الرحلة إلى الوطن الفلسطيني… أجيال قادت فلسطين بعد النكبة

وائل الحجار
حجم الخط
0

أنجبت النكبة جيلا من الفلسطينيين الذين تصدروا العمل السياسي والنضالي من أجل قضية شعبهم، وشكلت محطة مهمة في دفع الشخصيات والقوى إلى بلورة موقف وطني فلسطيني خرج من عباءة النظم السياسية العربية، ووصايتها، وما لبث أن شق طريقه عابرا الحركات والأحزاب العربية نحو إعلان هوية فلسطينية مستقلة بتعبيراتها الفكرية، والقانونية، والسياسية، والتنظيمية، والكفاحية.
ولئن كانت قيادة الفلسطينيين اليوم تقبل بحل الدولتين، ومعها طيف من الفصائل تجتمع على هذه الموافقة بدرجات من المضض، فيما يرفض الإسرائيليون قطعا هذا الحل، إلا أن حدث النكبة في الوعي الفلسطيني كمؤسس للسردية الوطنية بقي حاضرا بقوة.
هذا الوعي بالسردية، هو الذي يظهر في الأدب السياسي للفلسطينيين وفي مناهج التعليم، وفي التاريخ، وفي الشعر والرواية والسينما والمسرح وجلسات الأهل وفي كل مجالات الحياة الخاصة والعامة، ومقرون برفض الرواية الإسرائيلية بشكل كامل، خصوصا أن إسرائيل نفسها لم تقدم للفلسطينيين ما يساعدهم على نقاش جدي لفكرة التعايش.

من الوطن الأكبر إلى الوطن

لياسر عرفات سيرة ذاتية حذرة، السياسي فيها مقدم، والشخصي مبتعد عن الأضواء.
ولأن الكتابة، أو محاولة الكتابة، في ذكرى النكبة وعنها، من موقع صحافي، غير محايد، ولكن كذلك من أثر فردي وشخصي، لا يستحسن ربما الانسياق للعاطفة، أو لخلاصات سياسية غير وافية أصلا، باتجاه نكران أن شخصية عرفات ورفاقه المؤسسين لحركة التحرير الوطني الفلسطيني، كانت عنوان مرحلة، بعد النكبة وحتى اليوم.
لقد نَظرت الفصائل لنفسها، ونظّرت، بسرديّات قدّمت فيها مقاومة الاحتلال على كل ما عداه، وهذه السّرديات تعبّر عن فهم أبناء النكبة السياسيين والقادة، لأولوية الصراع في الرحلة إلى الوطن.
قبل عرفات وبعده كانت فلسطين. هذا ما سيجيبك به أي فلسطيني في منتصف العمر، أو حتى يافعا، وربما طفلا.. وطبعا مسنا.
وقبل النكبة وخلالها، قادت شخصيات فلسطين النضال الوطني، وفي مقدمتها رئيس اللجنة العربية العليا الحاج أمين الحسيني، الذي انبرى لإعلان تمثيل الصوت الفلسطيني مع الانتداب والحركة اليهودية الاستيطانية، والعرب، قبل أن يخوض تجربته المثيرة جدا للجدل مع النازيين، ثم يتمسك بموقف رافض للتقسيم ورافض لحلول مؤقتة، وليرتبط اسمه بكل إرث النكبة والهزيمة.
لكن فلسطين أصبحت أكثر مشروعا وطنيا خالصا مع عرفات وجماعته، هو المقترب من «الإخوان المسلمين» ورفاقه جاؤوا منهم، وفي الوقت نفسه من رحم التيارات الكبرى السائدة في الشعب الفلسطيني، من حزب البعث والتيار القومي، والشيوعيين الذين لعبوا أدوارا قيادية في «الإعلام الموحد».
فعكست «فتح» توحّد تيارات الشعب الفلسطيني في إطار مشروع مقاومة فلسطيني وطني، التي بادرت لإعلانها فلسطينيا مع العاصفة آخر عام 1964، وقبل ذلك، بعض مؤسسيها، وفي مقدمتهم خليل الوزير، ينفّذون شخصيا هجمات فدائية عبر الخطوط مع غزة، في الوقت الذي كانت فيه حركة القوميين العرب، ومجاميع الفدائيين، يطلقونها عربية.
ولم تكتف «فتح» بإعلان الرصاصة الأولى، سعت بكل ما أوتيها لتجمع الفلسطينيين في جبهة مشتركة للمقاومة، وقواعد حاضنة للمقاومة، وعبر أبو عمار إلى الضفة بعد نكسة 1967 لهذا الهدف بالذات.
وكانت معركة الكرامة عام 1968 محطة رمزية وعملية أعطت دافعا كبيرا للحركة، وجعلتها تتصدر حركة المقاومة، وتحتل موقعها في القيادة.
ويسجل لـ»فتح» معارك كثيرة خاضتها، لإبقاء القرار الفلسطيني ضمن البيت الفلسطيني، ودفعت أثمانا في علاقاتها مع النظم المحيطة للحفاظ على ما وصفته أدبيات الحركة بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل، وعنى هذا القرار أيضاً حرية المنظمة في خياراتها السياسية والتفاوضية.
وقادت «فتح» خطا استقلاليا في هذا، ولو عنى ذلك أن تكون «حماية الثورة» وأمنها في طليعة الأولويات أيضا مع صلاح خلف (أبو إياد)، الذي ارتبط اسمه كذلك، مع غيره من القادة، بملفات متصلة بمجابهة إسرائيل عبر العالم، فكانت «أيلول الأسود» ردا مزدوجا على حدث الصدام الدامي في الأردن، وعلى إيغال إسرائيل في تصفيتها القادة والمثقفين الفلسطينيين في مدن أوروبا، وتحت ناظر حكوماتها.
ومع «فتح» وفصائل المقاومة انتزعت منظمة التحرير من العرب والعالم شرعية تمثيل، وفكّت ارتباطا مع العرب الذي خسروا فلسطين في 48 و67، ونقلت الفلسطيني تحت الاحتلال من وضع «الرعية» عند نظم عربية، إلى وضع المواطن الفلسطيني، وإن من دون دولة، وكان للدبلوماسية الفلسطينية دور التوأم مع المقاومة مع فاروق القدومي (أبو اللطف).
خاضت الحركة معارك قاسية، دفاعاً عن الوجود الوطني الفلسطيني، وجمعت فصائل المقاومة تحت رايتها في تصدّ بطولي لحصار بيروت، سلّمت فيه المقاومة في النهاية مفاتيح العاصمة اللبنانية لأهلها، وليس للمحتل على أبوابها.
وكانت في صلب الانتفاضة الأولى مع بقية الفصائل، «لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة، صوت منظمة التحرير الفلسطينية».
ورفضت المنظمة الآتية مع «فتح» إلى السلطة الوطنية، التنازل عما أخذته بالتفاوض في التسعينيات من القرن الماضي، ودفعت ثمن ذلك.
وكل هذه الرواية لـ»فتح» عن نفسها لا تتناقض في الصميم مع الروايات الناقدة لها، بل تتكامل.

