العتب علي تروتسكي!
صبحي حديديالعتب علي تروتسكي!ليس خبراً عابراً، كما أنها مفاجأة لافتة، أن يكشف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير النقاب عن هذا التفصيل المثير في سيرته الشخصية: أنّ الكتاب الذي شدّه إلي السياسة، بل دفعه إلي الإنخراط المباشر في العمل السياسي، كان سيرة البلشفي الروسيّ الشهير ليون تروتسكي (1879 ـ 1940)، كما كتبها المفكر والمؤرّخ البولوني الماركسي إسحق دويتشر في ثلاثيته الشهيرة (نقلها كميل قيصر داغر إلي العربية، بهذه العناوين: النبيّ المسلّح ، النبيّ الأعزل ، و النبيّ المنبوذ . ذلك لأنّ من يتتلمذ في يفاعته علي اقتداء شخصية مثل تروتسكي، ثورية متمرّدة منشقة إشكالية، يصعب أن يبلغ النهايات التي نشهدها اليوم في مسارات بلير: علي صعيد ما يعيشه حزب العمّال الجديد من انحطاط سياسي وفكري، وعلي صعيد بريطاني داخليّ صرف في الاجتماع والاقتصاد والحقوق والحرّيات، وكذلك علي صعيد خارجي في مسائل الغزو العسكري والتحالف الذيلي شبه المطلق مع الولايات المتحدة.ونقول يصعب ، ولا نقول: محال ، أن ينتهي ذلك التتلمذ المبكر إلي هذه النهايات المتأخرة، إذْ ثمة عشرات الأمثلة علي طراز مماثل من الانحطاط (يسمّيه أصحابه ارتقاءً… ولله في خلقه شؤون!)، الذي يقود من معسكر أوّل إلي معسكر آخر نقيض تماماً، وتليق به أحوال العجب والدهشة وضرب الكفّ بالكفّ. وهذا الفتي المنشدّ في سنوات الصبا إلي تروتسكي، هو اليوم ـ في خمسينيات عمره، وفي ولايته الثالثة كرئيس وزراء ـ حامل الألقاب التالية: مجرم حرب حسب هارولد بنتر، و كاذب حسب أسبوعية الإيكونوميست البريطانية، و منافق حسب أهل اليسار في حزبه، و صوت سيّده الأمريكي حسب استطلاعات الرأي البريطانية، و حليف صادق حسب البيت الأبيض…قبل هذا التصريح الثقافي ـ التربوي كان بلير قد أطلق تصريحاً لا يقلّ دراماتيكية، سياسياً ـ روحياً ـ دينياً هذه المرّة، قال فيه إنّ الله هو حسيبه في قرار غزو العراق، وإنه صارع ضميره طويلاً قبل أن يرسل القوّات البريطانية إلي العراق: لقد توجّب عليّ اتخاذ ذلك القرار… وفي نهاية المطاف أعتقد أنّك إذا كنتَ تتحلي بالإيمان في هذه الأمور، فإنك سوف تدرك أنّ الحكم علي القرار يصدر عن آخرين . وحين سأله محاوره، مايكل باركنسون، عن قصده من هذه العبارة الملتبسة، أجاب بلير: إذا كنتَ مؤمناً بالله، فإنّ الحكم لله !وبالطبع، كان من حقّ أُسَر الضحايا البريطانيين الذين قضوا في العراق، أو جرّاء غزوه، أن يرفضوا هذا التلفيق الإيماني، فاعتبر ريغ كيز، مؤسس مجموعة العوائل العسكرية ضدّ الحرب ، أنها تصريحات مثيرة للإشمئزاز ، وبلير يستخدم الله ذريعة للتملّص من استراتيجية فشل شاملة . وتساءل الرجل، الذي فقد ابنه في تفجيرات أنفاق لندن: هل نري 100 كفن قادمة من هناك لأنّ الله أخبره أن يذهب إلي الحرب؟ الحكم الأوّل يصدره أهالي الضحايا، وليس الله . من جانبها أعلنت روز جنتل، التي قُتل ابنها في البصرة سنة 2004، أنها تشعر بالقرف من تصريحات بلير: المسيحيّ الحقّ لا يرسل العباد إلي هناك لكي يُقتلوا .وليست مبالغة، بعد هذه التصريحات السياسية ـ الثقافية ـ الدينية، أن يتخيّل المرء إسحق دويتشر وهو يهتزّ في قبره بشدّة، وأن يحذو حذوه ليون تروتسكي بغضب أشدّ ربما، إزاء نهايات هذا التلميذ غير النجيب أبداً. وعلي المنوال ذاته، ليست مبالغة أن يهزّ رأسه ـ إعجاباً، وليس عجباً ـ رجل مثل الرئيس الأمريكي جورج بوش، المحظوظ بإلهام إلهيّ من نوع متطابق حول حكاية غزو العراق ذاتها. إلي هذا، بل بمعزل عن هذا، يحقّ لسيّد البيت الأبيض أن يكيل المديح لحليفه بلير، مردّدا صدي صوته في سجلّ حافل قديم مستديم، كان فيه الأخير طائعاً طيّعاً مطيعاً في مسائل ليست بالغة الحساسية والخطورة فحسب، بل كارثية مأساوية أيضاً وأساساً.في المقابل، من حقّ جورج بوش ـ الأب، هذه المرّة ـ أن يجري مقارنة بين بلير ورئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر. ففي الأول من شهر آب (أغسطس) 1990 وقعت خصومة من نوع ودّي خاصّ والحقّ يُقال، بين بوش الأب وثاتشر، علي خلفية الموقف من الإجتياح العراقي للكويت. كانت الأخيرة تقوم بزيارة خاصة إلي كولورادو لاستلام جائزة من معهد آسبن، وشاءت سخرية الأقدار أن يتوجه بوش إلي هناك لإلقاء خطاب في المعهد ذاته حول انتهاء الحرب الباردة. وحسب أندرو ستيفن، مراسل الأوبزرفر في تلك الأيام، اكتشف بوش أن ثاتشر مستنفرة ضد العراق أكثر بكثير من الولايات المتحدة، حتي أنها قارنت الخطوة العراقية بغزو الأرجنتين لجزر المالوين عام 1982. ويسجل ستيفن أن ثاتشر حرّضت بوش علي الانخراط في الحرب دون إبطاء، بل وبلغت حدّ تعنيفه أيضاً: أنتم أمّة عظمي، ولا بدّ أن تقوموا بشيء… لا تكنْ رخواً يا جورج !وبالطبع، لا أحد حثّ بلير أن لا يكون رخواً، لأنه ارتخي من تلقاء ذاته، وانخرط في ركاب بوش الابن دون تردد، مثلما انخرط من قبل في ركاب بيل كلينتون. والعتب، دائماً، علي تروتسكي ودويتشر!0