الفئات الحاكمة وحركات المقاومة: بين توازن القوي وتـوازن الإرادات
د. عصام نعمانالفئات الحاكمة وحركات المقاومة: بين توازن القوي وتـوازن الإراداتعوامل متعددة أسهمت علي مرّ التاريخ في نشوء الدول وتطورها وبناء العلاقات في ما بينها. لعل ابرز هذه العوامل توازن القوي دائما وتوازن الإرادات أحياناً.المقصود بتوازن القوي نزوع كل قوة (دولة) إلي التفوق علي منافسيها ببناء نسبة اكبر من القدرات، وببناء تحالفات بين قوي متجانسة في المصالح والتطلعات للتعادل مع قوة أو تحالف قوي منافسة أو للتفوق عليها.المقصود بتوازن الإرادات نزوع قائد أو مجموعة من القادة داخل قوة (دولة أو حركة ثورية) إلي تعويض النقص في القدرات المادية بالإصرار علي إطالة أمد الصراع وتوظيف اكبر مقادير ممكنة من الإمكانات البشرية والمعنوية لإرهاق قوة منافسة علي مدي زمني طويل نسبيا من أجل كسر إرادة قائدها أو قادتها والتغلّب عليها أو إكراهها علي التراجع.ثمة حضور لعنصر الإرادة والمعنويات في توازن القوي، وحضور لعنصر القدرات المادية في توازن الإرادات. إلا أن السمة البارزة في كلٍ منهما هو غلبة القدرات المادية علي بقية العناصر في توازن القوي، وغلبة قوة الإرادات والمعنويات علي بقية العناصر في توازن الإرادات.لعل أبرز مثال علي توازن القوي وتوازن الإرادات حرب فيتنام في منتصف القرن الماضي. فقد دارت الحرب بين قوة عظيمة القدرة المادية والعسكرية هي الولايات المتحدة وقوة صلبة الإرادة وغزيرة المعنويات هي ثوار الفياتكونغ. ومع ذلك تمكّن الثوار، من خلال التصميم الصارم علي القتال والتعبئة المعنوية العالية وإستخراج نتائج سياسية من الصـراع (إندلاع جدل حار داخل المجتمع الأمريكي حول جدوي الحرب) من كسر إرادة العدو وحمله علي التراجع والإنسحاب.ما قامت وتقوم به منظمات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق يحاكي ما قام به ثوار فيتنام، غير انه لا يصل علي صعيد النتائج السياسية إلي ما توصل إليه أولئك الثوار قبل نصف قرن.ثمة أسباب عدّة لهذا التفاوت في الإنجاز مردّها إلي عوامل موضوعية وأخري ذاتية. علي الصعيد الموضوعي، نقع علي توافر مواقع وموارد ومصالح إستراتيجية ضخمة وكثيفة للدول الكبري في المنطقة العربية، إستوجبت حضوراً عسكريا وسياسياً دائماً وبالتالي إستنزافاً متواصلاً للقدرات السياسية والإقتصادية لبلدان المنطقة وشعوبها. وعلي الصعيد الذاتي، نقع علي توافر إنحطاط وإحباط وقصور مزمن في الذات العربية أبطأت إنبعاث قوي التمرد والتقدم والنهضة، فضلاً عن إتصاف هذه القوي عموماً بقلة الصبر والنفس القصير والخلافات المتناسلة.لهذه الأسباب ولغيرها جاء التغيّر وأحياناً التطور في منطقتنا نتيجةَ التبدل في توازن القوي بين الدول المتنافسة والمتنازعة والمتصارعة علي مواقعنا الإستراتيجية (المضائق) وعلي مواردنا الطبيعية (النفط والغاز) وعلي أسواقنا المتوسعة، أكثر مما كان نتيجة إسهامنا الذاتي في عملية النهوض والتطور والتقدم الحضاري. أكثر من ذلك : بلغ إرتهاننا لتوازن القوي الخارجية ومحدودية إعتمادنا تفعيل الإرادات وتوازنها إننا ما زلنا نعاني تداعيات سقوط السلطنة العثمانية منذ 1918، وتقاسم ميراثها بين الدول الكبري، ونزوع هذه الدول في الوقت الحاضر إلي تجاوز واقع التجزئة الناجم عن إتفاقية سايكس – بيكو إلي محاولة تفكيك الدول الناتجة منه إلي كيانات صغري، إستنسابية أو طائفية أو قبلية أو إثنية. أليس هذا ما يحدث اليوم في فلسطين والعراق ولبنان؟لا نقع عندنا في مواجهة هذا الخطر التفتيتي الزاحف علي ردة فعلٍ صحية وإستنهاضية وتعبوية نوعية. فحركات المقاومة القومية محدودة الفعالية، وحركات المقاومة الإسلامية أكثر فعالية، لكنها تعاني من منافسة الحركات المتطرفة وعنفها الأعمي من جهة وإضطرارها إلي الإنشغال بقضايا الحكم والتعاطي السياسي مع الدول الغازية من جهة أخري. علي ان المشكلة الأخطر تتجسد في الفئات الحاكمة بوجوه ثلاثة. الأول، قصورها في وعي التحديات المستجدة رغم جنوح الولايات المتحدة إلي نقد أدائها وحتي الإنفتاح علي معارضيها في سياق تشجيع قوي سياسية أقل محافظةً والتعاون معها. الثاني، وهو نتيجة الوجه الأول، مثابرة الفئات الحاكمة علي إعتبـار المعارضة في الداخل تهديدا ونقيضا لها أكثر عداوةً من أمريكا وأوروبا وبالتالي الإستمـرار في محاربة المعارضة وقمعها. الثالث، وهو نتيجة الوجهين الأول والثاني، إخفاق الفئات الحاكمة في الدول المنتجة للنفط في إدراك معاني القوة والإقتدار الناتجة عن ازدياد عائداتها المالية بعد الإرتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز، وإمتناعها تاليا عن توظيف هذه القدرات المالية في مشروعات إقتصادية وسياسية علي الصعيدين العربي والإسلامي من اجل الإسهام في مواجهة الهجمة الأمريكية الصهيونية أو لدعم، علي الأقل، حركات المقاومة الميدانية والمدنيــة (السياسية) لقوي الغزو الخارجي المتواصل.إن قصور الفئات الحاكمة علي النحو المتقدم ذكره يطرح إشكالية تنطوي علي مفارقة مضحكة مبكية. ذلك ان إمتناع هذه الفئات عن التطور والتطوير الذاتي مع غياب ضغط فاعل عليها داخل أقطارها من طرف القوي الوطنية والإسلامية الديمقراطية قد يؤدي إلي تشجيع الولايات المتحدة علي دعم بعض قوي المعارضة المعتدلة أو الإسلامية والتعاون معها كبديل من الفئات الحاكمة والمعارضة الديمقراطية الإصلاحية أو علي حسابها. أليست مفارقة مضحكة مبكية إحتمال إضطرار قوي المعارضة الديمقراطية، إزاء إمتناع الفئات الحاكمة عن الإنفتاح عليها أو إزاء إمتناعها عن التطور والتطوير، إلي الرهان علي الولايات المتحدة كقوة ضغط علي الفئات الحاكمة من اجل الإنفتاح علي قوي التغيير والإصلاح ؟ أليس مضحكا مبكيا أن تصبح الولايات المتحدة خصماً وحكماً في آن ؟!إن إستمرار الفئات الحاكمة في نهجها التقليدي الركودي الراهن وخوفها المقيم من الولايات المتحدة من جهة، وإمتناع حركات المقاومة والقوي الديمقراطية الإصلاحية عن الضغط عليها لتعديل سلوكيتها من جهة أخري يشكّل وبالا وقيداً علي الأمة في حاضرها ومستقبلها ولا يجوز السكوت عنه. من هنا تنبع الحاجة الملحة إلي ضرورة حمل الطرفين، الحاكمين والمعارضين، علي تغيير موقفهما بإتجاه إعتماد نهج مغاير وموقف فاعل حيال الولايات المتحدة وبقية الدول الكبري يخدم مصالح الأمة وتطلعات شعوبها في شتي أقطارها، لاسيما حيال التحديات والأخطار حيث هي علي أشدها، أي في فلسطين والعراق ولبنان وسورية.في مجال تلبية هذه الحاجة الملحة، ثمة نهج داخلي ممكن إعتماده وموقف خارجي ممكن إتخاذه. أما النهج فهو العمل المباشر للضغط علي الفئات الحاكمة بكل الوسائل المشروعة وحسبما تسمح به أو تتيحه ظروف الأقطار المعنية. أما الموقف فهو عدم الإنزلاق إلي معارضة إمتلاك إيران قدرات نووية تمكّنها من التحول قوةً إقليمية مركزية، بل النظر إلي هذه القضية من منظور إستراتيجي إسلامي كون هذه القوة البازغة ستكون بالضرورة رافداً للأمة ومصالحها وتطلعاتها في وجه قوي الهيمنة الدولية. ألم يعترف جورج بوش في خطبة حال الاتحاد أمام الكونغرس الأمريكي أواخر كانون الثاني (يناير) الماضي ان الولايات المتحدة هي في حالة حرب مع الإسلام الراديكالي ؟ وما الإسلام الراديكالي؟ أليس هو، في نهاية المطاف، المصطلح السياسي الذي تستخدمه إدارة بوش لتوصيف المنطقة العربية بدولها وشعوبها؟بإعتماد هذا النهج وإتخاذ هذا الموقف، تُسهم القوي الحية في الأمة، حاكمين ومعارضين ومقاومين، في تكوين توازنٍ جديدٍ للإرادات وتغليبه علي التوازن الراهن للقوي.9