دعيت الأسبوع الماضي إلى لقاء في رواق جريدة «الدستور»، وهو رواق يُعنى بالأدب والفن، وسيدير اللقاء الناقد والمفكر يسري عبد الله. لم أتردد في القبول، لعلاقتي التي تكاد تكون تاريخية مع يسري عبد الله، وجدت فيها منه كل جميل، ليس معي فقط، لكن مع كثير من الكتّاب ومن كل الأجيال وحتى الآن. كان تقريبا هذا هو اللقاء الخامس أو السادس، الذي أوافق عليه خلال هذا العام، من بينها ثلاثة لقاءات بحضور يسري عبد الله، أحدها في أوبرا القاهرة، وكان المتحدثان فيه عن أعمالي هما يسري عبد الله والشاعر جمال القصاص، ثم منذ شهرين في صالون إدوار الخراط، الذي يديره إيهاب الخراط، وكان عن رواياتي وروايات المعلم إدوار الخراط، وكان أيضا يسري عبد الله متحدثا رئيسيا فيه، ثم هذا اللقاء.
هذا يوضح كم أنا مجذوب إليه فقليلا ما أقيم ندوات، ليس بسبب الصحة فقط وبعد سكني، لكن بسبب الاكتفاء بما مضى في حياتي من لقاءات، فقد انتهى الزمن الذي يكون فيه اللقاء طريقة ليكتب الناقد المشترك في اللقاء عن روايتك. لقد استقرت قناعتي منذ أكثر من عشرين سنة بأن علاقتي بالعالم هي أن أكتب روايتي، وما بعدها ليس من عملي. كان أكثر ما أثر في روحي في هذا اللقاء، إلى جانب الكلمات الجميلة التي افتتح بها يسري عبد الله الندوة، وما قاله الكثيرون عن رواياتي، هو فيض المحبة الدافق في كل حديث. المحبة لأعمالي أعرفها، لكن المحبة لشخصي، وذكريات كل من تحدث معي، في وقت أنساني العمر والتعب كل شيء.
كانوا يتحدثون عن هذه المحبة وتلك الذكريات، وأنا أقول لنفسي كيف نسيت كل هذه المواقف والأحداث، أبديت سعادتي ولم أترك لألم النسيان أن يمسك بي. كانت الأسئلة كثيرة، لكن سأختار سؤالا واحدا منها، وهو من أكثر الأسئلة التي تقال للكاتب، وأعني به ما هي الرواية التي لم تكتبها أو تتمني أن تكتبها. ليس لي أي تعليق على إجابات الآخرين. هناك إجابات مثل أن يتحدث الكاتب عن عمل يتمنى بالفعل كتابته. لكن السؤال يتسع ويصبح هل يكتب الكاتب بالفعل كل ما يتمناه؟ أقرأ حولي كتابات تتحدث مثلا عن أن الجوائز الأدبية رغم أهميتها، أحيانا تؤثر سلبا على كاتبها، فلا يتقدم في الكتابة أكثر. هذا رأي يحتاج إلى متابعة لست ممن يقومون بها للإنتاج الروائي المختلف، فأعداد الكتّاب مثل شلال ينحدر من فوق التلال، كما أني ككاتب مشغول كثيرا بما أكتب من روايات، رغم كتابتي للمقالات. قرأت متأخرا جدا كلمة لغابرييل غارسيا ماركيز، إن الحياة أضيق من أن يكتب الكاتب ما يريد. أعجبتني العبارة، ورأيت فيها إجابة على السؤال عن الرواية التي لم يكتبها أي كاتب.
قرأت ذلك متأخرا جدا كما قلت، ووجدته متسقا مع ما استقر في روحي، لكن في عالمنا هذا هناك شيء آخر استقر في روحي منذ وقت مبكر، وهو عدم الانشغال بما لم أكتبه ولا التفكير فيه، فما أكتبه وما نسميه وحيا أو إلهاما، وهو كذلك بالفعل، لا يأتي من فراغ، رغم ما يبدو أنه يأتي من السماء. هي رغبات مكبوتة في اللاشعور، وإهمالها قد يكون وراءه الانشغال عنها، أو أن موضوعها قد يثير القلق، وستأتي أيامه المناسبة في ما بعد، أو أحيانا قفلة الكاتب التي قد توقفه كثيرا أو قليلا من الوقت عن الكتابة. لذلك مثلا لم أجد إجابة قط عن سؤال يتكرر من الصحافيين، عن مشروعي الروائي.. دائما إجابتي إنه ليس لديّ مشروع، فأنا أكتب ما يلح على روحي لأن يخرج إلى النور، وقد يكون مختلفا في الطريقة والمكان والزمان عما قبله. ما جعلني لا أفكر في أي مشروع، هو أنني أعرف أن الكتابة تجليات للروح، مهما كان فيها من عقل يظهر في البناء الفني.
يوما ما في النصف الأول من الثمانينيات من القرن الماضي، قفزت إلى روحي، وأنا جالس في مقهى ريش، رغبة كبيرة شملتني، أن أكتب رواية عن رحلتي التي سبقت للعمل في المملكة العربية السعودية. ذهبت إلى البيت سعيدا أقول جاءت اللحظة التي انتظرها، وجلست أكتب، فوجدت نفسي أكتب في رواية «بيت الياسمين» التي صدرت عام 1985 وتأخرت «البلدة الأخرى» التي هي عن رحلة السعودية إلى 1990. حين كتبت «لا أحد ينام في الإسكندرية» استغرقت كتابتها ست سنوات ما بين عامي 1990-1996. لم أكن أفكر في كتابة الثلاثية عن الإسكندرية، ولم يكن هذا مشروعي الذي يشغلني، كانت تشغلني كتابة رواية تاريخية مختلفة عما هو شائع في كتابة هذا النوع، لم يكن بي ميل إلى الروايات التاريخية التي يمنح الكاتب شخصياتها، أفكارا سياسية من الحاضر، لكن كنت أحاول أن أمسك بروح ذلك العصر أثناء الحرب العالمية الثانية، وروح مدينتي الإسكندرية التي سمعت حكاياتها مع الحرب، ورأيت قليلا من آثارها في حكايات الأهل، بعد أن انتهيت من الرواية قفز إلى روحي سؤال كيف كانت الإسكندرية مدينة العالم وكيف تغيرت. هنا قفزت رواية «طيور العنبر» عما جرى في الخمسينيات والستينيات، من إجبار الجاليات الأجنبية على الخروج من المدينة، بسبب السياسة السائدة، فوجودهم مصدر تعدد للثقافات والأفكار، بينما العصر عصر الزعيم الأوحد، أو تحميل بعضهم أخطاء الدول الاستعمارية مثل إنكلترا وفرنسا وإسرائيل بعد العدوان الثلاثي عام 1956، أو ما فعلته المخابرات الإسرائيلية من تفجيرات في الإسكندرية والقاهرة عام 1954، وهو ما عرف بفضيحة لافون. كانت أكثر الجاليات وجودا هي الجاليات اليونانية والإيطالية والأرمنية والكردية واليهودية والشوام. دفع اليهود ثمن جرائم إسرائيل، وتم ظلمهم في ذلك، فأي إحصاء للمهاجرين منهم، يجد أن تسعين في المئة هاجروا، ليس إلى إسرائيل، لكن إلى أوروبا، ودفع الآخرون ثمنا لجرائم لم تقم بها بلدانهم الأصلية التي تركوها منذ عشرات السنين. لا أحد ينسى أثناء العدوان الثلاثي من تطوع من اليونانيين مثلا للأعمال الفدائية في بورسعيد. ودون الاستطراد في تفاصيل أكثر أعود إلى السؤال الأول عن الرواية التي لم أكتبها. تأخرت أربع سنوات في كتابة «طيور العنبر»، التي اعتبرتها الجزء الثاني لـ»لا أحد ينام في الإسكندرية» قائلا لنفسي، ماذا يحدث لو رحلت عن الدنيا دون أن تكتبها، هل سيتوقف العالم؟ وهل ستخسر الرواية العربية شيئا؟ هناك المئات يكتبون الروايات. لم أنشغل أبدا بالسؤال. بعد نشر الرواية التي هي عن المدينة، وكيف فقدت روحها الكوزموبوليتانية بتهجير الجاليات، وصارت مصرية كما قيل، قفزت فكرة الرواية الثالثة، وهي عن المدينة التي فقدت أيضا روحها المصرية، فلم تعد لا كوزموبوليتانية ولا مصرية، بل صارت سلفية وهابية متخلفة. كم عاما مضى قبل أن أنشر الجزء الثالث؟ ثلاثة عشر عاما. وكان السؤال أيضا ماذا سيحدث في الدنيا لو لم تكتبها.
كتبت خلال هذا السنوات روايات متعددة عن القاهرة التي قفزت إلى روحي، وكانت ثلاثون سنة تقريبا قد مضت على العيش فيها، ثم جاءت رواية «الإسكندرية في غيمة» عام 2013 لتنتهي الثلاثية. لو كان لديّ المشروع منذ البداية لما استغرقت الثلاثية ثمانية عشر عاما لتنتهي. هكذا كان شعاري، أو كان شعوري، أن لا شيء سيتغير في العالم، إذا لم تكتب الرواية التي تتمنى أن تكتبها.
أتلفت حولي وأتذكر ما يجري في الدنيا، وأعرف أن هناك مئات الأحداث والموضوعات تغري بالكتابة، لكن لم يحدث يوما أن كتبت في أي مفكرة كما يقول كثير من الكتاب، شيئا عن رغبتي في كتابة موضوع ما. مفكرتي هي اللاشعور أعرف أن فيه تستقر كل الأحلام التي انشغل عنها، وسيأتي يوم تطل عليّ تأخذني إلى عالمها شئت أم أبيت، ولن يفقد العالم شيئا إذا لم أكتب ما أتمنى.
كاتب مصري