السّردية الواحدة

… وإذا سألت أحدا ما هي فلسطين، فيجيبك غالبا، ومن جميع الأعمار، «من البحر إلى النهر». ولكن، ستسمع كثيرا من الكلام عن و»لكن».
وعلى الرغم من أي اعتبار أملته الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير وإسرائيل، وما ترتب عنها، فإن أي تغيرات حقيقية لم يسع أبناء «فتح»، لا خلال حياة عرفات ولا بعده، إلى محوها قسرا في الضمير الفلسطيني، وفي مقدمة هذه، الإجابة على «ما هو الوطن».
فالوطن لا يزال هو، اللد وصفد ويافا، وحيفا وعكا والناصرة وأم الفحم وبئر السبع. فالحل السياسي شيء، والسردية شيء آخر لا يمكن محوه في المساحة الفلسطينية الراوية.
وتقترب الديمقراطيات الغربية اليوم من الفاشية في محاولتها تجريم مفهوم الوطن قسرا لدى الفلسطينيين، الذين حملوه طوال كفاح وطني قبل النكبة، وبعدها، وبمشروع وطني عنيد ملون، تارة بأعلام الفصائل، ومدعوما من طبقات الشعب المختلفة، ومرفودا بأطياف وأنواع من المناضلين، وبأبناء العائلات، كان اسمه «منظمة التحرير الفلسطينية»، التي انتقلت من كونها صناعة عربية رسمية، يقودها فلسطيني جدا جدا وكبير هو أحمد الشقيري، إلى أن تصبح عنوان البندقية، والعقل، والقلب، للغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني في فلسطين وفي الشتات، ولغيرهم الكثيرين في فضاء أصدقاء فلسطين، الذي يخوض اليوم معارك مشرفة وطليعية في العالم.
لا يزال الشعب الفلسطيني اليوم، يتبنى قلبا وعاطفة كل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، المُلغى، ويختلف فيما بينه بشأن كيف؟ وأليس من المستحسن.. والسلام… الذي يقترب كل يوم في غزة من المستحيل.
لا تزال القضية المؤسسة في عقل ووجدان الفلسطيني أينما كان، فضلا عن الحفاظ على الوجود الذي يخوضه اليوم بكل شجاعة في العالم، هي النكبة.

الرفض

عند الجزء الرافض لأي حل تسوية مع إسرائيل، لم تختلف كثيرا قضايا الوعي. هنا المقاومة شاملة، لا تحتاج تبريرا لتضرب، ولا تهادن صاحب رأي تراه غير وطني، ولا تقف إلا أمام خط أحمر واحد: حرمة الدم الفلسطيني على الفلسطينيين.
هذا الخط الأحمر، هُدد في محطات عديدة من مسار كفاح المنظمة، عام 1983 وطرابلس التي تلتها، وخلال حرب المخيمات في لبنان، وعام 2007 في غزة. وتختلف مرحلة الثمانينيات عن تحرك «حماس» العسكري للانفراد بحكم غزة.
كان هنالك «ضمير» للرفض الفلسطيني، يقرنه بوحدة الشعب، وعلى وحدة الشعب كان جورج حبش، الوطني الثوري النقي الصلب، مستعدا لبذل أي جهد سياسي للتموضع خلف مؤسسة «منظمة التحرير الفلسطينية» بوصفها الإطار المعبر عن هذا الشعب، والتمييز في مراحل بين المنظمة وقيادتها «المتنفذة»، ومعادلة الصراع والوحدة، على يسار «الصراع داخل الوحدة»، لجبهة المناضل الكبير نايف حواتمة، ولم تتخط تلك التوصيفات آداب الأخوة النضالية «والوحدة الوطنية» بين «فتح» و»الجبهة الشعبية» في الخطاب السياسي العلني، على الرغم من كل ساحات الاختلاف.

أما في الميدان، فحرب المخيمات تعكس هذا الشعار تطبيقا على أرض الواقع وبشكل مبدئي سبب للجبهة مشكلات حقيقية مع النظام السوري الذي كان يستضيفها.
ولهذا الإنسان المحترم في أوساط أصدقائه وخصومه، هالة من خصال في النقاء الثوري، حافظ عليها برفض تقديم تنازلات فكرية مجانية في كل مرحلة انكسار لحركة التحرر العالمي، كما كان يراها، فلم يكن الانتقال المتدرج والمحفوف بانشقاق، في حركة القوميين العرب القومية المتشددة التي لعبت أدوارا مهمة في الأوطان العربية، من القومية، إلى الماركسية اللينينية، ومن ثم إلى موقع ليسار يبحث عن حلول، سهل، وليس مقنعا في كثير من الأحيان، ولم تسقط القومية وبقيت في مقدمات الخطاب، وفي الوقت نفسه كانت طليعية في الوطنية الفلسطينية، على مستوى الخطاب. ومما لا ريب فيه، أن أدبيات الجبهة أصبغت مزيدا من النقاء على رموزها.
وافقت جبهة جورج حبش الشعبية القوية، نصف موافقة على برنامج النقاط العشر عام 1974، عادت لتصالح «فتح» بعد إلغاء اتفاق عمان، وفي وجه اتفاق عمان، مقدمة الهم الفلسطيني، ووافقت على مضض على مقررات المؤتمر التوحيدي الذي انعقد في الجزائر عام 1988 وأعلن خلاله استقلال دولة فلسطين، بوثيقة صاغها إدوارد سعيد ومحمود درويش، وبني على اعتراف ضمني بقرارات الأمم المتحدة ومن بينها 181 و242.
لكن كيف يحصل هذا؟ اختلافا في الخيارات السياسية مع «فتح» منذ مؤتمر مدريد، (ودعمت العراق في عاصفة الصحراء التي شارك فيها الجيش السوري)، وتباينا هادئا نسجته الجبهة مع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وبهذا، تعكس الجبهة أيضا جزءا من حيرتها الداخلية ربما، بشأن تموضعات فكرية وسياسية، هي اليوم أقرب إلى «محور المقاومة» وأنظمته.
لكن جبهة حبش التي كانت رفيقا لـ«فتح» في كل أنحاء العالم، وصديقا مشاغبا أيضا، ونجم اليسار الراديكالي في أوروبا والعالم، وملهمها، حتى اليوم، وهي تلعب دورها في إطار حركة أصدقاء فلسطين، والسؤال الذي ربما يطرحه اليوم مؤيدو فلسطين على أنفسهم: ما هي نظرتكم لحل قضيتنا الفلسطينية؟ ومن دون شك ستسمع إجابات عديدة. والصراع على السردية، موجود في حركة التضامن بعد 76 عاما من النكبة.

البقاء والمواجهة

يقول الكاتب الفلسطيني ماهر الشريف إن إميل حبيبي قد نجح قبل الخامس عشر من أيار/ مايو 1948 في الانتقال من مدينة رام الله، حيث كان يقيم، إلى مسقط رأسه مدينة حيفا، وذلك عبر الأردن ولبنان والجليل.
وبهذه العودة عبر طرق طويلة، نقل «المتشائل» حبيبي معه أيضا إرثا سياسيا لشريحة من الحركة السياسية والشعبية التي ناضلت في فلسطين التاريخية، ووافقت على قرار التقسيم والتعايش، رغم أنه مجحف برأيها، ثم انخرطت في النضال السياسي البرلماني داخل الكيان الاحتلالي الجديد، وأصبحت جزءا من السياسة الإسرائيلية الداخلية، وفي الوقت نفسه تصدت لهذه السياسة الاحتلالية في كل الميادين.
وكما تروي كتب ذكريات عن «عصبة التحرر الوطني» خلال النكبة، وحركة تشجيع مناضليها الناس على البقاء حيثما كان بمستطاعهم، وبعد ذلك حركة مقاومة مصادرة الأراضي، والتمييز العنصري، ورفض الخدمة في جيش الاحتلال.
كان الصراع للبقاء لا يلغي كذلك وحدة الشعب التاريخية، ووحدة الانتماء الوطني، وقاد الحزب الشيوعي الذي سيشكل عماد «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة»، هذه الصفحة بشخصيات مثل حبيبي، وتوفيق زياد، في الكنيست الإسرائيلي، وفي المجتمع الواقع تحت الحكم العسكري لسنوات.
ونقل الحزب معه إرث عصبة التحرر الوطني وموافقتها على قرار التقسيم.
وفي الوقت الذي أشرف فيه حبيبي على رئاسة تحرير صحيفة «الاتحاد» لسنوات طويلة، برز الشاعر توفيق زياد رئيسا لبلدية الناصرة في الحركة ضد مصادرة الأراضي، ودعم برنامج «منظمة التحرير الفلسطينية» في سبعينيات القرن الماضي، لتتوج هذه المقاومة وتعمد بالدم في يوم الأرض.
وعلى يسار الحزب والجبهة، يسار قومي أكثر تجذرا بدأ بالصعود في مطلع السبعينيات، ومثلت حركة أبناء البلد أحد تجلياته، خليطا من يسار ثوري وقوميين وماركسيين وبعثيين، لترفض المشاركة في الانتخابات التشريعية، وتقتصر على خوض الانتخابات المحلية.
ولن يلبث أن يلتحق بعض أبناء هذه الحركة بركاب العمل البرلماني ويؤسسون التجمع الوطني الديمقراطي في منتصف التسعينيات، فضلا عن التحاق قسم من أبناء «الحركة الإسلامية» بالانتخابات أيضا.
وبمعزل عن أي نقاش راهن لواقع الحركة السياسية داخل أراضي 1948، فقد طبع نهج المقاومة الذي تواصل منذ النكبة وعبرها وبعدها في طرح عناوين كبيرة تنصب نحو رفض الواقع الذي أفرزه الاحتلال، والصمود في الأرض، والحقوق ضد التمييز العنصري الذي يشكل سياسة رسمية في إسرائيل منذ قيامها، وقبل ذلك كله حفظ الهوية الوطنية الفلسطينية، حتى اليوم، وبهذا الإرث تتضامن «الجماهير العربية في الدخل» مع غزة، كما تضامنت والتحمت في السابق بالنضال السياسي والثقافي للحركة الوطنية الفلسطينية، في حين أنجب الداخل الفلسطيني قادة مقاومين مناضلين في صفوف فصائل منظمة التحرير، ليكون اغتيال الاحتلال لوليد دقة أخيرا عبر الإهمال الطبي في سجونه، نموذجا عن اختيار أفراد وجماعات في الداخل التعبير عن هويتهم الوطنية بأكثر درجات التضحية الممكنة.
كل ذلك من دون إغفال القرار السياسي المعلن للحركة السياسية الفلسطينية في الداخل الذي يضع في عمق وعيه السياسي النضال من أجل الدولة الديمقراطية، والسلام الذي يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني، ودعم جزء كبير من هذه القوى لحل الدولتين الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية بشبه إجماع وطني.
لكن، وسط هذه «الجماهير العربية» في أراضي 48، في إسرائيل، الرواية الفلسطينية عن النكبة، تعكس إجماعا وطنيا سائدا.

فلسطين الإسلامية

قاتل «الإخوان المسلمين» في فلسطين، وبعد النكبة، غرقت الجماعة في انعكاسات خلاف عبد الناصر مع الجماعة في مصر. وطغت القومية العربية على المزاج العام للناس.
وفي الداخل، كانت الحركة الإسلامية، تتجذر في ذروة الصعود الإسلامي نهاية سبعينيات القرن الماضي، وتقاوم، ثم تعتقل، ثم تنشق. ويختار الشيخ رائد صلاح أن يكون في موقع مقاطعة المؤسسة الدستورية لدولة الاحتلال، ولينسج حتى اليوم خطه في فلسطين الإسلامية عابرا فوق الخط الأخضر جيئة وذهابا.
إن القارئ لـ«وسائل الإعلام الجماهيري» لليسار الفلسطيني في ثمانينيات القرن الماضي ومطلع تسعينياته، سيرصد بجلاء الموقف السياسي العقائدي الغالب تجاه الحركيين الإسلاميين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصا في غزة والضفة الغربية. فالتنكيل الذي تعرضت له منظمة التحرير ككيان من قبل الحكم العسكري للاحتلال، قابله التحاق متأخر نسبيا للحركة الإسلامية كمنظمة مستقلة بالعمل الفدائي الوطني آنذاك.
يقول الشيخ أحمد ياسين في حواره مع أحمد منصور على «الجزيرة» ضمن برنامج «شاهد على العصر»، إنه قبل تشكيل الجهاز العسكري للحركة، كانت الجامعة الإسلامية، التي طالبت بها الحركة الإسلامية جامعة مسلمة من دون اختلاط، وفي يد الإسلاميين، على ما يؤكد الشيخ الراحل، ساحة مهمة لنضال نواة ما سيشكل لاحقا حركة «حماس».
ومن خلال الجامعة الإسلامية، نمت شبكة نواد ومؤسسات مرتبطة بها، وامتدت شبكة الدعم الاجتماعي، واستلمت حكم العدالة في ملف «العملاء»، ولعبت دور الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وشكلت جهازها العسكري، وتعاونت بشكل أوثق مع قيادة الخارج، وتوفر المال، كما يؤكد الشيخ الراحل، واستقلت عن «إخوان الأردن»، وكانت «حماس»، مع بداية الانتفاضة، لتخوض أولى مواجهاتها كتنظيم مسلح وجماهيري يعلن عن نفسه.
ومع «حماس» التي تبقى حتى اللحظة خارج منظمة التحرير الفلسطينية أصبحت علاقة الحركة الإسلامية بالشأن الوطني علاقة أكثر استقلالية ومباشرة مع الناس.
ومع «حماس»، طغى الإسلامي على الوطني في الرواية، وفي النكبة، من دون أن يعني ذلك أن الحركة، التي تبنت في وقت متأخر مشروع دولة فلسطينية «وسط»، من دون أن تتخلى عن طموحها «الأقصى»، ومن دون أن لا يعني ذلك أن مساحة العلم الفلسطيني في خطاب هذه الحركة أصبح أكبر من أي وقت مضى.

سنديانات العائلات

لم يتساموا فوق منظمة التحرير يوما، ولكنهم عنيدون.
حيثما المعركة في وجه الاحتلال، فالعمل المخلص لتنجح القيادة، وهي تنتقل من قيادة ثورة إلى قيادة كيان.
حيثما تخطئ القيادة، فبالسياسة الفاعلة حتى النفس الأخير لفيصل الحسيني، ابن فتح، وابن القائد عبد القادر وابن العائلة، وابن «فتح» في نضالها السري المحفوف بالمخاطر بين المقدسيين، الذي ذهب إلى الكويت ليصالح أصدقاء قدامى لفلسطين.
وحاول الواقع الاستيطاني الناشئ في الضفة في سبعينيات القرن الماضي، بعد نحو عقد على الاحتلال، أن يغتال أحد الوجهاء الوطنيين، بسام الشكعة، الذي نجا، وفقد قدميه، في المحاولة التي دبرها تنظيم يهودي إرهابي مرتبط عضويا بحركة الاستيطان.
خاض بسام الشكعة الانتخابات البلدية في ظل الحكم العسكري للاحتلال، فحولها من الإقرار بواقع، إلى أداة مقاومة كانت المنظمة فيها متقدمة، ورفض أن يكون بديلا لمنظمة التحرير وقيادتها، ولا استبق خياراتها التفاوضية، فيما غيره فعل أو حاول أن يفعل.
فلما أصبحت البلديات معاقل سياسية للمقاومة المسلحة، رد الاحتلال بمشروع روابط القرى البديلة ليتصدى لها بسام الشكعة.
ولم تكن هذه الصفحات إلا انعكاسا للدور الوطني الذي لعبته العائلات، وفي الوقت نفسه برز دور لا يقل أهمية على مساحة الوطن الفلسطيني أسهمت فيه رأس المال الوطني الفلسطيني وشخصيات وطنية في رفد الحركة الوطنية الفلسطينية ودعمها، واللائحة هنا أيضا تطول من آل شومان وهاني القدومي ومنيب المصري ورفعت النمر وغيرهم.

على هدى الثورة الإسلامية

علاقة الحركة الإسلامية والفلسطينية عموما بإيران لا يمكن أن تغفل اسما كان وراء تنظيم: فتحي الشقاقي. لم يخف الشقاقي أبدا إعجابه بشعارات الثورة الخمينية، وحبه للإمام الخميني الذي عبر عنه فيما بعد باستعراض مواقفه السياسية المؤيدة لفلسطين من 1967، وتبني الثورة الإيرانية الأيديولوجي لمركزية القضية الفلسطينية في الأمة الإسلامية. ومضى الشقاقي ليؤسس تنظيما مقاتلا بدأ العمل عليه قبل سنوات.
واجتمع في تنظيم «الجهاد» مؤسسون من منابت فكرية مختلفة، بعضهم إسلامي، وبعضهم جاء من التيارات الوطنية والقومية، وبعضهم عمل مع الاتجاه الذي سمي إسلاميا في فتح ورمزه خليل الوزير (أبو جهاد).
والاتجاه الإسلامي لتنظيم «حركة الجهاد الإسلامي» التي أسسها الشقاقي، مقرون بوضوح بتموضع حركته في إطار المحاور الكبرى في المنطقة، وفيما بات يسمى اليوم من أصحابه «محور المقاومة».
لكن هذا التموضع مشروط كما تؤكد أدبيات الحركة، وشرطه ساحة الصراع والعدو. لا عدو إلا إسرائيل، وعلى هذا نأت الحركة بنفسها في سنوات سابقة عن حروب أخرى كان العامل الإيراني حاضرا فيها، من سوريا إلى اليمن.
و»الجهاد» في علاقتها مع إيران ترفض أن تكون بالصورة التي حاول أبناء الحركة الإسلامية الأم والأكبر تصويرها به.
لم يكن التمويل دائما، ولا حرا، ولم يكن محاولة شق صفوف الحركة استثناء مع خروج «حركة الصابرين».
ولم تقطع الحركة مع انتمائها إلى «الحركة الإسلامية السنية الوسطية التي أسسها الإمام الشهيد حسن البنا» – (رمضان عبد الله شلح).
ومواقف «حركة الجهاد الإسلامي» حتى 7 أكتوبر، وفي السنوات التي سبقت لم تطابق على الدوام أهواء إيران، ولا طبعا كانت على انسجام مع «حماس»، فيما عدا العمل العسكري الميداني.
والأهم وربما، لم تحتكر «الجهاد» ولم تتقدم، علاقات إيران مع الحركة الإسلامية الفلسطينية، التي تولتها «حماس» بندية واستقلالية، وبهامش مناورة كبير.
ومع ذلك، تبقى «حركة الجهاد الإسلامي» أقرب الفصائل الفلسطينية الحقيقية إلى طهران، والأكثر انخراطا في «محور المقاومة» الذي تقوده.
وقليلة هي الأبحاث التي تسلط الضوء على علاقة الحركة بإيران اليوم، لكنها ربما باتت بعد 7 أكتوبر ظاهرة وبارزة في «المحور» إياه، وليست وحيدة.

76 عاما

في كل سياقات الحركة الفلسطينية لعب «المثقف الثوري» – المصطلح الذي أطلقته أدبيات التنظيمات الفلسطينية متأثرة باليسار – دورا مهما جدا في تكوين الوعي الفلسطيني على قواعد أيديولوجية تتبنى السردية نفسها، وتحاول إحداث اختراقات في أكثر من مكان لدفع العقل الفلسطيني إلى الأمام.
وحتى لو لم يكن هذا المثقف «ثوريا» بالمصطلحات اليسارية الكلاسيكية التي حفلت بها مساحات النقاش الفلسطيني متأثرة بما يحدث في العالم، في مراحله المختلفة، من صعود القومية بعد النكبة التي شهدت هزيمة قومية أخرى أيضا، إلى صعود اليسار، إلى صعود الحركة الإسلامية، والبريسترويكا والانهيار والانتفاضة، وحرب العراق ومدريد وأوسلو وتصفية عرفات وصعود حماس وحكم غزة و»الربيع» الذي لم يحدث في فلسطين، وكل المسار وصولا إلى حرب الإبادة.
بهذا نظّر المثقفون الفلسطينيون، المعروفون جدا، المثقِّفون أيضا لغير الفلسطينيين، في مختلف ميادين البحث السياسي والفلسفي والاجتماعي والاقتصادي والشعر والرواية والمسرح والأغنية والتراث والرسم والكاريكاتير وغير ذلك من المجالات.
والتصقوا بشكل عام بالبناء العام للحركة الوطنية الفلسطينية، لكن العقدين الأخيرين شهدا تقدم من بادر إلى الاشتباك، ونقطة هذا الاشتباك، بكل الحيثيات الأخرى التي يكتنفها ولا تقل أهمية، هو الحل السلمي.
خلال مسار كامل من النكبة، برزت شخصيات كثيرة في صفوف الشعب الفلسطيني لتقود الفلسطينيين في «تغريبتهم» على كل مستوياتها، واليوم أبناء النكبة، بأجيالها المتعاقبة، يقودون.
فقيادة المنظمة و«الدولة» المعلنة التي تناضل لاستقلال ناجز في لحظة تعثّر الحل السلمي، آتية من جيل الأولين، يمثّل محمود عباس (أبو مازن) رأسها ورمزها، والرجل من جيل القادة المؤسسين في «فتح»، تواجه بعناد أيضاً محاولات تقويضها، وتقطيع أوصال الأرض التي تتحصن فيها، وتهجير سكانها، وتواجه حصارها المالي من الاحتلال، وتواجه اليوم حرب الإبادة، وتدعو للحفاظ على «منظمة التحرير» كإطار جامع، وترفع شعار الوحدة ضمن المنظمة.
وقيادة «حماس» تولاها اليوم أبناء الجيل الثاني، وفيهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار وخالد مشعل، تقاتل أيضا وتفاوض، بوثيقة سياسية محدّثة تتبنى إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967 وحق العودة، وتقاتل مع فصائل المقاومة في غزة ضد حرب الإبادة، وتواجه، بالطبع، تصنيفها تنظيما إرهابيا في عدد كبير من دول الغرب.
والكبار الذين ينتسبون للثورة الفلسطينية، ولفلسطين أيضا الأكبر من الثورة، كثر ومرموقون بين شعبهم وفي العالم.
ومن يقف اليوم في القيادة، ربما يكون مزيجا من أجيال مختلفة، لكن البناء السياسي الفلسطيني بقي.
وعلى الرغم من الخلاف، وعند كل معركة، كان الفلسطينيون يختارون الوحدة في المقاومة.
وإذا كانت غزة، الملتحفة بالأخضر اليوم، تقود قتالا مسلحا، فإنها كانت دائما على نحو ذلك.
قال عنها الفلسطيني المتعصب لوطنه سلمان أبو ستة، صاحب «أطلس فلسطين» ورئيس «هيئة أرض فلسطين» في لندن، إنها أول من حمل لواء المقاومة.
وهي كذلك، في الخمسينيات والستينيات… وغزة التي ترتدي الأخضر اليوم، ارتدت وترتدي كل الألوان التي كانت تقاوم، ارتدت الأحمر، و»فتح»، واختارت أن تكافئ أبناءها الكبار مع الشيوعي حيدر عبد الشافي الذي نال أعلى الأصوات في غزة في أول انتخابات تشريعية.
بعد 76عاما من النكبة، لا يزال الفلسطينيون موحدين في سرديتهم وعليها، ويواجهون اليوم، قادة الأجيال المتعاقبة بعد النكبة، تحديات كثيرة، وخطيرة، مع الحرب غير المسبوقة على غزة، وفي الضفة، والتي هي إعلان حرب شاملة على فلسطين.

الحرب على العقل الفلسطيني

طاردت إسرائيل وقتلت القادة والمثقفين الفلسطينيين عبر العالم خلال كل تاريخ العمل الفلسطيني منذ النكبة. ولم تكتف باستهداف القادة العسكريين وقادة كتائب المقاومة، بل سعت لتصفية النخب القيادية في مختلف المجالات، ومارست العنف المباشر ضد العقل الفلسطيني والأدب الفلسطيني.
وعلى درب فلسطين سار ياسر عرفات الذي قُصدت تصفيتُه خلال حصار المقاطعة، وأحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وعبد العزيز الرنتيسي، وأبو علي مصطفى، وقبل ذلك كله عقل الانتفاضة وقلبها «أمير الشهداء» خليل الوزير.
وقبل ذلك خالد نزال، ماجد أبو شرار، وعلي حسن سلامة، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار، وكمال عدوان، وغسان كنفاني، وباسل الكبيسي، ووائل زعيتر، ومحمود الهمشري، وقادة مقاتلين… واللائحة تطول.
سقط على هذه الدرب، في جريمة مشينة على المستوى الوطني، صلاح خلف وهايل عبد الحميد وأبو محمد العمري وغيرهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية