العنصرية الفئوية آخر مبتكرات الأمركة المهزومة

حجم الخط
0

العنصرية الفئوية آخر مبتكرات الأمركة المهزومة

مطاع صفديالعنصرية الفئوية آخر مبتكرات الأمركة المهزومةلا يبدو أن الرئيس الأمريكي بوش و(عصابة) مستشاريه من اليمين المتصهين، سوف يغير ويغيرون شيئاً ما من مخططهم الخاص بالشرق الأوسط الكبير . ليس هناك أية اعتبارات لمجمل الانتكاسات التي مُنيت بها وسائلهم والممارسات العسكرية والاستخبارية، واقنعتها الدبلوماسية المفضوحة للقاصي والداني، وفي هذه المدة المتبقية لرئاسة بوش، لم يعد ثمة امكانية واضحة للتدخل الحاسم في حركة الأحداث العالمية الخارجة عن أية رقابة، حتي من قبل الدول الكبري، وأمريكا زعيمتها بالذات. لكن كل الجهد المتبقي لإدارة واشنطن يتمسك بالرهان علي امكانية السيطرة الاستراتيجية الشاملة علي العالم العربي ومحيطه الاسلامي. ويعتبر هذه السيطرة جائزة حُكْمه الأهوج يقدمها لمؤسسة السلطة في بلاده، تعويضاً عن كل الخيبات الأخري التي ارتكبتها إدارته لشؤون العالم، والفضائح القانونية والأخلاقية التي تكشف الغطاء عنها صحافة أمريكا نفسها وقبل غيرها، ثم تغدو أشبه بالقصص الخرافية، وترددها وسائل الإعلام في كل مكان. لكن الديمقراطية الاعلامية النسبية لا تكاد تجد لها معادلاً في الشأن السياسي الرسمي للدولة. فاختراقات القوانين، وفضائح التجسس وجرائم الفساد علي أعلي المستويات التي تتابع أخبارها بإيقاع زمني متصاعد، وهي في مجملها تتعلق بطريقة الحكم داخلياً، إلا أنها تنجو دائماً من المحاسبة القضائية، حتي لو عُرض بعضها علي المحاكم.أما في مجال السياسة الخارجية التي شكلت عماد العهد البوشي، فليس من عادة الرأي العام الأمريكي الاهتمام بشؤونها وشجونها، لولا أن هذه السياسة قد (تعسكرت) كلياً في النظرية والتطبيق، وحلت وزارة الدفاع في رسمها وقيادتها مكان وزارة الخارجية. واقتصر عمل هذه الأخيرة علي تبرير خيارات الحروب، وتسويق ونشر مراكز النفوذ العسكري في الخارطة الاستراتيجية للمعمورة كلها. فهل أضحت هذه السياسة موضع اثارة ومراجعة علي الأقل من قبل النخبة الحاكمة سواء لدي البعض في جناحها الموالي للعهد البوشي، أو في جناحها المعارض له. بمعني أن مؤسسة السلطة نفسها ربما تتخلي عن ثقافة الامبراطورية واجتياحها الكوني، أو أنها تتنصل من منهج معين لتطبيقها، لم يجلب سوي الهزائم والخسائر من كل نوع، والبحث عن مناهج أخري، دون التنازل كلياً أو جزئياً عن تلك الثقافة الأسطورية الحاكمة بأمركة القرن الواحد والعشرين.هذه الأمثلة عن أسئلة المراجعة المطلوبة في الهزيع الأخير من حكم الزمرة البوشية، لا تفيد فقط في فهم التحولات الأمريكية المتوقعة، بل أنها قد تعطي ثمة تفسيراً استراتيجياً لهذا التشبث العصابي بتجذير النفوذ الامريكي في مفاصل التغيير الشرق أوسطي، والحفاظ مهما كلف الأمر، علي الإمساك بالدور الرئيسي في تحديد مصائر التغيرات المرتقبة، والمزدحمة علي أبواب المستقبل القريب لمختلف أقطار المنطقة. ذلك أن هذه المصائر أمست خطوطها الكبري مرتسمة علي ملامح اللحظات الراهنة من حتمية التغيير المسيطرة في أهم الساحات المتحركة من جغرافية المشرق العربي خاصة. وكانت عقدة الفشل العسكري السياسي في العراق، قد استحوذت علي إرادة المخطّط الأمريكي، فجعلته ينقل مركز المبادرة والتفعيل المباشر من بغداد إلي بلاد الشام، وبدءاً من عاصمتها الساحلية بيروت كمدخل متميز تاريخياً جغرافياً نحو بر الشام وعاصمته دمشق. كأنما لم يعد يمكن التحكم في مستقبل السيطرة علي المغامرة العسكرية الهوجاء في العراق، إلا في اصطناع أشباه لهذه السيطرة علي هاتين العاصمتين. وان لم تكن عسكرية، وبواسطة جيوش احتلال، ولكن باتِّباع أساليب حروب (سلمية) محلية متنوعة، وذات أسلحة دعاوية وسياسوية، تستخدم أصولاً شتي من العنف الأهلي والاثني والجهوي. لقد احتمي التدخل الامريكي السائد في لبنان بحادثة اغتيال الحريري، وانفجار موجة عارمة وغير محسوبة من الغضب الشعبي الذي سرعان ما تلقفته قوي سياسية مختلفة، وحتي متعارضة في دوافعها وأهدافها، وساهمت جميعها في تعبئة تظاهرة شبابية متواصلة ليلاً نهاراً في ساحات بيروت، وشاركت فيها لأول مرة فصائل من معظم الطوائف المسيحية والاسلامية السنية خاصة. وجري هذا التجييش الهائل بشعارات تصب جميعها حول استعادة استقلال لبنان، وطرد الوصاية السورية المتهمة بهيمنة الفساد والقمع، وتحميلها مسؤولية الجريمة السياسية الكبري في قتل الحريري. وفي غمرة هذه الفوضي العارمة تحققت جملة من الأهداف، شكلت نوعاً جديداً تماماً من الانقلابات غير المسبوقة، حتي في أكثر أقطار المشرق تعرضاً لأمثالها، ولكن تحت التوصيف العسكري والفوقي دائماً.قد لا تكون هذه الأمثولة من الفوضي البناءة مدبرة في فصولها كلها، إلا أن التدخل الأمريكي الذي سرعان ما سفر عن وجهه، استطاع أن يستثمر وقائعها ويوجهها ببراعة استخبارية وتكتيكية ملحة بوسائل الإثارة الجماهيرية وتوظيف التحشيدات الشعبوية في تحقيق العناصر المطلوبة لإنجاز انقلاب سياسوي شامل، كما لو كانت قوي عسكرية ومادية. وبلغ هذا التوظيف مرحلة التغيير السلطوي بفرض انتخابات متعجلة جاءت بأكثرية عددية إلي المجلس النيابي، وهي منتمية إلي خليط الأحزاب والفئات المؤلفة لما سمي بميثاق الرابع عشر من آذار (مارس)؛ وهي التي تضم مختلف الأطياف والشخصيات المشاركة في حكم الدولة طيلة مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، والمتعاونة دائماً مع سلطات الاشراف السورية، هذا بالإضافة إلي بعض ممثلي التيارات المسيحية المبعدة عن السلطة في تلك المرحلة.حدث كل ذلك خلال فترة الربيع ومطلع الصيف من العام الماضي. وخُيِّل للمنتصرين الجدد ـ القدامي في غالبيتهم ـ أنهم لم يكسبوا فقط الجولة الأولي من الانقلاب المشبِّه أحياناً بالمعجزة التاريخية من قبل بعض أبواق الدعاية الاعلامية، بل أنهم أصبحوا سادة الدولة، ومعها مستقبل البلاد كلها، وإلي أبعد مدي، بات رهناً لمخططاتهم؛ واعتقد أولو الأمر بينهم أن جميع (الآخرين) غير المشاركين، وربما المعارضين، قد ألقوا بأسلحتهم، قابلين للاستيعاب والاستتباع. ولم يكتشفوا أن هؤلاء (الآخرين) ربما كانوا يمثلون نصف الشعب أو أكثر بما يتمتعون به من الغالبية العددية، فضلاً عن تغلغلهم في معظم أجهزة الدولة وقطاعها الأمني العسكري.لا شك أن فريق العمل المكلف بالاشراف علي مجري الانقلاب البيروتي، القابع في مكاتب السفارة الأمريكية في (عوكر)، ضاحية بيروت، قد أخذته نشوة النصر السياسي السريع من الضربة الأولي، مثلما انتشي واحتفل رئيسهم الأعلي بوش من علي ظهر بارجة، قبل سنوات قليلة، بالاكتساح العسكري للعراق خلال عشرة أيام فقط. ومن ثم كرَّ مسلسل الهزائم من كل نوع، بعد أشهر قليلة، إلي اللحظة الراهنة، حيثما بات ينشغل قادة البنتاغون بإعداد ما يدعونه استراتيجية الانسحاب، أي القرار المنظم بل الفوضوي بالأحري، علي غرار ذلك التقهقر البائس والمشين لفلول العسكر والدبلوماسيين والعملاء الفزعين، من عاصمة فييتنام، في ذلك المشهد التاريخي الرهيب الذي لن تنساه ذاكرة الحروب العدوانية ونهاياتها الكارثية.ليس من العجيب أن تتكرر فصول تلك الحروب ونهاياتها الكارثية، متنقلة بين أطراف العالم الثالث، شرقه وغربه، ما دام نموذج العدوان المنتج لها، نسخاً عن بعضها، يظل ثابتاً واحداً في كل تمرين له. إنه نموذج التسلط الأحادي، الذي يكرس أعلي أشكال العنصرية، كما بلغت في تطورها أحدث تقنية عصرية لها، متمثلة في تشكيل السياسة الامبراطورية علي نمط الشركات الاحتكارية الكبري عابرة القارات، وكواحدة في عدادها، تقود مثيلاتها وتنقاد بها عبر عواصف العولمة وأوبئتها المهاجمة لمجتمعات المعمورة. تلك هي قمة السيطرة الأحادية وقد تطورت إلي عنصرية مطلقة، تسوِّغ تسلطها بأوقح إيديولوجيا (شيطانية) تطالب بحقوق استثنائية لأصحاب التفوق المتفرد بأسلحة المال والتدمير الشامل. واليوم تخوض الأمركة معركة بقائها في الشرق الأوسط، بنشر أوبئة العنصرية ما بين مكونات مجتمعاته، كلاً علي حدة بحسب معطياته التاريخية والسكانية. بعد أن ترجمت احتلالها العسكري للعراق بإثارة مختلف نعرات الأقوام والأديان والمذاهب بحجة الفيدراليات والديمقراطية التعددية، عازمة علي ألا تترك العراق إلا وقد تفكك كيانه، واستتبت فيه كل أسباب الصراعات الهالكة المهلكة ما بين الهويات المغلقة ضد بعضها باصطناع الفوارق وتضارب المصالح المضخمة. ثم عندما يقع الانقلاب اللبناني تسارع الأمركة إلي اختطاف كل مقدمات الإيجابيات المفترضة، الواعدة بتكافؤ فرص المواطنة المشروعة لكل أطياف المجتمع، وتشجع من جديد منطق الغالبيات والأقليات والمحاصصة في الحقوق السياسية؛ تقسم سيادة الوطن إلي سيادات فئوية متناحرة حتماً فيما بينها. ديمقراطية الأمركة المهاجمة لشعوب الشرق الأوسط الكبير وليس لأنظمته الحاكمة كما تدعي، ليست سوي وباء العنصريات الفئوية المفككة لكل كيان إنساني وحضاري قائم. ذلك هو الدرس العراقي، ثم اللبناني، والسوري والايراني علي الطريق.9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية