العبرة من سيرة ميلوسيفتش ونهايته: مالا يغتفر من الفظائع
د. عبدالوهاب الافنديالعبرة من سيرة ميلوسيفتش ونهايته: مالا يغتفر من الفظائع بحسب أحد أنصار الزعيم الصربي الراحل سلوبودان ميلوسوفيتش الذي قضي في سجنه في لاهاي الأسبوع الماضي وهو ينتظر حكم القضاء في أمره، فإن الرجل كان بطلاً قومياً دافع عن قومه ما وسعه الدفاع ومات وهو يجاهد لعزتهم. وحينما سئل هذا المناصر الذي كان يعدد مآثر ميلوسوفيتش في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية بعيد وفاة بطله: ألم يترك الرجل صربيا أضعف وأصغر حجماً وأسوأ سمعة مما كانت في بداية عهده؟ أجاب: اللوم ليس عليه، فقد كانت القوي التي يحاربها أقوي منه.لحسن الحظ فإن أصحاب هذا الرأي أصبحوا قلة حتي بين الصرب الذين استخفهم ميلوسوفيتش فأطاعوه في سابق أيامه، فأوردهم ما أورد فرعون قومه من قبل من الخسران. فقد تميزت ردة الفعل تجاه نهاية ميلوسوفيتش بالفتور واللامبالاة إلا من القلة من أنصاره المتمسكين. هذا بالرغم من أن صربيا قد انتكست إلي حال غير حالها يوم أخرجت ميلوسوفيتش من الحكم في ثورة شعبية عام 2000 ثم سلمته إلي محكمة لاهاي في العام التالي لتغسل بذلك عارها.ولكن من المؤسف أن هذه النظرة التبسيطية التي تخلي عنها كثير من الصرب ما تزال تجد لها صديً بين بعض العرب، حيث سمعنا خلال اليومين الماضيين ترديداً للمقولات القديمة بأن وزر ميلوسوفيتش الأكبر كان تصديه للولايات المتحدة وحلفائها. هذا علي الرغم من أن كثيراً من العرب كانوا في الماضي ينتقدون الغرب لتقاعسه عن نصرة ضحايا ميلوسوفيتش من المسلمين في البوسنة، وهي جريرة شاركنا فيها معشر العرب بممثلنا في الأمم المتحدة وأمينها العام آنذاك بطرس غالي الذي لم يبق له إلا أن يحمل السلاح مع زعيم صرب البوسنه رادوفان كاراديتش وقائد جنده الجنرال رادكو ملاديتش من كثرة ما كان يدافع عنهما. وما زال حتي اليوم يرفض أن يعبر عن الندامة علي دوره ذاك.ولا شك أن هذه النظرة عند بعض العرب هي تعبير عن مرض عربي متأصل ومستعص يسبب العمي الأخلاقي، ويطمس البصيرة. وهو نفس المرض الذي أصاب الصرب فأوردهم مورد التهلكة. والطريف في الأمر أن الصرب لا يخفون احتقارهم للعرب والمسلمين، وكانوا يشبهون أنفسهم بالإسرائيليين، ويقولون عن كوسوفو انها كالقدس بالنسبة لنا، يقصدون بأنها أرض مقدسة بالنسبة لهم يسكنها قوم من غير أهلها. مشكلة ميلوسوفيتش لم تكن قط أنه سعي لمقارعة الأمريكان أو الأوروبيين، فهو أجبن من أن يسعي إلي ذلك، ولم تكن صولاته إلا علي العزل والضعفاء، ولم تكن قضيته سوي الطمع والحقد والقسوة وعمي البصيرة وقلة النظر في العواقب. لقد قرر ميلوسوفيتش أول الأمر إيقاظ شيطان العصبية العرقية من مرقده ليغطي علي جريمة سابقة بأخري أبشع. فالرجل كما هو معروف، صعد إلي السلطة عبر بوابة الحزب الشيوعي اليوغسلافي، وهو صعود لا يلقاه في مثل هذه الأنظمة إلا من نافق وكذب وتواطأ وبطش وخان. ويبدو أنه كان أكذب وأشد خيانة من غيره، لأنه كما يبدو لم يؤمن يوماً بالشيوعية التي أدار لها ظهره بسرعة البرق حين لاحت بوادر انهيارها، وتلبس بدلاً منها لبوس الشوفينية القومية، وأخذ يمزق التركة الإيجابية الأبرز لنظام تيتو، وهي التوازن العرقي والقومي والديني الدقيق في يوغسلافيا عبر نظامها الفدرالي. وكما أثبتت الوثائق، فإن خيار ميلوسوفيتش كان الشرارة التي فجرت الاتحاد، لأن بقية الأعراق ما كانوا ليقبلوا بالخضوع للهيمنة الصربية الوقحة، فكان أن انفصلت سلوفينيا، ثم أعقبتها كرواتيا فالبوسنة. ومن المعروف أن أول جرائم ميلوسوفيتش كانت إلغاء الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به إقليم كوسوفو في إطار جمهورية صربيا. وفضلاً عن أن يصح الزعم بأن الغرب كان متربصاً بصربيا، فإنه لم يحرك ساكناً إزاء هذا الإجراء التعسفي الذي أشعل شرارة الصراع في يوغسلافيا. وكان الصرب يعتدون بهيمنتهم علي الجيش منذ أيام تيتو، وكانت كل ترسانة البلاد من الأسلحة بيدهم، بينما اضطرت الجمهوريات الأخري للبداية من الصفر لتكوين جيوش من المتطوعين. وبينما سمح للكروات وغيرهم بالتسلح من حيث شاءوا، فإن أوروبا والولايات المتحدة أعلنتا حظراً للسلاح علي البوسنة عبر مجلس الأمن، وهو حظر ما كان يمس غير المسلمين، لأن الصرب لهم مصادرهم وكذلك الكروات. أما روسيا فإن تحيزها للصرب كان ولايزال أوضح من أن يخفي. وفي حقيقة الأمر فإن أوروبا منحت ميلوسوفيتش مهلة خمس سنوات لحسم الحرب في يوغسلافيا لصالحه. وعليه فإن حربه لم تكن مع أوروبا ولا مع أمريكا، وإنما مع ضحاياه العزل من الكروات والمسلمين، وقد فشل في تلك الحرب فشلاً ذريعاً، رغم ما ارتكب جنوده من الفظائع التي يندي لها الجبين والتي أحرجت كل الدول الغربية (وإن كانت لم تحرج بطرس غالي علي مايبدو!).التدخل الغربي لم يأت إلا بعد أن تجاوز ميلوسوفيتش وجنوده كل الحدود، وأسقطوا كل المعاذير والحيل التي كان البعض يتحجج بها، وبعد ان أراد أن يصدر مشكلته إلي بقية أوروبا بطرد جماعي لأكثر من نصف مليون من سكان كوسوفو، فلم يعد بإمكان أوروبا أن تقف متفرجة وقد أصبحت المشكلة علي بابها، فهبت للدفاع عن نفسها وليس عن الألبان. وكانت هذه حماقة كبري لميلوسوفيتش الذي كان قائداً عسكرياً فاشلاً مثلما كان قائداً سياسياً كارثياً علي بلاده وعلي أوروبا. ولأنه وجنوده كانوا يفتقدون الكفاءة العسكرية فقد حاولوا التعويض عن ذلك بالمجازر في حق المدنيين العزل، حيث أصبح استهدافهم لسراييفو وأهلها بالقصف والقنص مضرب مثل.وفي نهاية الأمر فإن ما اقترفه الصرب من مجازر، بل نقل تجاوزهم الحدود فيها، هو ما ألقي بهم في التهلكة. فقبل مجزرتي سراييفو وسريبرينتسا في صيف عام 1995، كانت معظم الدول الأوروبية تجنح إلي الاستسلام لمطالب الصرب في تقسيم البوسنة لصالحهم. وقبل كارثة كوسوفو كان الغربيون يرون في اتفاقية دايتون خاتمة المطاف في أمر يوغسلافيا السابقة. ولكن جشع الرجل وتهوره السياسي أوقعاه في مصادمات كان في غني عنها وهي التي أودت به إلي الهزيمة فالمعتقل فشر ميتة.ولعل العبرة من سيرة ميلوسوفيتش غير العطرة هي أن ارتكاب الفظائع لا يكون أبداً السبيل للدفاع عن قضية، حتي لو كانت القضية نبيلة، ناهيك عن أن تكون القضية هي الجشع والعنصرية. فإن صاحب أعدل قضية يخسر قضيته حين يرتكب ظلماً أسوأ منها، كما حدث للهوتو في رواندا ومطالبتهم العادلة بحقهم كأغلبية في حكم بلادهم، وهو حق خســـــروه الآن في المدي المنظور بسبب ما ارتكــــب بإسمهم من فظائع.الشيء نفسه يمكن أن يقال في حق الألمان، الذين كانت لهم بعد الحرب العالمية مطالب عادلة تتعلق بالتعويضات المجحفة التي فرضت عليهم بعد الحرب العالمية الأولي، والأقاليم التي انتزعت منهم. ولكن تعسفهم وتجاوزهم لكل الحدود تحت قيادتهم الفاشية المتعجرفة، وما ارتكبوه من مجازر وفظائع في حق اليهود وغيرهم، أدي بهم إلي هزيمة عار ظلت أجيال متتابعة تحمله كابراً عن كابر.وفي حقيقة الأمر فإن المنطق في مثل هذا المصير واضح لا يحتاج إلي تعمق في استجلائه لمن كان عنده أقل القليل من البصيرة. فحتي في الأمور التي تخص الناس العاديين. فلو أن شخصاً اعتدي علي شخص الآخر بالضرب أو نهب شيئاً من ماله، فقام هذا الأخير بعدوان أكبر، مثل القتل أو الاعتداء علي أفراد أسرة الشخص أو إحراف بيته، فإنه سيتحول من كونه ضحية إلي كونه جانياً، ويصبح هو المطلوب للعدالة. وفي حالة الصرب فإنهم جمعوا المبادرة إلي العدوان بالإفراط فيه، فلم يتركوا لأنفسهم مخرجاً أو عذراً. وقد كانت الوحشية التي تعاملوا بها مع إخوانهم السابقين في الوطن وشركائهم في التاريخ من نوع يخجل منه حتي جينكيزخان.لقد لقي ميلوسوفيتش في آخر أيامه ما يستحق من الذل والهوان، وإن كان كثير من ضحاياه الذين فاق القتلي منهم قرابة الربع مليون، وملايين غيرهم من أقارب الموتي والمشردين، لا يرون أن لقي الجزاء الوفاق في هذه الحياة الدنيا.إن من واجب العرب وكل الإنسانية إن يدينوا جرائم ميلوسوفيتش وأمثاله من الطغاة، وألا يجدوا لها أي عذر. وأهم من ذلك ألا يقعوا فيما وقع فيه، وما أكثر من فعل ذلك من العرب أو حاوله. والعاقل من اتعظ بغيره.9