الفناء في الرؤية عن إبن عربي

حجم الخط
0

الفناء في الرؤية عن إبن عربي

محمد المصباحيالفناء في الرؤية عن إبن عربي ( في ذكـري الفقيد الصديق أحمد الإدريسي، الذي فضل في حــياته أن يفني في عشق اللعب بالكلمات).في سياق ذكره لأنواع الفناء، وبالضبط للنوع الرابع منه، وهو الفناء عن الذات، يروي لنا ابن عربي عن أحد علماء فاس، عبد العزيز بن زيدان، تجربة فريدة في الفناء. وقد كان هذا العالِم النحوي ممن يرتادون مجلس الشيخ الأكبر، دون أن يكون من أهل الطريقة ولا ممن يؤمن بالفناء أو يفهم معناه. لكنه فجأة عاش تجربة الفناء بالصدفة، دون سعي منه ولا رغبة لديه أو سابق إعداد منه. ولذلك نسمح لأنفسنا بأن نسمي هذا النوع من الفناء بالفناء الوضعي أو الدنيوي. ومما يوطد قناعتنا في الطبيعة الدنيوية لهذا الفناء أن موضوع مشاهدته كان دنيويا، أو بعبارة محيي الدين كان مشهوده كونا من الأكوان ، وليس حضرة من الحضرات الإلهية. كان هذا الفناء فناء مزدوجاً، عن الذات وعن العالَم، وفي حضرة مَدَنية، حضرة أمير للمؤمنين في موكب مهيب وهو عائد منتصرا من معركة الأرك التي خاضها في الأندلس. لننصت إلي شيخنا وهو يروي لنا حكاية هذا الفناء الوضعي: أخبرني الأستاذ النحوي، عبد العزيز بن زيدان، بمدينة فاس، وكان يُنكِر حال الفناء، وكان يختلف إلينا، وكانت فيه إنابة، فلما كان ذات يوم دخل عليّ وهو فارح مسرور، فقال لي: ياسيدي الفناء الذي تذكره الصوفية صحيح عندي بالذوق، قد شاهدته اليوم. قلت له كيف؟ قال ألستَ تعلم أن أمير المؤمنين دخل اليوم من الأندلس إلي هذه المدينة؟ قلت له بلي. قال اعلم أني خرجت أتفرج مع أهل فاس، فأقبَلتْ العساكر، فلما وصل أمير المؤمنين ونظرت إليه فنيت عن نفسي وعن العسكر وعن جميع ما يحسه الإنسان، وما سمعت دويّ الكوسات ولا صوت طبل مع كثرة ذلك، ولا البوقات ولا ضجيج الناس ولا رأيت ببصري أحداً من العالم جملة واحدة سوي شخص أمير المؤمنين. ثم إنه ما أزاحني أحد عن مكاني، وَوَقَفت في طريق الخيل وازدحام الناس، وما رأيت نفسي ولا علمت أني ناظر إليه، بل فنيت عن ذاتي وعن الحاضرين كلهم بشهودي فيه. ولما انحجب عني ورجعت إلي نفسي أخذتني الخيل وازدحام الناس، فأزالوني عن موضعي وما تخلصت من الضيق إلا بشدة، وأَدرَك سمعي الضجيج وأصوات الكوسات والبوقات، فتحققت أن الفناء حق، وأنه حال يعصم ذات الفاني من أن يؤثر فيه ما فني عنه. هذا يا أخي فناء في مخلوق، فما ظنك بالفناء في الخالق، فإن شاهدت في هذا الفناء تنوع ذاتك اللطيفة، ولم تشاهد معها سواها، ففناؤك عنك بك لا بسواك، فأنت فان عن ذاتك، ولست فانيا عن ذاتك، فإنك لك بك مشهود من حيث لطيفتك، وإنك لك بك مفقود من حيث هيكلك؛ فإن شاهدت مُركّبك في حال هذا الفناء فشهودك خيال ومثال، وما هو عينك ولا غيرك، بل حالك في هذا الفناء حال النائم صاحب الرؤيا (ابن عربي، الفتوحات المكية، 2: 514). كانت هذه التجربة الفنائية ـ الشهودية لأحد نُحَاة فاس، إذن، مناسبة لابن عربي لأن يقدم لنا تعريفا طريفا للفناء بعامة، ولهذا النوع النادر بخاصة، وهو الذي سميناه بالفناء الوضعي الذي يكون مشهوده أمراً كونيا لا روحيا. ونحن نعتقد أن الفناء الوضعي، لا العرفاني، يكابده كل من يحترف صناعة الشعر والفن والكتابة عموما، فبدون الفناء عن الذات وعن العالَم لا يمكن للإبداع أن يطاوع من يرغب في امتطائه؛ فبدون الفناء لا يمكن العطاء. وهذه الحكاية لا تخلو من غرابة، وهي أنها الرؤيا الوحيدة من بين الرؤي التي رويناها عن ابن عربي التي تفتقد إلي سنة وقوعها، بالرغم من أنها من بين الوقائع النادرة التي تتمتع بالواقعية التاريخية، وكأنها بسبب هذه الحيثية لا تحتاج إلي تدقيق تاريخي، في حين نجده حريصا علي تقييد سنوات الوقائع والرؤي اللازمنية. نعم، إننا سنجده يدقق زمن انتصار يعقوب المنصور الموحدي في رؤيا أخري، لكن التاريخ الذي يورده كان هو تاريخ الرؤيا لا تاريخ مروره بفاس بعد انتصاره في الأندلس، وهو 591 هـ. ويظهر من الروايتين المتقاطعتين لهذه التجربة ـ رواية النحوي صاحب التجربة، ورواية أو بالأحري تعقيب ابن عربي عليها ـ أن الفناء هو أولا علاقة إدراكية وجدانية وليست علاقة وجودية بين ذات بموضوع، علاقة بموجبها يكون علي الذات أن تنمحي في صلب الموضوع وتذوب فيه، بما فيها إدراكها لذاتها ولموضوعها ؛ فالعلاقة الإدراكية لا تعني أن المدرِك مدرِكٌ أنه يدرك المدرَك، لأنه حتي وعيه بإدراكه ينطمس في مدرَكه. وبهذه الجهة يمثل الفناء لحظة تحرر وعصمة للفاني من ذاته ومن كل الذوات الأخري وما يصدر عنها من أفعال وانفعالات، معطِّلا بذلك تأثير الطبيعة والتقنية والإنسان، هذا علاوة علي الحواس، إلا من مشاهدة المشهود، وكأن الأمر يتعلق بخضوع هذه التجربة لقانون جديد للجاذبية الروحية حل محل قانون الجاذبية الطبيعية. لقد أبدي ابن عربي مكرا عظيما عندما أورد تعريفاً دقيقا للفناء علي لسان رجل ليس من أهل الصناعة، صناعة التفكيك والمحق (التصوف)، وإنما من أهل صناعة النحو والتركيب. هل من حقنا أن نتوهم أن الأمر هو مجرد اختلاق خيالي بلاغي لرمز يزكي به قوة التشويق في حكايته، أي أنه اختار النحوي عنوة (وليس المنطقي مثلا الذي يبدو أضعف الخلق أمام مقتضي الفناء بسبب صورية موضوع نظره، ولعل هذا هو سبب انقلاب معظم المناطقة إلي متصوفة) راويا لتجربة الفناء لأنه أبعد الناس عن التصوف وأكثرهم يقظة وحضورا أمام مجري الكلام، نظير مجري الوجود، من أجل أن يبين أنه بالرغم من رباطة جأش النحوي غَدَره الفناء علي حين غرّة مختطفا إياه من يقظته، وملغيا المسافة المكانية والزمانية بينه وبين مشهوده الملك ، فصار وإياه واحدا علي مستوي الشعور، أي في حِلٍّ من كل المقولات الوجودية إلا من مقولة المُلك . وكان تعريف الفناء علي لسان حال النحوي هو الفناء عن قبول تأثير العالَم المحيط بك لحظة فنائك عن نفسك بنفسك، إنه فناء إدراكي وطبيعي في نفس الوقت، فناء عن إدراك غير الذات في توحدها بموضوع فنائها، وفناء عن تأثير الأفعال والانفعالات علي الذات. هذه العصمة من تأثير الغير فيك وتأثيرك فيه عن طريق عودتك إلي ذاتك هي التي تُسَمّي بالذوق، وكأن هذه الأخيرة يشترط تجريد الذات من مقولاتها الوجودية لكي تكون قادرة لقبول المقولات الوجدانية. وبخلاف النحوي البغدادي، أبو سعيد السيرافي، الذي صمد في وجه ممثل أهل النظر المنطقي، بشر بن متّي، نلاحظ أن نحوي فاس، عبد العزيز بن زيدان، ينوب ويتوب عن إنكاره الفناء. ولعل الرغبة في قياس الفرق بين الفناء في المخلوق و الفناء في الخالق هي الغاية من إيراد للشيخ الأكبر لهذه الحكاية. حقاً، إن الفناء في المخلوق، والذي قد يتمثل في شخص ملك، أو في شخص امرأة، أو عقيدة، أو حزب، أو مظاهرة، أو لوحة، أو حتي في دور مسرحي1. وإن كان فناء دنيويا وضعيا، فهو في عمقه تجربة صوفية، بكل مواصفات الفناء في الخالق . غير أن دفين دمشق يأبي أن يقايس الفناء في المخلوق بالفناء في الخالق، لأن جدلية الشهود والفقدان، جدلية العينية والغيرية، ما زالت حاضرة في الفناء الوضعي ـ الكوني، أي ما زال يحمل علامات التضاد والتركيب، وهو ما يميز رؤي كائنات الأحلام والرؤي. هكذا تكون تجربة الفناء الوضعي جارية فقط في عالم الخيال والمثال، وهو عالم شبيه بالحلم الذي يسمح بأن تكون الذات عينها وغيرها في نفس الوقت، أو بأن لا تكون لا غيرها ولا عينها. إن تنوع لطيفة الذات في هذا الفناء لم يقض علي التقابل، وكأن هذا الأخير علة التحرك نحو الفناء، فتغدو المشاهدة فناءً عن المشاهدة، والفناء مشاهدة للفناء، فيلتذّ الواصل الفاني أيما التذاذ برؤية فنائه في الآخَر وتفانيه فيه، يلتذ بمشاهدة تلاشي الرائي، الذي هو، في المرئي غير القابل للرؤية، بل بتحول الرائي مرئياً والذات موضوعا، وهنا يغيب الشاهد والمشاهدة وموضوع الشهادة، فيغدو الكل غيبا في غيب. ولذلك لا يمكن أن يجري هذا الشهود المزدوج والمتناقض الأطراف إلا في الخيال، لأنه وحده القادر علي توقيف قوانين العقل والطبيعة، وإطلاق العنان للشطحات المتناقضة، من أجل أن تصبح الذات حالا برزخيا جامعا للأطراف. فهل فعلا درجة غرابة الفناء في الخالق أقوي من غرابة الفناء في المخلوق في تجربة تقول بأحادية الذات؟ لا أدري.1. هنا أتذكر ما رواه لي أحد المسرحيين المتوحدين (الزروالي) عن تجربته، بعد خروجه توّا من تأدية دوره الانفرادي عن ابن عربي، وهو في حال من الانفعال والهيجان، حتي ظننت أن الأفكل أخذه. سألني متوجسا مستعطفا هل استطاع حقّا أن يكون في مستوي الدور الذي لعبه في شخص الشيخ الأكبر أمام الحضرة الإلهية. كان مصدر قلقه قناعته بأنه لم يؤد دورا أصعب في حياته من هذا الدور. فضرب لي مثالا من أجل الوقوف علي مقدار صعوبة موقفه قائلا بأن الإرهاب النفسي الذي يعاني منه الفرد أثناء وقوفه أمام قائد القرية، أو أمام كوميسير المدينة أو أمام حضرة ملك البلاد، والتي قد تعقد لسان المتكلم عن الكلام وتعطل قواه البيولوجية، لا يقاس بالنسبة لِمَن يقف أمام الحضرة الإلهية. في البداية استنكرت هذه المقارنة، لأن القائد والكوميسير من لحم ودم، ولأن الملك له من الهالة والبأس والسلطان ما يجعلك ترتعد في حضرته، بينما كائنات الزروالي المسرحية لا تعدو أن تكون تمثيلات ومحاكيات خيالية. لكنني ما لبثت أن تبت وتراجعت، فواقعية الكائنات الخيالية بالنسبة للمسرحيين وللأطفال، وبالنسبة لنا جميعا عندما نكون أطفالا، أي محبين للحياة والفن، أكثر واقعية من واقعية الواقع. لكن ما زال في نفس شيء من الغرابة من موقفه، لأنه فَنَي عن نفسه وعن المسرح الذي يمثل فيه دون أن يدري، فهل من شرط الفناء عدم الدراية!ہ كاتب من المغرب0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية