الرواية النبؤة التي سبقت الحرب: أنظروا إلى ما أدى إلى خراب ألمانيا!

حجم الخط
0

دون مقدّمات يبدأ إريش كستنر روايته، صمت ستعقبه حركات بسيطة في البداية، ثم تتهادى فاتحة الباب لإدخالنا إلى عالم الرواية. كستنر، أو بطله فابيان على الأصح، ذاك الذي، حتى في أول ظهور له، يبدو كأنه انتهى من فعل شيء وها هو يعود ليفعل شيئا آخر. رواية «فابيان» تبدأ من متنها، كأن هناك صفحات سبقت تلك البداية غفلنا عن قراءتها، وها إننا نبدأ من بعدها.
توّا إلى قلب الضجيج إذن، إلى المدينة بكامل حضورها وثقلها. تنقل لنا ذلك عناوين الأخبار التي تتتالى، العناوين فقط، يقرأها فابيان قبل أن يرمي الجريدة على الطاولة أمامه. لا يُحتمل العيش في برلين إذن. لا لأن خبرا ما واحدا ينذر بحدوث شيء، بل لأن حضور كل هذه المتفرّقات العادية على هذا النحو الفوضوي ينذر بأن العالم لن ينهض من جديد.
التعب بدأ منذ الصفحة الأولى إذن، بل منذ الفقرة الأولى في تلك الصفحة. رغم ذلك لن يتأخر بطلنا فابيان في الخروج إلى هذا العالم الذي كأنه لم يكن يعرفه. إلى ذاك المقهى الذي قادته الصدفة إليه ليجد أن كل شيء فيه غريب وغير مفهوم وغير معقول. النساء والرجال هنا يختلطون، أو يتنابذون، بما لم يسبق لأحد أن رأى. ثم حدث مع فابيان، وهو بعد هناك، أن ساقته امرأة إلى إحدى الغرف ليتبين له، بعد دقائق، أنهما ليسا بمفردهما. الذي لحق بهما كان زوجها، وقد تبعهما ليكون شاهدا موافقا على ما سيفعلانه، بناء على عقد اتفاق جرى بينه وبين زوجته. يرفض فابيان الاستمرار في ما جيء به ليفعله، بل إنه، منذ البداية، لم يكن راغبا في كل ما يحصل. لأنه رجل أخلاقي، كما يصف نفسه. الرواية متألفة من مشاهد، أو لوحات روائية متلاحقة لأمكنة يدخل إليها فابيان. حينا يكون ذلك علبة ليل، حينا يكون في صحيفة، وهي الصحيفة التي كان يعمل فيها مروّجا دعائيا، قبل أن يُطرد. بين الأماكن أيضا غرفته في البنسيون الذي تجري فيه غرائب المصادفات، الواقعية كلها. ثم هناك الشخصيات التي لا تقل غرابة. النساء أولا، ثم الرجال وبينهم مسؤول الجريدة الذي ينقل لفبيان، ضاحكا، خبر فصله من الجريدة. وكذلك العجوز المتشرّد الذي سنعلم بعد إيواء فابيان له في شقته، إنه أكثر مخترعي ألمانيا كفاءة وإنتاجا. وما تحرص الرواية على إظهاره هو شوارع برلين وساحاتها، حيث ستدوّخ كثرة أسمائها القارئ غير العارف بالمدينة. وفي سياق السرد المتّصل يستنتج القارئ أن الحرص على ذكر كل تلك الأمكنة بأسمائها، غايته التأكيد على أن لا مكان واحدا في برلين نجا من الاهتراء الذي، واقعيا، سيؤدي إلى وصول هتلر إلى السلطة بعد سنتين من صدور الرواية في 1931. نحن إذن في برلين المقبلة على ما ستنتهي إليه بعد سنوات من المخاض الكارثي الذي يصف الروائي تفاصيل مجالاته كلها. مدينة بلا أخلاق، حيث الفساد والكذب وفقدان المعايير وتحول البشر السريع والمفاجئ عما كانوه من قبل. والنساء على الأخص، أولئك اللواتي فقدن معرفتهن بكيف يكنّ حبيبات. من أُغرم بها فابيان، مصطفيا إياها من بين نساء ألمانيا جميعهن، سريعا ما اختطفها رجل أغراها بقدرته على الإفساد. أما صديق فابيان (لابوده) الأخلاقي مثله، فلم يعد يذهب إلى المدينة التي تقيم فيها حبيبته. ذاك أنها لم تجد ضيرا في خيانتها له، بل هي تعجّبت كيف يمكن أن يفكر أن مضاجعتها لرجل آخر، يمكن أن تقلّل من حبّها له.
فابيان إذن يعيش في عالم غريب لا يفهمه. الأشياء والأفكار والأحاسيس والعلاقات بين البشر لم تعد في مواضعها المفهومة هي أيضا. أبلغ ما يدلّ على تحلّل العالم نتيجة تلك التحولات، هو أن يؤدي ما ينبغي أن يكون سخيفا وعابرا إلى تراجيديا حارقة يموت فيها أشخاصن هم أولئك الذين تسعى الرواية إلى خلقهم أبطالا لها. لا قسوة يمكن أن تبلغ حدّ ما أوصلت إليه مزحة الموظف المساعد في الأكاديمية التي يسعى لابودة، البطل الثاني في الرواية، إلى أن يلتحق بها. أراد ذاك الموظف أن يمازحه فعمد إلى إبلاغه، أن بحثه رُفض من قبل الرئيس الذي كان اعتبر أن البحث الذي قرأه نابغ ويمثل فتحا في البحث العلمي. كان لابوده، أثناء تلقّيه الخبر الكاذب، الخبر المزحة، يعاني من صدمة خيانة حبيبته له، ومن شعوره بأن لم يعد من مكان له ليعيش، ثم جاءته المزحة التي قتلت طموحه، فأطلق النار على نفسه.
لم تختلف نهاية فابيان عما حصل لصديقه. كان يعاني من فقدان كل شيء هو أيضا قاطعا بمشيه التائه تلك الشوارع التي سبقت تسميتها في الرواية. فجأة شاهد فتى يقف على حافة الجسر متردّدا بين التراجع والقفز،. وإذ هوى الفتى بعد ذلك، وقفز فابيان لإنقاذه من مياه النهر الجارية، توقّفت الرواية معلنةً بأن الفتى سبح في اتجاه الضفّة، أما فابيان فغرق.

«فابيان- قصّة رجل أخلاقي» لإريش كستنر ترجمها عن الألمانية وعقّب عليها سمير جريس. الرواية صدرت عن دار الكرمة في 220 صفحة سنة 2024.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية