الساحة اللبنانية… مفارقاتها وتوقعاتها

حجم الخط
0

الساحة اللبنانية… مفارقاتها وتوقعاتها

د. عصام نعمانالساحة اللبنانية… مفارقاتها وتوقعاتهالبنان إسم مكان. انه ليس دولة أو وطناً. الدولة كيان سياسي وقانوني يقوم علي إقليم وشعب وسلطة ذات سيادة. الإقليم مختلفٌ بين اللبنانيين علي رقعته ومساحته وحدوده. الشعب فيه شعوب بمعني طوائف متنافسة، متناحرة، وأحياناً كثيرة متقاتلة. السلطة فيه سلطات: ثلاث، نظرياً، بحكم الدستور، وثماني عشرة، عمليـاً، بحكم التعددية الطائفية. وهي سلطة ضعيفة السيادة علـــــي مكوّناتها (الطوائف) في الداخل، فاقدة لها أحياناً كثيرة حيال الدول المجاورة لها في الخارج الإقليمي والدولي.الدولة هي التي تصنع الوطن. بمعني أنها تحوّل الإقليم، بما هو رقعـة أرضٍ، بيتاً آمناً ودافئاً للعيش والسكن، وقيمةً معنوية تستحق الحماية والتضحية من أجل بقائها ونمائها. بغياب الدولة يغيب الوطن، إذ يتحوّل الإقليم موطنا أو مسكنا لإقامة مؤقتة أو غير مستقرة، يحكمها عقـد إيجار ذو بنود غير متوازنة تكون، غالباً، في مصلحة مالكٍ يملكه مالك السلطة، الذي يتحكم بالعباد وبما يتيسر له من مساحة البلاد.لبنان، إذاً، ليس دولة. إنه، سياسيا، نظام أو آلية لتوزع السلطة والمغانم والنفـوذ علي متزعمي الطوائف والجماعات والهيئات والمصالح المتفرعة عنها. وهو، جغرافيا، ساحة وسوق وسبيل: ساحة لممارسة القوة والنفوذ، وسوق للبيع والشراء والسمسرة والرهن والإرتهان، وسبيل بمعني مَعْبرَ للقريب والغريب، والمقيم والمغترب، والسائح والمقامر، والمفكر والمتاجر، والسياسي والمقاول.غير أن للبنان، بمواصفاته تلك، جانبا مضيئاً وماتعا. إنه الجانب المترع بحريّة نسبية لا تقع علي مثلها في دنيا العرب، وبثقافة بل ثقافات ثرّة تجعله في حال تواصلٍ وتفاعل مع محيطه القومي والعالم الأوسع. الحرية والثقافة توأمان، وهما اللتان تعطيان لبنان سحراً ونكهة رغم كل ما يعتوره من عيوب وما ينتابه من اضطراب.إزاء هذه الخلفية يمكننا الإستدلال علي ما يجري في لبنان في هذه المرحلة التي بدأت ظهر يوم 14 شباط/ فبراير 2005 ولمّا تنتهي بعد.إنه تاريخ إغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق الذي كان، دونما مبالغة، ماليء الدنيا وشاغل الناس في حياته وبعد مماته.أن يبقي الحريري شاغل الناس بعد مماته هي إحدي المفارقات التي تضج بها حاضر لبنان وربمـا مستقبله أيضا. أليس مفارقة، مثلا، أن يصبح الرجل أكثر شعبيةً، بما لا يقاس، بعد الموت مما كان عليه في الحياة؟في حياته، لم يكن الحريري زعيما لبنانيا، بمعني شمول زعامته كل الطوائف والجماعات والأوساط. بعد إغتياله، أصبحت شعبيته شاملة، جامعة، ومتوقدة، تسهم فيها كل الطوائف ولو بمقادير متفاوتة. إنها الشعبية الوطنية، أي الشمولية، ذات الدلالات السياسية اللافتة.من هذه الدلالات مفارقة أخري هي ان إرثه الشعبي والسياسي لا ينحصر في فرد أو حزب أو طائفة، بل يدّعي أفراد وأفرقاء كثر ان لهم فيه حصة ونصيباً. إبنه سعد الدين قد يكون صاحب الحصة الكبري علي صعيد أهل السنّة والجماعة، لكن أحداً لا يعترف له بهذه الصفة في الطوائف الأخري. ثمة زعماء أو متزعمون غيره في جميع الطوائف يدّعون ان لهم فيه حصة وازنة، يحاولون عبر تذكير الناس بها ان يزيدوا حصتهم من كعكة السلطة والنفوذ في لبنان بما هو ساحة وسوق وسبيل.ومن مفارقات الساحة اللبنانية هذه الأيام ان السياسيين من ورثة الحريري كانوا من أبرز شركاء الجهة المتهمة بإغتياله. ذلك أن كلهم أو معظمهم إستظلوا سقف سورية في لبنان وأكلوا علي موائدها وشربوا من مناهلها الشرعية وغير الشرعية، وباتوا اليوم من أعدي أعدائها، وبعضهم لا يتواني عن الدعوة إلي تغيير نظامها حتي لو إقتضي الأمر إحتلالها علي غرار ما حدث في العراق.ليست آخر المفارقات التي ضج بها لبنان أن التظاهرة التي ملأت ساحة الشهداء في بيروت في ذكري مرور سنة علي غياب الحريري تمّت تحت شعار الوفاء للحريري والولاء للبنان . الحقيقة ان الوفاء للحريري كان بارزاً، حاراً، ولافتاً، أما الولاء للبنان فكان جزئياً وظرفيا. ذلك ان زعماء الجماهير المحتشدة كانوا موالين للبنان بقدْر ما يريدونه معاديا لسورية ليس إلاّ. الولاء للبنان نفسه كان غائباً لأن لبنان الوطن كان غائبا، ولبنان الدولة كان منتهكاً ومستلباً. وعندما يكون الوطن غائبا والدولة مستلبـة فإن الولاء يكون ظاهراً للطائفة وباطناً للمصالح السياسية والشخصية. وما ينطبق علي معظم أركان تظاهرة 14 شباط / فبراير ينطبق أيضاً علي معظم أركان الجماعات الأخري.هل يمكن الخروج من لبنان الساحة إلي لبنان الدولة والوطن؟ وما هي التوقعات والإحتمالات؟الآمال محدودة. ذلك ان القوي المتصارعة متعددة ومتناحرة، والمصالح السياسية طاغية علي الطموحات الوطنية المشروعة، والشكوك والأحقاد مقدّمَة علي النيات الحسنة والارادات الطيبة، والتدخلات الأجنبية متواترة ومتوافرة. كل من القوي الرئيسية يريد التسوية علي شروطه، هذا إن كان ما يبتغيه تسوية وليس فرض إرادة سياسية كاملة. ثم إن الساحة تفتقد تيارا أو حزبا أو جبهة وطنية قوية، عريضة، متعددة الإنتماءات الفئوية، وذات برنامج أو رؤية معبّرة عن طموحات أكثرية اللبنانيين.حدث مؤخرا ان تلاقي اكبر تيارين سياسيين ـ حزب الله والمقاومـة الإسلامية من جهة و التيار الوطني الحر بقيادة العماد ميشال عون صاحب الأكثرية بين النواب المسيحيين الموارنة من جهة أخري ـ علي ورقة عمل مشتركة تشكّل بداية تفاهم مفتوح علي القوي الأخري القريبة في رؤاها وبرامجها. لكن ردة فعل القوي الحريرية علي الحدث جاء فاتراً ثم تحوّل سلبياً.يتردد ان مبادرة السعودية ومصر ستأخذ طريقها إلي الساحة اللبنانية قريبا، وان الولايات المتحدة لا تعارضها إذا كان من شأنها تخفيف حدّة التوتر بين بيروت ودمشق ووقف ما تسميه تدخلاً سورياً في شؤون لبنان الداخلية وعرقلة التحقيق في جريمة إغتيال الحريري. وثمة من يعتقد أن الأمر يتجاوز هذا الحدّ إلي تفاهم واشنطن والرياض علي خطة ترمي إلي دفع سعد الدين الحريري إلي الإقتراب من محور حسن نصرالله ـ ميشال عون لإيجاد قاعدة ثلاثية سياسية للنظام السياسي البديل من النظام الذي إنهار مع إخراج سورية من لبنان. ويري أصحاب هذا الرأي أن من شأن هذا الثالوث السياسي تهدئة المشهد اللبناني والتأسيس لدفع حزب الله تدريجيا إلي التحول حزباً سياسياً والإندماج عسكرياً في الجيش اللبناني.غير أن مراقبين آخريـن للمشهـد اللبنانـي المضطرب يحذّرون مــــن بساطة السيناريو الأول ويرجحون سيناريو آخر. فهم يتوقعون أن تتمسك إيران بخيارها الرامي إلي امتلاك قدرة نووية متقدمة الأمر الذي سيدفع الولايات المتحدة وإسرائيل إلي التفكير جدياً بإعتماد الخيار العسكري للحؤول بينها وبين امتلاك سلاح نووي. إن من شأن إعتماد الخيار العسكري ان يدفع أمريكا وإسرائيل للنظر إلي المشهد اللبناني من زاوية متطلبات معالجة المأزق العراقي والتحدي الإيراني. في هذا السياق، قد تتجه واشنطن إلي التشديد علي ضرورة تغيير سلوكية دمشق تغييراً جذرياً تحت طائلة تغيير النظام نفسه إذا أمكنها ذلك من اجل أن يكون لسورية دور في ترتيب الوضع العراقي. ولعل ذلك يتطلب، علي الصعيد اللبناني، تشديد الضغط علي حزب الله للتخلي عن سلاح المقاومة وعن دورها. وفي حال إمتناع حزب الله عن الإذعان لهذا المخطط، فإن أمريكا قد تقوم في إطار حلف الأطلسي بانزال قوة عسكرية علي طول طريق بيروت ـ دمشق ونشرها بين نقطة المصنع وراشيا في الجنوب الشرقي لقطع الإمداد اللوجستي عن حزب الله ومقاومته بغية تطويعه وحصـره بين فكّي كماشة: القوة الأطلسية في الشمال والجيش الإسرائيلي في الجنوب.بين السيناريو الأول والثاني ثمة مجال لسيناريو ثالث قوامه الضغط سياسيا لحمل الرئيس إميل لحود علي الإستقالة لتمكين حكم الاكثرية النيابيـة (الحريري وجنبلاط وجعجع) من تشديد قبضتها علي كل مرافـق الدولة وإخراج حزب الله من الحكومة وعزله سياسيا، ثم محاولة نشر الجيش اللبناني علي طول الحدود مع إسرائيل. إذا إمتثل حزب الله لهذه السياسـة تترسخ التهدئة، وإذا رفض ولجأ إلي السلاح لمنع إنتشار الجيش اللبناني فإنه يكون قد ضحّي بهويته ودوره كمقاومة وأضحي ميليشيا. وفي هذه الحال، فإنه يفقد الكثير من وهجه وقوته بل قد يفسح في المجال للتصدي له داخلياً وخارجياً من اجل تجريده من السلاح.هذه السيناريوهات ليس سهلة بطبيعة الحال. ذلك أن قدرة النظام السوري علي الصمود بل علي الإيذاء ليست بسيطة، كذلك الأمر بالنسبة إلي حزب الله. أخيراً وليس آخراً، فإن الولايات المتحدة نفسها قد تتردد كثيراً في إعتماد الخيار العسكري ضد إيران نظـراً لتكلفته العالية، سياسياً واقتصادياً، الأمر الذي يقللّ بدوره من إحتمال إعتماده نهجاً في لبنان قد يخالطه عنفٌ شديد.الصراع ما زال في بدايته.9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية