العراق: انفجار العنف الأهلي نتاج لنظام طائفي تقسيمي
د. بشير موسي نافعالعراق: انفجار العنف الأهلي نتاج لنظام طائفي تقسيميمدافعون خجلون عن السياسة الأمريكية وجدوا في العنف الذي شهده العراق بعد تفجير مقامي الإمامين العسكريين في سامراء فرصة سانحة للمقارنة بين النوايا الحسنة لإدارة الاحتلال والوحشية المتأصلة في المجتمع العراقي. بعد كل هذا العنف الديني، عنف المقامات والمساجد والأئمة ـ قال هؤلاء ـ هل يصح ان نستمر في القذف بكل عقدنا وأمراضنا إلي العتبة الأمريكية. هناك بالفعل محتلون، ولكن هل كان الاحتلال هو الذي وجهنا لهذا الافتراس الأهلي الدموي لبعضنا البعض. ثمة قدر كبير من السذاجة أو السطحية أو سوء النية، يجتمع أو يتوزع علي هذه الأسئلة، لأن الإجابة الوحيدة الممكنة لها هي نعم، الاحتلال والنظام البشع، المشوه، المعادي لتاريخ العراق وشعبه، الذي أقامه المحتلون، هو المسؤول المباشر عن هذا العنف.ربما كان العراق يسير بالفعل نحو حرب أهلية، وربما استطاعت حكمة بعض من قادته وعلمائه وأعيان مجتمعه انقاذ العراقيين من جحيم هذه الحرب. ولكن أحداً لا يجب ان يخطئ حجم الدمار السياسي والاجتماعي الذي أوقعه الاحتلال وحلفاؤه بالعراق. العراق ليس الوطن الوحيد في العالم الذي يضم شعباً متنوعاً من الإثنيات والطوائف، بل ان الدول المتجانسة إثنياً وطائفياً هي من القلة في العالم بحيث يصعب حتي الجزم بوجودها. وما ينطبق علي الشرق العربي والإسلامي، حيث الدولة القومية الحديثة لم تتعمق جذورها بعد، ينطبق أيضاً علي الدول الأوروبية الغربية، حيث ولدت الدولة الحديثة واكتسبت ملامحها السياسية والقانونية. لا بريطانيا، ولا بلجيكا، ولا أسبانيا، ولا فرنسا، بنيت علي تجانس عرقي وديني. وحتي ألمانيا، حيث العرق الجرماني هو السائد، تكونت الدولة (في أي حدود اعتبرت لها) من كاثوليك وبروتستانت ويهود، وخالط بنيتها القومية روس وبولونيون، بينما انتشرت المجموعات الإثنية الجرمانية في بلاد أوروبية أخري عديدة. في أي من هذه البلدان المعروفة اليوم باستقرارها (بعد حروب أهلية طويلة ودموية)، يمكن ان ينفجر السلم الأهلي في لحظات، إن وضعت في سياق شبيه بالسياق الذي دفع إليه العراق خلال السنوات الثلاث الماضية. كان مدهشاً، بالطبع، في الأيام القليلة السابقة لتفجير مقام الإمامين العسكريين ان نسمع السفير الأمريكي في بغداد يشن هجوماً صريحاً علي التوجه الطائفي لوزارة الداخلية ومؤسسات الحكم العراقي الجديد. ولكن السؤال الذي كان يجب علي السفير (أفغاني الأصل، المتحدث بالعربية) أن يسأله هو من المسؤول، من الذي وضع الأسس التي بني عليها هذا الحكم البشع، الغريب عن العراق وتاريخه. حتي قبل انطلاق مشروع الغزو كانت أوساط أمريكية وبريطانية تروج لعراق منقسم علي ذاته، عراق صور كأنه صنيعة بريطانية من التحام ولايات عثمانية مختلفة. وما أن أسس المحتلون أنفسهم في المنطقة الخضراء، حتي أطلق مشروع سياسي ودستوري واضح المعالم لدفع العراق إلي طريق الانقسام علي الذات. قيل للعراقيين انهم باتوا منذ اليوم أكثريات وأقليات، وان دولتهم الجديدة ستقوم علي نظام فيدرالي إثني وطائفي معاً، وهو واحد من أغرب الفيدراليات التي عرفها العالم. وما ان بدأت الدولة الجديدة في التشكل، بتأسيس مجلس الحكم سيئ الذكر، حتي قسم العراقيون إلي سنة وشيعة، وإلي أكراد وعرب، وإلي مسلمين ومسيحيين. وما انطبق علي مجلس الحكم، انطبق علي الحكومات الانتقالية. ثم جاء مشروع الدستور الجديد ليعيد التوكيد علي تقسيم العراق وشقه علي ذاته، إدارة وحكماً وتمثيلاً برلمانياً ووطناً.يتفق أغلب العراقيين علي معارضة الغزو والاحتلال، ويتفقون علي ان هناك ظلماً شاملاً أصابهم جميعاً في ظل النظام السابق، وإن بدرجات مختلفة. ولكن أحداً لم ير العراقيين يخرجون في حركة شعبية عارمة تطالب بتقسيم البلاد عرقياً وطائفياً، بمعني ان النظام الذي أقامه الاحتلال لم يأت للاستجابة لمطالب شعبية وطنية عراقية، بل جاء نتيجة لتواطؤ ضمني بين مديري الاحتلال وحفنة من السياسيين العراقيين الذين وضعوا أنفسهم في صف الغزو والاحتلال. وهنا أخذ مشروع التقسيم في محاولة تأسيس مواقع شعبية له. حفنة من السياسيين الطائفيين، من اللصوص والطامعين في ثروة البلاد وقوت شعبها، من المنظمات السياسية المحترفة، فشلت في تقديم نفسها إلي العراقيين بصفتها قوي وطنية فلجأت إلي كهف الخطاب الطائفي التقسيمي المظلم لتسويغ الامتيازات ومواقع السلطة والحكم التي منحت لها من إدارة الاحتلال. صاغت هذه القوي، التي يتصف أغلبها بجهل العراق وشعبه، تاريخاً جديداً للعراق وطوائفه وأعراقه، وتاريخاً جديداً للدولة العراقية وسياساتها، وتاريخاً آخر للوطن العراقي. أصبحت أساطير الاضطهاد الطائفي صناعة، احترفها رجال دين وسياسيون ركيكون، ومراكز إعلامية رخيصة الخطاب والحرفة. ولم يكن مستغرباً بالتالي أن يبدأ العراقيون في اكتشاف هويات لم يعرفها تاريخهم السياسي من قبل، وأن تبدأ جدران الخوف الطائفي في الفصل بين شمالهم ووسطهم وجنوبهم، بين الجار وجاره، الطالب وزميله، بل والرجل وزوجته. فجأة، اكتشف أبناء تميم وشمر والدليم أنهم شيعة وسنة، واكتشفت أبناء أسر بأكملها أن عليهم مخاصمة أخوالهم وأجدادهم من الطائفة الأخري. ولم يعرف تاريخ الأمم والشعوب ما عرفه العراق خلال العامين أو الثلاثة الماضية، عندما أخذ من يدعون أنهم أكثرية سكان العراق في الدعوة إلي تقسيم الوطن إلي كانتونات طائفية متصارعة، لا يعرف أحد أين يبدأ حدود الشيعة فيها وأين تنتهي حدود السنة. وفي حين يعرف أكثر العراقيين لغة التطرف واستباحة الدماء التي تحاول التغطي بغطاء المقاومة، وينكرونها، فإن تكفيريين قتلة يقفون علي رأس قوي سياسية ويحتلون مقاعد وزارات جعلوا منها مراكز لعصابات الاغتيال الطائفي والتعذيب والاختطاف علي الهوية.ما شهده العراق في الأسبوع الثالث من هذا الشهر لم يكن انفجاراً طارئاً، كما يقول الاعتذاريون بحسن نية، ولا هو سمة متأصلة في الشخصية العراقية، كما يحاول الجهلة والسفهاء التأكيد. هذا نتاج طبيعي ومتوقع لنظام سياسي أريد له، بوعي أو بدون وعي، ان يوصل العراق إلي ما وصل إليه، ولمنطق سياسي أريد له ان يزرع الخوف بين الطوائف، ولنمط حكم أريد له تشظية الشعب وإقامة هوة من الدم بين جماعاته وقواه. ومن العبث التعامل مع هذا الانفجار باعتباره حدثاً عابراً يمكن حصاره بعدد من اللقاءات بين بعض المسؤولين وقادة الأحزاب والعلماء. مثل هذا الجهد وهذه اللقاءات ضروري لوضع حد لسفك الدماء ومنع الأوضاع من التفاقم والتصعيد، ولكن العلاج الحقيقي يتطلب جهداً أكبر وأوسع وأكثر عمقاً.علي القوي الإسلامية الشيعية، محل ثقة الأمة، داخل المنطقة العربية وخارجها، ان ترفع الغطاء عن الجماعات الطائفية الانفصالية التي تحاول إغراق العراق في الدم خدمة لمصالح سياسية صغيرة. لم يعد من الممكن ان تقوم هيئة علماء المسلمين في العراق واتحاد العلماء المسلمين (الذي يقوده الشيخ القرضاوي) بالتبرؤ من الزرقاوي وأمثاله، بينما تقوم القوي والشخصيات الشيعية العربية بتوفير الغطاء والاعتذار للطائفيين القتلة في العراق. التنظيمات التي تقودها عمائم هي أكثر خطراً من تلك التي يقودها نكرات، وإن كان للمسلمين أن يحافظوا علي وحدتهم داخل العراق وخارجه، فلا بد من عزل جميع القتلة، التكفيريين والطائفيين، سنة وشيعة. علي الإسلاميين العرب جميعاً، سنة وشيعة، ان يعلنوا موقفاً واضحاً وصلباً ضد مشاريع تقسيم العراق، باسم الفيدرالية أو بأي اسم آخر، وأن يطالبوا بإلغاء الدستور المسخ الذي وضع تحت ظل ظروف شاذة من الاحتلال وسيطرة عناصر لم تكن وليس من المتوقع ان تصبح محل إجماع من العراقيين، دستور تم تمريره في أجواء من الخوف الأهلي والاستقطاب الطائفي، وبوسائل التزييف والعبث بأصوات العراقيين. وعلي القوي العراقية الوطنية، إسلامية كانت أو غير إسلامية، مقاومة كانت أو غير مقاومة، ان تستمر في رفضها للوضع الراهن ولكل ما ولد من رحم نظام الاحتلال، حكومة ودستوراً ونظاماً انتخابياً وجيشاً وقوي أمنية. هذا العراق غير قابل للحياة، لا بمقاييس تاريخ العراق ذاته، لا بالمقاييس العربية والإسلامية، ولا حتي بمقاييس أهل الرأي داخل الولايات المتحدة وأوروبا. وعبثاً يحاول البعض ترقيع هذا المولود المشوه بتعديل دستوري هنا واتفاق حزبي هناك. الخطأ هو في جوهر وأساس هذا العراق، وهو ما يستدعي إعادة بنائه في ظل ظروف مختلفة تماماً عن الظروف التي سادت منذ الاحتلال. بدون ذلك، فسيظل العراق عرضة للانفجارات المتكررة، مرة بين السنة والشيعة، ومرة بين العرب والأكراد، مرة بين القوي الشيعية أو الكردية، وأخري بين القوي السنية، حتي يأتي يوم يقع فيه الانفجار الكبير حيث سيلغ الجميع في دم الجميع. وعندها لن يغرق العراق وحده، فكل الاجتماع المشرقي العربي ـ الإسلامي تعددي ومتنوع، إثنياً وطائفياً.أليست مجتمعات إيران وتركيا وسورية ولبنان والسعودية ودول الخليج هي مجتمعات تعددية؟ هل يمكن صناعة تفجير سني ـ شيعي في العراق، ومنع عواقبه من الامتداد إلي إيران والسعودية ولبنان، أم هل يمكن صناعة كيان كردي في شمال العراق، يهيمن بقوة السلاح علي جواره العربي، بدون أن تمتد عواقبه إلي سورية وتركيا وإيران؟ العراق هو صورة مصغرة للشرق كله، وسواء أراد العرب والمسلمون أم لم يردوا، فقد بات مفتاح الاستقرار لكل الشرق، عربه وفرسه وأتراكه وكرده. وهذا الاستقرار لن يستعاد من جديد بدون التخلص من الاحتلال ونظامه. الاحتلال هو المسؤول الأول عن تشظي الاجتماع العراقي، وهو المسؤول عن إقامة هذا النظام المشوه، وهو الذي زرع في رحم الدولة العراقية الجديدة عوامل الانفجار والانقسام والصراع الدائم. بدون نهاية الاحتلال لن يتحرر العراق من كوابيسه، ومن العبث تسويغ المطالبة باستمرار الاحتلال الأجنبي خوفاً من تداعي النظام وانفجار العنف الداخلي. فالنظام متداع علي أية حال، والعنف الداخلي يكاد الانحدار إلي حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. ثم، أليست القوي المطالبة باستمرار الاحتلال هي ذاتها القوي الساعية إلي تقسيم البلاد، والتي تلعب الدور الرئيسي في تأجيج مناخ العزلة والخوف والثأر الطائفي؟وبعد، فخلف ما يشهده العراق درس لا يجب لكل صاحب نظر ان يغفله. إن ميزان قوي يقوم علي تدخل الأجنبي ووجوده سرعان ما سينهار، إما بخروج الأجنبي أو بقيامه بتغيير تحالفاته. ولشعوب هذه المنطقة ذاكرة طويلة وعميقة لن تنسي لأحد مواقفه وأفعاله.9