الشعب الفلسطيني يختار قيادة ونهجاً جديدين
د. بشير موسي نافعالشعب الفلسطيني يختار قيادة ونهجاً جديدينقبل أسابيع قليلة، نشرت في هذا الموقع أؤيد مشاركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وأدعوها إلي عدم المشاركة في الحكومة الفلسطينية. كنت أحسب حينها، وربما كانت تلك هي أيضاً حسابات حماس، ان نتائج التنافس بين حماس وفتح ستكون متقاربة. بمعني ان أياً من الطرفين لن يتفوق تفوقاً حاسماً علي الطرف الآخر، وأن الظروف الفلسطينية الداخلية والدولية تستدعي استمرار قيادة فتح للحكم، علي ان تمارس حماس رقابة صارمة علي الإدارة الفلسطينية الداخلية وعملية التفاوض. ولكنني اعتقد الآن ان الأمور قد تغيرت، وان ما أفرزته انتخابات الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) يفرض واقعاً وشروطاً مختلفة، تتطلب بالتالي استجابات مختلفة.أظهرت نتائج الانتخابات ان الشعب الفلسطيني قد اختار، اختار قيادة جديدة ونهجاً جديداً. وكان هذا الاختيار حاسماً بلا شك، بحيث لم يعد هناك مجال للالتباس حول من هو الفائز بثقة الشعب. في ظل التوقعات السابقة للانتخابات، كانت حماس تأمل في الحصول علي 40 إلي 50 مقعداً، وقد ترددت قياداتها بين المشاركة في الحكم والاحتفاظ بموقع المعارض الرقيب في المجلس التشريعي. ولكن حماس لا تستطيع الآن التخلي عن أعباء المسؤولية التي ألقاها الفلسطينيون في الضفة والقطاع علي عاتقها. بغير ذلك، ستخسر حماس ثقة الشعب، وتظهر بمظهر القوة السياسية غير الجدية. الطريق الأفضل إلي مستقبل الحكم الفلسطيني هو بالطبع حكومة وحدة وطنية، تحتفظ فيها حماس بأكثرية وزارية وتشارك فيها فتح، في شكل أساسي، كما تشارك فيها القوي الأخري الممثلة في المجلس التشريعي، إن رغبت. ولكن ثمة مؤشرات (وأنا أكتب بعد أيام قليلة فقط من الانتخابات) علي ان هناك مجموعة صلبة في قيادة فتح لا ترغب في المشاركة في حكومة تقودها حماس، علي افتراض ان حماس قد وجدت نفسها بهذا الانتصار الكبير في مأزق بالغ التعقيد، يجدر بفتح تركها للغرق فيه. وكلما ازدادت حماس غرقاً، كلما اقتربت الانتخابات التشريعية المبكرة، التي ستؤدي إلي خسارة حماس لأكثريتها البرلمانية.حماس تواجه بالفعل مأزقاً: أولاً علي صعيد تجربة إدارة حكم وسلطة بدون خبرة سابقة، وثانياً علي صعيد الملاءمة بين برنامجها السياسي المعلن والاستحقاقات الدولية والإقليمية المفروضة علي السلطة الفلسطينية. وبينما لا يجب التهوين من حجم التحديات التي ستجد حكومة حماس نفسها في مواجهتها، فلا يجب تصوير الأمور باعتبارها تجربة مستحيلة. الذين استلموا مقاليد الحكم في 1994 لم تكن لديهم خبرة سابقة، وبعد عشرة سنوات من السلطة، ثمة بيروقراطية فلسطينية قد تشكلت في كافة دوائر الحكم ستسمح بانتقال السلطة في سلاسة من قوة سياسية إلي أخري، ما لم يتعمد البعض الانقلاب المبطن علي إرادة الشعب. المشكلة ستكون في الحاجة إلي إعادة بناء أجهزة السلطة التي ينخرها الفساد من كل صنف. أما علي المستوي السياسي، فموقف حماس النقدي من مسيرة ونهج التفاوض الذي قادته فتح، صحيح بلا ريب. إذ لم يود التفاوض من أجل التفاوض، حتي بحسابات أوسلو، إلي شيء يذكر، ولم يحقق السلام من أجل السلام للفلسطينيين ولو الحد الأدني من حقوقهم. إن كانت مسيرة التفاوض السابقة جاءت بكل هذا الدمار والتوسع في الاستيطان ومصادرة الأراضي والحصار، فلماذا لا يحاول الفلسطينيون طريقة مختلفة للتفاوض؟بيد ان وراء هذا الزلزال الانتخابي الكبير ما هو أبعد من تطورات السياسة القادمة. ففتح، التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير منذ أكثر من ثلاثة عقود، لا تواجه مجرد أزمة عابرة كما يقول قادتها، بل تواجه أزمة مستحكمة بالفعل. وهي أزمة دور وموقع تاريخي، لا أزمة قيادة وتنظيم وأعباء حكم فحسب.تتمحور التفسيرات السائدة لتدهور شعبية فتح حول ثلاث دوائر: الأولي، ان الحركة تفتقد الحراك الديمقراطي، بعد أن مضي ربع قرن علي عقد آخر مؤتمر عام لها، وباتت قيادتها أسيرة مجموعة تاريخية تقدم بها العمر واعتبرت منذ عودتها من الخارج غريبة عن قواعد الحركة التنظيمية في الضفة والقطاع. وبينما تسيطر هذه القيادات علي اللجنة المركزية للحركة، فإن القيادات الشابة التي برزت في سنوات النضال الطويلة ضد الاحتلال لا تساهم مساهمة مباشرة وفعالة في صنع قرار الحركة وتوجهها. الثانية، ان فتح هي التي وقعت أوسلو وهي بالتالي التي تقود السلطة الفلسطينية وعملية التفاوض. وكانت اتفاقية اوسلو (والمجتمع الدولي الذي كفل الاتفاقية) قد حملت وعوداً كبيرة للشعب الفلسطيني. ولكن الفلسطينيين اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات علي توقيع أوسلو، يجدون أنفسهم في وضع أسوأ مما كانوا عليه قبل الاتفاقية. بكلمة أخري، خذلت آمال السلام العادل من قبل الإسرائيليين والامريكيين وكافة القوي الدولية المعنية، وكان ذلك بالتالي خذلان للسلطة الفلسطينية وقوتها القائدة: حركة فتح. وسرعان ما انعكس هذا الخذلان علي الموقف الشعبي من القوة التي أدخلت الشعب في مغامرة أوسلو، ولم تستطع أن تحصل له علي حقوقه بعد عقد كامل من التفاوض. أما الدائرة الثالثة فتتعلق بعواقب السلطة والحكم. فلم يعد هناك سر في ان أداء السلطة الفلسطينية الداخلي كان مخزياً، بداية ببناء السلطة علي قاعدة أجهزة أمنية فاسدة ومفسدة، لا تقوم بواجبها في حراسة القانون ولا تحترمه، مروراً بالتكدس الهائل للموظفين الضروريين وغير الضروريين في أجهزة الحكم، إلي تحول السلطة إلي مصدر إثراء لأقلية صغيرة من النخبة الفتحاوية الحاكمة. وفي النهاية كان لابد مما ليس منه بد، كان لابد لفتح ان تدفع الثمن مضاعفاً، ثمن اضطرابها وعجزها التنظيمي الداخلي، ثمن تخلي العالم عن مسؤولياته تجاه أكثر قضايا التاريخ الحديث تعقيداً، وثمن الحكم الفاسد وتبديد ثقة الشعب.كل ما سبق هو صحيح إلي حد كبير، ولكنني أحسب أنه لا يكفي لتفسير أزمة فتح. ما تواجهه فتح هو وضع فريد بكل المقاييس، وهو وضع هي المسؤول الأول عن تشكله. فتح لم تولد كحزب أيديولوجي، ولم تولد كحزب يسعي إلي الحكم والسلطة، ولكنها ولدت كحركة تحرر وطني لشعب يواجه تحديات تتعلق بهويته الوطنية ويخوض صراعاً طويلاً للحصول علي حقوقه الوطنية. ومنذ بروزها علي ساحة العمل الفلسطيني، وحتي إقامة سلطة الحكم الذاتي علي أجزاء من الضفة والقطاع، سلكت فتح، علي هذا النحو أو ذاك، سلوك حركة التحرر الوطني. ولكن اتفاق أوسلو، الذي جاءت به فتح وليس أي قوة أخري، منحها سلطة وحكماً شبيهان بمؤسسة الدولة، بدون أن يعطي الشعب الفلسطيني حريته الناجزة، سيادته الكاملة علي أرضه، ومطلبه الأساسي في تشكيل دولة وطنية مستقلة. بمعني، ان فتح، حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ولدت من جديد منذ 1994 في صورة سلطة حاكمة ومتنفذة علي رأس شعب لم ينجز بعد مهمات التحرر الوطني. وقد كان من المستحيل لعب الدورين معاً، حتي بوجود واحد من أكثر الزعماء العرب دهاء وقدرة علي التعامل مع المتناقضات كياسر عرفات. أصبحت السلطة مصدر ثروة وامتيازات ومجالاً واسعاً للفساد والإفساد، ولكن الأهم أنها أصبحت قيداً ثقيلاً علي ضرورات استكمال مهمة التحرر الوطني، مركز وجود الشعب الفلسطيني ومدار همومه. بل ان مهمات الحرية والاستقال غير الناجزة، استخدمت مراراً من فتح كغطاء للحكم غير الصالح. وهذا هو الفرق بين المآل الذي انتهت إليه فتح وذلك الذي انتهي إليه المؤتمر الوطني الأفريقي؛ فالمناضلون الوطنيون في جنوب أفريقيا لم يصلوا إلي الحكم بعد تصفية النظام العنصري تماماً وحسب، بل ووصلوا في ظل أوضاع حكم طبيعية، وضعتهم تحت رقابة ومحاسبة دائمة من الشعب ومؤسساته. بيد أن هذا التناقض الذي غرقت فيه فتح بعد أوسلو لم يعد خاصاً بها، ذلك أن حماس توشك هي الأخري علي مواجهته. يمكن الاطمئنان بالطبع إلي ان حماس لن تكرر أخطاء فتح في أجهزة الحكم، لاسيما فيما يتعلق بانتشار الفساد والمحسوبية. ولكن التحدي الكبير الذي سيصبح علي حماس مواجهته هو تحدي الحكم من خلال أجهزة شبيهة بأجهزة الدولة، بكل ما تستدعيه من شروط واستحقاقات، والمضي بمسيرة التحرر الوطني إلي نهاياتها.خلف ذلك كله، ثمة دلالتان أخريان لهذه الانتخابات لابد من الإشارة إليهما. فقد أظهرت الانتخابات الفلسطينية، إن وضعت في سياقها العربي والعالمي، الفشل والتراجع الكبيرين للسياسة الامريكية. فمنذ بدأ مشروع السيطرة الامريكية العالمية في 2001، إذا بالولايات المتحدة تتورط في العراق عسكرياً، ثم تخسر مراهنتها السياسية فيه؛ تواجه صعوداً إسلامياً واضحاً في مصر، كبري الدول العربية؛ تدفع نفسها نحو التعامل مع المسألة النووية الإيرانية بدون ان تعرف لهذه المسألة من حل؛ تسقط الأحزاب الحاكمة الحليفة لها في دول امريكا اللاتينية واحدة منها تلو الأخري لصالح قوي يسار اجتماعي جديد، وها هي توشك علي رؤية حكومة فلسطينية تقودها حركة المقاومة الإسلامية حماس، المصنفة إرهابياً في السجلات الامريكية.من ناحية أخري، أظهرت الانتخابات المعدن الحقيقي، المعدن الصلب، للشعب الفلسطيني. فمنذ تأكد عقد الانتخابات التشريعية، أمطر الفلسطينيون بسلسلة لا آخر لها من التهديدات الامريكية والأوروبية، التي صدرت عن أكبر المسؤولين في واشنطن ولندن وباريس وبروكسل. هدد الفلسطينيون بلغة لا لبس فيها بأنهم سيدفعون ثمناً باهظاً إن منحوا حماس الأكثرية البرلمانية، كما هددوا بأن حكومة تقودها حماس لن تؤدي إلا إلي قطع علاقاتهم بالمجتمع الدولي، وحرمانهم من المساعدات الخارجية. ولكن الفلسطينيين لم ينتخبوا حماس وحسب، بل وانتخبوها بأكثرية حاسمة أيضاً. هذا شعب صغير، يخوض صراعاً مريراً عالمي الأبعاد منذ قرن من الزمان، شعب توارث خبرة العالم جيلاً بعد جيل، لا يخيفه التهديد بالتجويع والإفقار، حتي إن جاء من الدول الكبري. هذا شعب لا يجب علي صديق أن يشفق علي، أو يخشي، خياراته.9