهاء رائحة الفول المدمس والطعمية والليمون المخلل، شاي مقهي محروس الممزوج بالنعناع في ليالي الشتاء..ذلك الفتي ذو الوجه الأسمر في لون طمي النيل، ذو العينيين الحانيتين، الشعر الخشن والجلباب البلدي الأبيض.. المكوي دائما! النظيف دائما!كان هو محمود شعيب، أكبر أبناء عم متولي شعيب، صاحب الفرقة النحاسية للموسيقي التي كانت تعرفها بلدتنا، تحيي مناسباتنا الوطنية وحفلات الزفاف، تتقدم مهرجان الحرفيين عند مطلع شهر رمضان الفضيل.في الخمسينيات لم يكن التليفزيون قد ظهر في بلادنا، كان الراديو هو آخر ما وصلنا من مخترعات العصر، كان وجوده ببلدتنا محدودا.. لا نسمعه إلا من مقهي المعلم سيد عثمان الذي يرتاده كبار التجار، أو من نادي المركز بالقائم بجانب سراي الري علي شاطئ النيل.وفي مقهي عثمان ونادي المركز كان ثمن المشروب قرشين.. أي ما يماثل ثمن أربع مشاريب في المقاهي الأخري، وهو ما كنا لا نستطيع تحمله بمصروفنا المتواضع الذي نحصل عليه من أهلنا الفقراء..!محمود شعيب حل لنا المشكلة، بدلا من أن نذهب إلي النادي أو مقهي عثمان جاء هو إلينا.. جاء إلي مقاهينا الفقيرة المتواضعة، حيث نشرب واحد شاي أو واحد قهوة أو سحلب أو جنزبيل، المشروب بخمسة مليمات، جاء إلينا محمود شعيب يغني لنا بديلا عن الراديو غناءه الحي.. وصحيح لم يكن يأتي كل يوم فقد كان يتغيب عنا ليعمل بروفات أعماله حتي يتقنها، يرضي عنها قبل أن يقدمها.. إلا أنه كان يفاجئنا بالحضور وقد بلغ بنا الشوق إليه أشده يأتي ومعه دائما شيء جديد.. مرة أغنية لم نسمعها من قبل، مرة قصيدة زجل كتبها، ومرة رقصة أو أكروبات أعدها يؤديها أمامنا ببراعة ومهارة فائقة.محمود شعيب يفعل هذا كله بعشق لا حدود له، أمتعنا بترديده أشعار بيرم التونسي وأبو بثينة.. وبين الحين والحين. بأدائه لأزجال من تأليفه، يقدمها بتواضع شديد، يسألنا إذا ما كانت قد أعجبتنا أم لا؟ ويصبح في أوج سعادته حين يدرك من نظرتنا، من تصفيقنا، من انفعالنا بما يقوله أو يغنيه أنه نجح. وأنه استطاع أن يمتعنا، يوصل إلينا رسالة تؤرقه، أو فكاهة تغسلنا، تنفض عنا الهموم!حينئذ كنا نسمعه يدندن بكلمات صلاح جاهين:يا مضروبين بالفن ياحنايا سهرانين منه اللياليمانسلاهوش ولو اندبحناده الفن عند صاحبه غالييا بوي..وتمضي الأيام ونكبر، نقترب أكثر من محمود شعيب ونحن في بداية الشباب، نصادقه ويصادقنا ونحن في نهاية دراستنا الثانوية.. وكان يسعد بنا كثيرا ويمسك بنا كأن صداقتنا شهادة بأصالة فنه.. وأخذ يتبادل معنا كتب الشعر، الزجل، الأدب.. ويتصفح معنا المجلات الثقافية والفنية، ازدان محل أبيه بصور سيد درويش، أبو بثينة ومحمد عبد الوهاب وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وآخرين من أهل الفن والأدب..وتمضي الأيام، نتقدم نحو الدراسة الجامعية، فنغادر بلدتنا الصغيرة إلي الإسكندرية.. منا من اتجه إلي الهندسة، منا من مضي نحو الدراسة الزراعية، أو الطب أو الصيدلة، لكني كنت ضمن من اتجهوا إلي دراسة الآداب.. فتعمقت صداقتي بمحمود شعيب!كان الزمن يتقدم نحونا جميعا، لكن نحوه بالذات بدا كأنه يتقدم أكثر، يرسم خطوط السنين علي جبهته.. وتناثر في شعره غبار طباشير الأيام! ومع ذلك وربما بسببه ازداد فنه خصوبة وحلاوة..وبدأ يلحن لنفسه بعض الأغاني والأشعار، يؤديها في المناسبات الوطنية أو أعياد ميلاد الأصدقاء أو في حفلات الزفاف.. وأخذت أصابعه تداعب عودا قديما كان يقتنيه ولا يظهره لنا، فأفصح عن براعته في اللعب بأوتاره بعد أن ودع أكروباته القديم، التي كان يؤديها أمام المقاهي في ليالي شبابه وصبانا!واتجه بعد ذلك إلي إحياء حفلات تقام في الساحة الشعبية، يؤدي بعض الأغاني من تأليفه وتلحينه، أو لكبار المطربين كعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ومحمد قنديل.. وكان أداؤه رائعا لأغنية محمد قنديل بين شطين ومية عشقتكم عنيه.. يا غاليين عليه، يا أهل اسكندرية .سمعتها آخر مرة منه وكنت في زيارة لبلدتنا.. أحسست به وهو ينظر إلي ويغني من قلبه كأنه يعبر لي عن امتنانه لقدومي من الإسكندرية، حرصي علي سماع أغانيه.. ووجدته وهو يتجلي أمامي في روعة أدائه، يعود بي إلي مسرحه في الأرض البراح أمام مقهي محروس، أنا أسمعه يشدو بلا مكبر للصوت، في عذوبة نادرة!في هذا اليوم الذي لن أنساه.. بعد أن انتهي من الغناء.. عانقته.. دمعت عيناه.. جلس بجانبي كان بيده كتاب رباعيات صلاح جاهين.. سألته:ـ ألم تقرأ رباعيات جاهين بعد؟ـ بالطبع قرأتها مرات. لكن دائما أحمل شعر صلاح معي، صحبته تؤنسني!ـ ألا يؤنسك الآخرون؟ـ بالطبع يستحوذ علي قلبي شعر فؤاد حداد، سيد حجاب، أحمد فؤاد نجم وهذا الفتي القادم من الأرض الدافئة في الصعيد.. عبد الرحمن الأبنودي، لكني بعد أن أشبع منهم، أرتاح علي صدر جاهين.. أتسمع وجيب قلبه، أرتمي في أحضانه.. فيغمرني حنان الوطن وأنا أقرأ شعره!قلت: عظيم و… قاطعني متلعثما:ـ أحلم بأن أغني في الإذاعة، أن أطل علي الناس في التليفزيون.. ربما كان ما لدي فيه شيء من الفن أعطيه لهم! وكما يقول صلاح جاهين وكأنه يقصدني ويشجعني:يا عندليب ماتخفش من غنوتكقول شكوتك واحكي علي بلوتكالغنوة مش ح تموتك إنماكتم الغنا هعو اللي ح يموتكعجبي!سكت.. وأطل الأسي من عينيه.. احترمت سكوته، غير أنه فاجأني بسؤاله:ـ سمعت أنك تعمل الآن في الصحافة.. ألن تكتب عني..؟قلت: نعم، بالطبع سأكتب عنك يا عم محمود.فاضت عيناه بالدمع وشد علي وهو يعانقني وهمس:ـ هل تعلم أني تعلمت كتابة النوتة الموسيقية!؟ـ عظيم يا عم محمود.. أنت فنان رائع.. سأكتب عن ذلك أيضا!ـ نظر إلي طويلا.. بدا أمامي كأنه يحلم.. ردد كلمات صلاح جاهين:خلي المكنجي يرجع المشهدعايز أشوف نفسي زمان وأنا شبومش عاجبني لا ملك ولا أبعايز أشوف من تاني واتذكرليه ضربة من ضرباتي صابت؟وضربة من ضرباتي خابت؟وضربة وقفت بالشريط في وضع ثابت؟مرت أيام.. شهور.. عامان.. بين الحين والحين، يمر طيفه بخاطري معاتبا.. يسألني:لماذا لم تنفذ وعدك وتكتب عني؟وأرد علي طيفه.. عفوا.. اعــذرني يا عم محمود، مصيبتـــــنا في هذا الزمان.. الكسل والنســــــيان! أنا مخطئ وأنت كــــــبير.. أكبر من قلمي. أنت أكبر من مقال وكتـاب، ومع ذلك أعدك أنني سأكتب واكتب!وفي يوم من الأيام.. جاء أخي إلي مكتبي بالصحيفة، قادما من البلدة، أخبرني عن أحوالها ثم وجدته يتوقف فجأة عن الحديث، أطل من عينيه حزن كبير فسألته:ماذا وراءك؟قال أخي: لم أكن أريد أن أقول..!لقد مات عم محمود شعيب، كان قد جاء إلي مقهي محروس يحمل عوده، جلس في مقعده المعتاد، أحضر له عامل المقهي كوب الينسون، علي حين كانت أصابعه تداعب أوتار العود، غير أن بعض رواد المقهي من الشباب طلبوا من العامل أن يفتح التليفزيون.. تباطأ العامل في تلبية رغبتهم وهو ينظر إلي عم محمود.. فما كان من أحدهم إلا أن قام وفتح التليفزيون..كان عم محمود يرقب ما يحدث صامتا، فظهر بالتليفزيون صورة مطرب شاب، تتدلي من صدره العاري الحلي والسلاسل، علي جبهته ينسدل شعره الغزير.. وحين بدأنا نستمع إليه يغني بكلمات ركيكة بصوت ضائع في ضجيج الموسيقي الصاخبة التي تصاحبه، حوله فتيات يرقصن في مجون وابتذال، قام عم محمود غاضبا يصرخ: لا.. هذا كلام فارغ.. هذا ليس فنا! هذا عبث ونشاز .وسقط العود من يده.. ومات!قاص من مصر0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية