الطاهر وطّار: ما يبقي في الوادي غير حجاره
د. محمد عبيد اللهالطاهر وطّار: ما يبقي في الوادي غير حجاره ما يبقي في الوادي غير حجاره.الّلاز فقط ينبّه، بواسطة هذا المثل الشعبي.. إلي أن الأمور، كل الأمور مهما كانت أهميتها أو تفاهتها زائلة، وأن هناك سطحاً تمر فيه أمور، وقراراً أو عمقاً تستقرّ فيه أمور أخري.. الأمور الثابتة .بين السطح والعمق، بين الطارئ والثابت ظلّ الطاهر وطار طوال رحلته يراهن مثل (اللاز) علي حجارة الوادي.. علي ما يبقي بعد الزوابع والفيضانات.. وقد أصاب كثير منها المجتمع الجزائري الذي عبّر عنه وطّار وعاشه في العمق، واتخذ منه منجماً لإبداعه، فرصد تحولاته منذ حرب التحرير ومروراً بتحولات دولة الاستقلال، ووصولاً إلي تسعينات الدم وحقبة الإرهاب..الروايات المبكرة للطاهر وطار غدت اليوم من كلاسيكيات الرواية العربية، بمعني الثبات، وليس القِدَم: اللاز، الزلزال، العشق والموت في الزمن الحراشي، الحوات والقصر، عرس بغل وصولاً إلي الروايات الأحدث زمناً: تجربة في العشق، الشمعة والدهاليز، الولي الطاهر يعود إلي مقامه الزكي، الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء.عام 1936 ولد الطاهر وطار لأسرة ريفية بربرية، في إحدي قري القبائل علي سفح جبال الأوراس، تربي في بيئة أبوية، يقودها الجدّ ذو المركز الاجتماعي والحضور القوي، وعنه ورث الطاهر الكرم والأنفة، وعن أبيه ورث الزهد والقناعة والتواضع وعن أمه الطموح والحساسية المرهفة، أما خاله الذي بدّد تركة أبيه الكبيرة في الزهو والأعراس فقد ورث عنه الطاهر الفنّ.. هكذا يشير الطاهر إلي مؤثرات أسرته وبعض صفاته.. ولكنه لا يشير إلي الرغبة في المشاكسة وفي إثارة المعارك والزوابع من أين جاءته.. وهو الذي يبغض السكون والصمت، ويميل دوماً إلي تفجيره.. ليري ما يمكن أن يرشح عنه.في المراحل المبكرة من حياته تلقي تعليماً دينياً رصيناً، فتعلم القرآن وعلوم القرآن والفقه في مدارس جمعية العلماء المسلمين، ثم في معهد الإمام عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، وهذا التكوين شكّل أساس معرفته العميقة باللغة العربية وبالتراث الكلاسيكي، ولكنه اكتشف في قسنطينة إلي جانبه الثقافة الأدبية الحديثة، فقرأ ما وقع تحت يده، ثم راسل بعض الجهات المصرية واتصل بالثقافة المشرقية من خلالها، وانتقل عام 1956 إلي تونس، وفيها اطلع علي نماذج من الرواية الحديثة المترجمة والعربية، وبدأ اتصاله بالفكر والأدب الماركسي، فوجده قريباً مما يرغب أن يعبّر عنه، فمال إلي الماركسية فكراً وثقافة، وأخفي ميوله عن جبهة التحرير الوطني التي بدأ انتماؤه إليها عام 1956. وعندما بدأ أعماله الأولي، قصصاً وروايات كانت كتابته تنطلق من مبادئ الواقعية الاشتراكية التي ساعدته علي قراءة تحولات مجتمعه، وتأمل صراع طبقاته.. أخذ من الماركسية التعبير عن النزعات الثورية والتحررية، وتأمل الصراع الاجتماعي ببواعثه وملابساته المختلفة.. وأخذ من الواقع الذي انخرط فيه حرارة التجربة وصدق التعبير.. ومع صعود الواقعية وصعود الرواية العربية في إطارها، انتشر اسم الطاهر وطار، وغدا اسماً مرادفاً للجزائر، ومفتاحاً أساسياً لمن أراد معرفتها كما تتجلي في كتابة نابعة من عمق جراحها وتحولاتها. وطوال عقود، لم يكن القارئ العربي (المشرقي خاصة) يعرف من الجزائر غير الطاهر وطار ورواياته التي تحمل أسماء غريبة، وتقدم أجواء مشوقة جذابة، كما تنقل تجربة شعب عربي ترسخت صورته الاستشهادية المقاوِمة علي مَدَي عقود المواجهة مع الاستعمار الفرنسي. الطاهر وطار ذو الأصول البربرية، اختار الكتابة باللغة العربية، واختار الانتماء للثقافة العربية منذ البداية، وظل علي مدي حياته واضح الموقف من الكتابة بالفرنسية، ومن التيار الفرانكفوني الذي نشط بعد الاستقلال، فأسهمت كتاباته في تشجيع التأليف والإبداع بالعربية، وكان لها دورها في المعركة الدائرة بين التيار العربي والتيار الفرانكفوني الذي لم يزل مستمراً حتي اليوم، وإن بأشكال متوارية أحياناً.. وعندما تصاعدت المشكلة الأمازيغية، أدرك وطار بواعثها السياسية، فظل إسهامه فيها مرتبطاً بميوله العروبية والوطنية ثقافة ووعياً وإبداعاً، وظل حريصاً علي وحدة النسيج الجزائري في مواجهة القوي المخادعة التي تحاول تضليله وتمزيقه. من تنوّع المجتمع الجزائري وتناقضاته، كوّن شخصيته العميقة المركّبة، البساطة الظاهرية عنوانها، ولكنها بساطة خادعة، تخفي تجربة عريضة، وتكويناً خاصاً، لا يتيسّر لأحد، وحين يصف شخصيته يقول: أنا رجل زاهد ورجل متصوف وصاحب قضية موجودة علي الساحة. وأبذل حياتي من دون أي تردد. ومعرّب أعرف الفرنسية، وبربري أكتب باللغة العربية، وابن فلاح وابن المدارس الدينية . ويضاف إلي ذلك تجربته السياسية الطويلة في جبهة التحرير الوطني من 1956 ـ 1984، وقد عمل في إطارها عضواً في اللجنة الوطنية للإعلام، ومراقباً وطنياً مكَنته وظيفته من السفر إلي مختلف الولايات الجزائرية والإطلال بعمق علي الواقع الجزائري، ثم شغل منصب مدير الإذاعة الجزائرية.. كل ذلك أغني تجربته وعمّق اتصاله بمجتمعه، وفتح كتابته علي آفاق الواقع المتدفّق.. أما الماركسية فكانت خياراً فكرياً مساندا في تكوين رؤيته ومنهجه التحليلي العميق، ولكنها ليست ماركسية خالصة، بل لا يمكن فصلها عن مختلف العوامل التي تداخلت في إهاب هذا المثقف المختلف. أواخر الثمانينات أسس وطار وعدد آخر من المثقفين (الجمعية الجاحظية) التي يعمل وطار رئيساً لها، وهي ليست جمعية عادية، فقد حولها وطار إلي بؤرة ثقافية عربية، تؤمن بالديمقراطية من خلال شعارها (لا إكراه في الرأي) وتعتني بالكتاب العربي رغم الظروف الصعبة، وإذا ما قادتك رحلتك يوماً إلي (الجاحظية) فلن تستغرب وجود الفتيات المحجّبات علي نحو لافت، ولن تستغرب الجو المحافظ الذي يجلّل الجمعية ويخترق هواءها.. إنها من الأماكن المركزية التي تؤكّد لك عروبة (الجزائر) وعروبة ثقافتها وحضور الإبداع العربي فيها… ستري صورة (يوسف سبتي) والمكتبة المسماة باسمه، وهو واحد من المثقفين الذين قضوا نحبهم في مرحلة الدّم، أما الطاهر وطار فسيقول لك إنه لم يحتج إلي أية حماية طوال تلك الحقبة، وستعرف أنه المثقّف الوحيد الذي احتج علي إلغاء الانتخابات البرلمانية التي فاز بها الإسلاميون عام 1992، وهو ما خلّف كل ذلك السيل من الدماء.. وبسبب من موقفه ذاك جري تهميشه ووجهت إليه اتهامات قاسية من الأوساط الثقافية، لكنه ظل مدافعاً شرساً عن مواقفه الديمقراطية، رافضاً لقتل المثقفين مهما تكن انتماءاتهم… وطار بوجوهه المختلفة، بطبقاته المركبة، بمعاركه التي لا تنتهي، عنوان عريض من عناوين الثقافة العربية في الجزائر… وبقاء اسمه وإبداعه يعيدنا مجدداً إلي المثل الشعبي المرتبط باللاز، الشخصية الروائية الشهيرة، التي أبدعها وطار نفسه ما يبقي في الوادي غير حجاره . شاعر وناقد من الاردن[email protected]