الشريط البوسني غربافيتشا يقارب محنة النساء المغتصبات والبريطاني الطريق الي غوانتانامو يثير السجالات ويهز الضمائر والإيراني أوف سايد يتهكم علي الرياضة والسياسة!
قراءة في أفلام الجوائز لمهرجان برلين السينمائي 2006 :زياد الخزاعيالشريط البوسني غربافيتشا يقارب محنة النساء المغتصبات والبريطاني الطريق الي غوانتانامو يثير السجالات ويهز الضمائر والإيراني أوف سايد يتهكم علي الرياضة والسياسة!افضل ما يفعله المرء في مهرجانات السينما الكبري مثل برلين ان يستأنس بالافلام وحكاياتها والق تأويلاتها الي حياتنا وبصائر مخرجيها وابداعات فنييها، اما الخضوع والسقوط في فخ المراهنات علي جوائزها، فهذا امر اوله تضييع الجهد والوقت وثانيه ـ وهو الاهم ـ الكشف عن خيانة الانطباع التي تتملك ايا كان من المهووسيين في المضاربة علي المنافسات الرسمية، وهؤلاء كثر ـ منهم عدد من الصحافيين العرب الذين لا يشطون عن هؤلاء المغامرين ـ اقول الانطباع وخيانته، لان من يستعجلون الحكم علي عدد من الاشرطة، ستخذلهم دوماً لجنة التحكيم، التي ستغلب مداولاتها علي الذوق العام او اجماعه فيما يخص شريطا ما، والخيانة التي اقصدها هنا هي اصرار هؤلاء علي التنطع برأي ما حول فيلم مالوا الي قصته او نجومه او تقنيته، اما المساجلة في ابعاده الايديولوجية او جدته (كما في حالة عشرة الايراني عباس كيارو ستامي، او ثلاثية الروسي اندره ساكاروف وتابعتها الفلك الروسي الذي صوره في لقطة واحدة ودفعة واحدة، او اضافاته المستحدثة لصنعة السينما، فهذه ليست في وارد المماحكة او المقايضة.هذا ما حدث في الدورة 56 لمهرجان برلين السينمائي الذي اختتم ايامه واعلن جوائزه يوم السبت الماضي، لتفجر لجنة تحكيمه (برئاسة الممثلة البريطانية شارلوت رامبلينغ) مفاجأتها الجميلة التي ازاحت مراهنات كثيرين علي شريط الامريكي المخضرم روبرت ألتمان دليل المرج المحلي اولا، ومن بعده النص الصادم للبريطاني مايكل وينتربتوم الطريق الي غوانتانامو ، فقد كرمت هذه الدورة شريطا صغيراً بميزانيته، كبيرا بمنحاه الانساني والوجداني هو باكورة المخرجة البوسنية ياسميلا زبانيتش غربافيتشا الذي قارب موضوعا سياسيا واخلاقيا تحاول اوروبا اليوم غض النظر عنه: مأساة النساء المغتصبات اثناء حرب البلقان. ولئن تفاجأ كثيرون ممن حضروا حفل الختام، فمن المؤكد تماما ان زبانيتش كانت اكثرهم تعجبا، اذ ان شريطها لم يلق استحسانا نقديا (لاعتبارات سياسية بالدرجة الاولي) وكانت ردود الفعل بعد العرض الصحافي باردة نوعا ما. فقضية من هذا العيار تحتاج الي عقل كبير وشجاع كي يعلن موقفه الشخصي الحاسم ضد جريمة لا تغتفر، لذا فما اقدمت عليه هذه المخرجة الشابة (ولدت في سراييفو عام 1974، ودرست في اكاديمية الفنون في العاصمة قبل ان تتوجه الي الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب وتقدم هناك اول افلامها سيرة عام 1995) كان امرا متوقعا. استغلت الحفل الباذخ ورفعت دبها الذهبي يزهو لتوجه شيمه الي اوروبا قائلة الحرب في البوسنة انتهت منذ 13 عاما، لكن رادوفان كراديتش وراتكو مالاديتش ما زالا حرين طليقين في اوروبا. انهما متهمان بتنظيم عمليات اغتصاب جماعية لـ20 الف امرأة خلال الحرب، وما من احد في اوروبا يسعي الي القاء القبض عليهما ومحاكمتهما! .هذا الاعلان السياسي والاتهام المباشر يستكمل ما ارادته دراميا في شريطها الروائي الاول، فإن كان العشرات من مجرمي الحرب يعيشون احرارا، فان ضحاياهم يعانون من وجعين: عارهم الشخصي، ومحنتهم في التأقلم مع الاخرين، وهذه هي قضية بطلة غربافيتشا الام اسماء (اداء متقن من الممثلة ماريانا كارانوفيتش التي عرفت عالميا من خلال تعاملها مع المخرج اليوغوسلافي امير كوستاريتسا في حين ذهب ابي في رحلة عمل عام 1985 و تحت الارض 1995) التي تواجه الحاح ابنتها سارة (12 عاما) في الحصول علي شهادة رسمية تثبت ان والدها شهيد حرب كي يتسني لها المشاركة في رحلة مدرسية مجانية، ترفض الام الاستجابة وتسعي الي تأمين المبلغ اللازم، في صراع واصرار شخصيين، غير انها تواجه احباطا متتاليا، عملها كخياطة لا يؤمن شيئا، رفيقاتها العاملات لا يجمعن سوي مبلغ زهيد، قريبتها الميسورة ترفض اعانتها، مسوؤلة المنح الحكومية تعتذر عن تقديم قرض كبير لان هذا المال اوروبي! وامام هذه الخسارات لا يبدو امامها سوي الترجي للعمل كنادلة في مقصف ليلي.ومع اقتراب موعد الرحلة، تتحول الصبية سارة (اول دور للموهوبة لونا ميجوفيتش) الي وحش صغير، تهين من يقترب من دائرتها الصغيرة (اولهم صديقة والدتها المقربة التي ستعتني بها اثناء عمل اسماء الليلي)، وتدخل في معركة جسدية مع الصبي سمير لانه عيرها بانها ليست ابنة شهيد، قبل ان تتحول العداوة الي علاقة حب، يقضيان اوقاتهما في عزلة بين ضرائب عمارات خط التماس.لا تكشف المخرجة زبانيتش عن سر اسماء بسهولة، سنراها تحضر حلقات البوح النسائية التي تنظمها مؤسسات اوروبية لمساعدة نساء البوسنة في تجاوز محن الحرب، لكنها تبقي سلبية، صامتة، ترغم نفسها علي دفن مشاعرها، انها ليست امرأة او اماً سيئة، بل علي العكس فان حنينها علي وليدتها يأخذ مساحة جيدة خلال الفيلم، بيد ان الطلب المعضلة سيوصل الامور الي نقطة التجاوز الخطرة، حينما توجه الصبية الرعناء مسدس صديقها في وجه والدتها، في محاولة يائسة لدفع الام الي تأمين الشهادة. هنا سترفع المخرجة زبانيتش ستار العار عن محنة اسماء التي ستنهال علي ابنتها ضربا وهي تصرخ بانها ليست ابنة شهيد، بل مخلوق نطفة بخسة لعملية اغتصاب تعرضت لها، رفضت اجهاضه، لان قتل النفس اكثر جريمة من اغتصابها .هذا الاعتراف سيمهد لسارة التحول الي كائن اخر، فلا حيلة تخفي اصلها الشنيع، وتعمد الي اعلانه عبر حلاقة شعر رأسها قبل ان يتحقق لها المشاركة في تلك الرحلة المدرسية. غربافيتشا شريط مباشر، ذو سردية تقليدية، وتنميط مبسط لشخصياته، وخيط واحد في دراميته التي قد يجدها البعض نقصه الكبير، فما عدا التصعيد بين اسماء وسارة ليست هناك قفزات درامية معتبرة، بل ترتيب ذكي لحكاية وجع شخصي واثم تحاول اسماء اخفاءه من دون نجاح. والفيلم ليس فقط مداورة فنية حول موضوعة البطلة بل الحي الذي وقعت فيه الجريمة هذه، فـ غربافيتشا هو اسم الحي الشهيد الذي يحاذي خط التماس، وحولته القوات الصربية الي معسكر ضخم تتم فيه عمليات التعذيب والاغتصاب، مستفيدة في بناياته ذات التصاميم المعمارية الاشتراكية المتقشفة كمراكز لتلك الجرائم.من هنا سنفهم اصرار المخرجة زبانيتش علي ان تتجول كاميراتها في شوارع هذا الحي، فحكاية اسماء (وامثالها بعشرات الاف) لا يفهم رعبها الا من خلال تاريخ هذه التبعة التي تعني المرأة ذات الحدبة ، فالمشاهد الخارجية التي تصور يوميات عادية، هي في الواقع تسجيل صوري توثيقي الي عزوم الناس في التأقلم مع تاريخ دموي جري علي هذه الارض. يعيدون بناء ما تخرب، ويزرعون ما داسته جنازير دبابات الصرب، ويرقبون ابناء ولدتهم الحرب وخطفتهم اغراءات الحداثة الاوروبية.مشاهد المنافسات بين طلاب مدرسة سارة حول اجهزة الهاتف النقال، الاعوان الجدد مافيا ما بعد الحرب التي وجدت عمقا اوروبيا غير مسبوق لعملياتها، واولها الدعارة وتجارتها، خصوصا مشاهد المقصف الليلي حيث تعمل اسماء. شريط زبانيتش يفتح جرحا اجتماعيا واخلاقيا من دون ان ينطق بكلمة سياسية واحدة، انه نص ناصع عن يوميات عار شخصي ينتظر الفرصة كي يتهم ويقتص.السمعة السياسية سبقت عروض المخرج البريطاني مايكل ونتربتوم وجديده (بالاشتراك مع مات وتيكروس) الطريق الي غوانتانامو الذي حصد دبا فضيا لافضل اخراج، فما تسرب عنه موضوعه واستهدافه المباشر للمعتقل الامريكي سيء الصيت، حرض الفريقين في برلين علي اشهار اسلحتها الاعلامية، اولئك الذين وجدوا فيه درسا سينمائيا يتوجب علي الصناعة الاوروبية دعمه وتكريسه كتيار مضاد للخطابات الرسمية التي بررت الحروب باسم الارهاب، واخري تنمرت في موقفها ضد ما اسمته استغلال احداث سياسية محرجة لتسليمه سينمائياً . وكشريط تحريضي فان الطريق الي غوانتانامو يساير الموقفين، ليس لارضائهما، بل لان استهدافه للمشاهد التلفزيوني (انتجته القناة الرابعة التجارية البريطانية وستبثه يوم التاسع من اذار ـ مارس المقبل) هو اساس صنعته وانتاجه.وهو يستكمل سلسلة من الافلام في هذا الاطار مثل خلية هامبورغ قبل عامين، و ياسمين العام الماضي وقاربا: للاول تشكل خلية محمد عطا مثل هجمات ايلول وللثاني معاناة شابة مسلمة في شمال بريطانيا واستهدافها عنصريا بعد تلك الهجمات. في جديد ونتربتوم الذي يعود به الي البقعة التي صور فيها احد افلامه في هذا العالم الذي حصل علي الدب الذهبي في عام 2003، يجتهد في تقديم قراءة تسعي الي مطابقة وقائع اعتقال ثلاثة شبان بريطانيين من اصل باكستاني عبروا الحدود نحو العمق الافغاني لحضور حفل زفاف لينتهوا في غوانتانامو بتهمة الارهاب!وكي ينأي ونتربتوم بفيلمه عن التصور (او الموقف) المسبق لنصه، فقد عمد الي مزاوجة الدرامي مع الوثائقي، مداخلا بين الشهادة التلفزيونية (المؤتمر الصحافي للرئيس الامريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، حيث ينعت الاول طالبان بانهم اناس شريرون ) واعادة البناء الدرامي ليوميات التحقيقات المضنية والطويلة في كابول وقندهار واخيرا غوانتانامو، قبل اطلاق سراحهم بعد عامين من الاعتقال، وعلي المنوال ذاته اعاد هذا المخرج المجتهد (فيلم كل عام) تصوير رحلتهم الاولي من مدينة تبتون البريطانية ووصولهم الي قندوز الافغانية حيث حاصرتهم قوات المارينز، وسلمتهم الي قوات التحالف الافغاني التي صنفتهم حسب مللهم واصولهم العشائرية. بدا جليا سعي ونتربتوم وزميله الي الوصول الي سرد اكبر قدر من حكايات هؤلاء الشبان (انطلاقا من شهاداتهم الشخصية)، فعبرها سيعي مشاعدة ان ما جري ما زال هو اكثر مما نعتقد من تجاوزات واهانات وتصفيات مجانية، وكان من حسن حظ هؤلاء الثلاثة ان بقوا علي قيد الحياة كي يروا اهوالا تكرر حدوثها لاحقا باكثر اشكال المرارة والبشاعة في العراق.يقرر آسف اقبال التوجه الي باكستان بعد ان اخبرته والدته بحصولها علي موافقة عائلة معروفة علي زواجه من ابنتها، يدعو هذا الشاب البالغ من العمر التاسعة عشرة رفاقه راهول احمد (19 سنة) وشفيق رسول (23 عاما) ومنير علي (22 عاما)0 لمرافقته علي ان يلتقوا في كراتشي، وفيها زاروا مسجدا دعاهم امامه الي التطوع للعمل الانساني ومساعدة اللاجئين عند الحدود مع افغانستان، لم تنته رحلتهم الي المخيمات، بل وجدوا انفسهم، ضمن الفوضي، والمعارك في قندهار مع اولي موجات القصف الامريكي، بعد هذا تحولت سفرتهم الي كابوس دموي في تفادي الموت الي السعي في الوصول الي باكستان، مرورا بالاعتقال الافغاني ومن ثم الامريكي، وانتهاء بالسجن الكوبي وجلسات تعذيبه، قبل ان تصل احوالهم الي نقطة قريبة من الانهيار مع اصرارهم علي براءتهم من تهمة الارهاب، واطلاق سراحهم لاحقا وعودتهم الي بريطانيا. في المشهد الختامي يعود الجميع (ما عدا منير الذي ضاعت اخباره وقيل انه قتل) الي باكستان كي يستكملوا الزيجة التي قادتهم الي مغامرة لم تكن في الحسبان.اذا قيل ان المخرج ونتربتوم وصاحبه لم يستفيدا من الحملة الاعلامية الدولية ضد غوانتانامو، فهذه سذاجة، فاغراء انجاز فيلم عنه، وبهذه السرعة، لا يمكن انكاره، فجميع العناصر الدرامية متوفرة فيه، والموقف السياسي معلن وساطع، وسوق العروض متعطش الي اي شريط يسرد محنة ما في الحكاية الطويلة للارهاب (الاعلامي المصري عماد الدين اديب اعلن في مؤتمر صحافي عقده في برلين بعيد عرض اول انتاجاته الضخمة عمارة يعقوبيان اخراج روان حامد، ان شركته خصصت مبالغ معتبرة من ملايين عدة في الدولارات لانتاج شريط روائي مصري عن القاعدة انه الطريق الي غوانتانامو فعل لبرلين مثلما فعل شريط الامريكي مايكل مور فهرنهايت 11/9 لمهرجان كان، اذ اجتمعا علي اثارة اكبر قدر من ردود الافعال، وحدث ان المضاربين علي تخمين الجوائز اجمعوا في الحالتين علي انهما سيفوزان بجائزة اولي، وتحقق ما حدث هذه المرة، ليس لانهم محظوظون، بل لان الفيلم السياسي ـ بصيغته التلفزيونية المستحدثة ـ له وقع علي ضمائر الجميع نقادا او اعضاء لجان تحكيم. يؤسس الطريق الي غوانتانامو صبغة هجينة من العمل السينمائي والتلفزيوني، وهي احدي مآثر هذا الفنان الشاب (ولد في بلاكبول عام 1961، عمل اولا في التلفزيون منذ 1988، وقدم اول اعماله السينمائية قبلة الفراشة عام 1994، وانتظر حتي عام 1997 ليحقق شهرته الدولية مع مرحبا بكم في سراييفو ، فمن اعتماده علي كاميرا الديجيتال الي العمل مع نجوم معروفين ومثلهم مدراء تصوير وتقنيين وحرفيين، كان علي ونتربتوم المواءمة. بين صنعتين فنيتين، تكاد مساحة اللعب التقنية بينهما تتلاشي حقبة بعد اخري، فالتلفزيون ليس سينما وبالعكس، بيد ان الحرية التي امنتها الكاميرا الخفيفة الثورية، مهدت له ولجيل كامل في اوروبا (خصوصاً الدوغما 95) المغامرة في تصوير السينما بلغة التلفزيون وخطابه المباشر، و الطريق الي غوانتانامو يمثل احد رموز هذه السينما الجديدة التي تبدو أنها ولدت من دون اسم او شهادة ميلاد سوي ارتباطها السري بالحكايات المسيسة ذات الطعم التحريضي الجماعي. وحكاية الشباب البريطانيين في فيلم ونتربتوم لا يمكن عقلنتها بشريط سينمائي تقليدي (علي شاكله افلام ستيفن سبيلبيرغ الدعائية) وافتراض انه سيتحكم بالقناعة العامة لمشاهديه بانهم يرون نصا واقعيا في حدث واقعي، فما قدمه ونتربتوم وزميله هو الصيغة المثلي والفاعلة لسرد وقائع آنية واحداث تحمل بصمات الجريمة الدولية (مثل المشهد المخزي للشاحنة المغلقة التي اقدمت قوات الجنرال روستم علي دفع رهائنها داخلها واحكامها في درجة حرارة قيظ عالية ونقلهم الي معسكر بعيد، ليشهد تاريخ افغانستان احد اكبر مجازره، او مشهد اعتداء جندي امريكي علي نسخة القرآن الكريم ودوسها بجزمته، اضافة الي عمليات التعذيب الجسدي والمعتقلات الانفرادية والضغط النفسي الذي يمارس في معتقل غوانتانامو). لقد تعززت الصراحة السياسية لشريط ونتربتوم مع دخول الامم المتحدة علي خط الدعوات الدولية المطالبة باغلاق المعتقل واطلاق سراح رهائنه او تقديمهم الي محاكمة دولية لمعرفة البريء منهم او المتهم، وجاءت تصريحات الأمين العام كوفي عنان بشأن مستقبل المعسكر اثناء انعقاد مهرجان برلين دعماً اعلاميا هائلا لشريط الطريق الي غوانتانامو وحول الي عنوان نقاشات وسجالات في اروقته الكثيرة.سياسة ايرانية وكرة قدمغاب المخرج الايراني جعفر بناهي ثلاثة اعوام (منذ شريطه ذهب قرمزي 2003) ليعود بفيلم كوميدي غريب المنحي والخطاب، فبعد دراما بطلته الصغيرة في البالون الابيض (1995) ومحنتها في لفت انتباه الكبار برغبتها في تملك سمكة زينة يوم رأس السنة الايرانية، ومن ثم الحياة العصيبة التي تعيشها البطلة اليافعة في الدائرة بعد هروبها من قسوة العائلة، الي القدر الدموي الذي سيقود بطله البدين في ذهب قرمزي بعد فشل محاولته سرق محل لبيع المجوهرات حيث يقتل مالكه وينتحر، يشاكس بناهي في جديده أوف سايد موضوعا مزدوجا، بروح سينمائية حيوية، شبابية، صورها بنفس وثائقي لاهث سريع الايقاع، كان كافيا الي اقناع لجنة التحكيم بتكريمه بدب فضي (مشاركة مع الفيلم الدنماركي صابونه للمخرجة بيرنيل فيش كريستينسن). قلت مزدوجا ، لان نباهي اختار الرياضة (وتحديدا كرة القدم) كبطلة جديدة، تلك الظاهرة الاجتماعية المؤخرة علي القطاعات الشبابية في كل العالم ومنها ايران، ليرصد التعاطي الشعبي مع يوم حاسم في تاريخ كرة قدم بلاده، حيث يواجه المنتخب القومي الايراني نظيره البحريني علي ارض ملعب آزادي وسط طهران والتي ستحسم ترشيحات المونديال المقبل في المانيا.اما شريك الرياضة عند نباهي، فهي ليست المجاميع الهادرة في الشباب الايراني التي يجب عليها الدفاع عن الشرف الكروي، بل ست فتيات يانعات، تملكهن شغفهن بالرياضة الاثيرة ومعها الفورة الوطنية ان يتنكرن بثياب فتيان ليندسن بين المجاميع، علي امل اختراق حواجز الأمن والشرطة والجيش التي كلفت عناصرها اصطياد اي منهن. فالقانون صريح وحازم: لا تقتربن من الملاعب! المدرجات للشباب وشاشات التلفزيون للشابات.بناهي لن يدخلنا الملعب الا في الدقائق الاخيرة، فهمه ليس المباراة، بل المنابزة الاجتماعية والاخلاقية التي تمثلها الشابات اللائي ارتدين ملابس رجالية واسعة علي اجسادهن النحيلة ومنهن من صبغن وجوههن بالوان العلم الوطني في محاولة تخفٍ فاشلة، واحداهن تنكرت بملابس جندي مكلف قبل ان يكشف امرها!! هؤلاء الوجوه النسوية سيعتقلن في موقع مفتوح عند الحائط الخارجي للمدرجات، يسمعن الهدير، ويفشلن في اقناع حراسهن الشباب بغض الطرف عنهن كي يتابعن فريقهن الوطني. الجندي المسؤول القادم من تبريز يبرر تزمته وعناده بخوفه علي تسريحه حيث اشتاق الي بقرته! وهو الاعتراف الذي سيدفع باكثرهن ذكاء الي العودة ثانية الي المعتقل بعد تمكنها من الهروب عبر مراحيض الملعب (!!) وتقول: عدت بسبب بقرته المسكينة، فمن سيرعاها! .خلال الـ88 دقيقة مدة الفيلم يصرف نباهي ثلثيها في تقديم شخصيات ثانوية ترسم في مجموعها الدرامي صورة كوميديا سوداء عن ضغط السياسي وقراره علي فئة من الشارع الايراني، وهو بذلك يستعرض حالات انسانية اكثر منه اتهاما لموقف حكومي او رسمي، فالقانون في اوف سايد لا يناقش الا علي لسان شابة مسترجلة لا تخيفها صرخات الجندي التبريزي ونهره الدائم لها بعدم التدخين هذه هي حريتي تصرخ جواباً، وتجادله حول موضوعة استحرام الاختلاط بين الذكور والنساء وتذكر ان السلطات سمحت للشخصيات اليابانيات بدخول الملعب ورفضت دخول الايرانيات، فيجيب حائرا بانهن اجنبيات لا احد يهتم بهن (!) وعلي سذاجة الحوارات وموضوعاته، فان بناهي جعل من شعبية اصول بطلاته عنوانا سياسيا، انهن هنا لشغفهن لا لكسرهن القانون، لا لسعيهن الي مشاكسة السلطة او النظام، المشكلة من يفهم دوافعهن ونصاعتهن.في المشاهد الاخيرة حيث ينقل بحافلة عسكرية الي معتقل علي الطرف الثاني من المدينة، تأتي الاخبار بالحدث السعيد: فوز ايران علي البحرين وتأهلها الي كأس المانيا، تنقلب شوارع طهران الي طوفان من الفرحة والازدحام والتهاني و.. الفرصة الطبيعية لانسلالهن بين الجموع، فتهمة اختراق الموانع الصغيرة ستغفر بسرعة عبر الانتصار الجماعي (الرياضة مقابل السياسة الخطاب الرسمي يقول ان ايران تنتصر دوما علي الجبهتين)، وهذا الاخير سيبرر اختيار بناهي الي اغنية وطنية ألفها شاعر ضد الاجانب الذين ينهبون خيرات بلاده كاتبا عن ايران وشعبها وليس عن السلطة التي تحكمهما حسب تصريح بناهي.يكاد شريط اوف سايد ان يكون تسجيلي الطابع، الكاميرا المحمولة تتواجد في كل مكان، وتصور كل الوجوه، انها نحن بالصيغة الأكثر تقليدية لمفهوم الرؤية والمشاهدة والبصر، علينا ان نجمع كل الحكايات والحوارات والاحداث، ففي مباراة تجمع عشرات الالاف لا يمكن للمرء سوي ان يستأنس بكاميرا بناهي الحاذقة (ومدير التصوير محمود كلاري) التي ستفلح هذه المرة بست سرديات تغلب الرياضة علي السياسة من دون ان تغفل فساد النفوس والاعيبها كوسيلة لمواجهة العوز سواء ماديا كان ام جنسيا، ففي اوف سايد الكثير من الاشارات الذكية علي هذه الحاجة بين الشباب، فأول لقطاته هي فضول شاب لكشف هوية احد اقرانه ممن انعزل في كرسيه، متخفياً بشكل مثير للارتياب ليكتشف انها فتاة، ومع اصراره علي مشاكستها، تهمد همته حينما تواجهها بشجاعة لم يمتلكها انها جاءت لتري المباراة وعليه ان لا يفسر مسعاها، هنا يتحول الشاب الدنيء الي بطل صغير يعدها بالمساعدة، من دون ان نراه لاحقا فقد بلعته الجموع وشغف اللعبة الساحرة!ناقد من العراق يقيم في لندن0