الرؤية الغربية لصورة النبي في أدبيات القرون الوسطي:
نقل القرآن للغات الاوروبية لم يكن مجرداً لذاته بل لرد الاعتبار للذات الاوروبية.. والاسفاف بالمسلميناللاهوتيون الغربيون لم يكتفوا بنقل شرائع الاسلام بل اسسوا للاكاذيب والخرافات عنهاالرؤية الغربية لصورة النبي في أدبيات القرون الوسطي:د. عبد الغني أبو العزمہ كيف تعاملت أوروبا مع التراث الإسلامي، وتحديداً مع القرآن، وكيف نظرت إلي النبي محمد (ص)؟ وما هي المصادر التي استقي منها الفكر الاستشراقي معلوماته؟ وكيف صاغها في أبحاثه؟هذه الأسئلة سوف نحاول الإجابة عليها انطلاقاً من المحاولة الأولي لترجمة القرآن إلي اللغة اللاتينية في القرن الحادي عشر، وسوف نتابع مسيرة وإشكالات الاهتمام المسيحي بالدين الإسلامي إلي حدود القرن الثامن عشر؟لا شك أن معرفة أوروبا بالتراث الإسلامي مرت بمراحل مختلفة في تصورها وفهمها للمبادئ التي يرتكز عليها الإسلام ومنذ القرون الوسطي، حيث ظلت الرؤية المسيحية أسيرة عقيدتها في إطار مغلق يحفه الخوف والفزع أمام الزحف الثقافي والعلمي الذي عرفته الحضارة الإسلامية الأندلسية، ومنذ أن وطأ العرب الديار الأوروبية، حاملين معهم تراثاً فكرياً وعلمياً وأدبياً. هذا الخوف تمثل منذ القرن الأول من الوجود العربي الإسلامي بإسبانيا والذي عبر عنه المطران الفار سنة 854، حيث كتب يقول والألم يحزه مما يري من انتشار الآداب العربية: إن الشباب المسيحي أصبح يميل كلية إلي اللغة العربية، يتغني بشعرها وعلي حساب اللغة اللاتينية التي قل اهتمامه بها .إن هذا التأثير المتزايد لم يكن يمر بسهولة، وقد أحدث انعكاساً وردود فعـــل عنيفة في العالم المسيحي داخل الكنيسة، وقد اتجهت إلي استخدام أساليب لا تمت إلي الجدل العلمي بأي صلة، تحركها الأهواء والعواطف الدينية، متسلحة بالحقد والكراهية ضد الإسلام باعتباره عقيدة، وضد شخصية النبي (ص) باعتباره رسولا وصاحب دعوة دينية.لم يفرز هذا الاتجاه كما سنري في نهاية المطاف إلا التشويه والتلفيق، واللجوء إلي الأساطير والخرافات، وهذا بحد ذاته يتطلب دراسة نفسية عميقة للهوية الأوروبية المسيحية للوقوف علي خلفية النوازع في ضوء الأثر الإسلامي آنذاك.لقد حاولت الكنيسة منذ البداية أن تجعل من الصراع الحضاري الأوروبي ـ العربي صراعاً دينياً، وأن تركز كل جهودها علي هذا الجانب محاولة منها للتصدي للاكتساح العربي الإسلامي وتأثيره علي أوروبا، انطلاقاً من إسبانيا المسلمة التي أصبحت تمثل قلعة في ميدان العلوم والإنتاج الفكري الفلسفي. وبعد الاستيلاء علي طليطلة سنة 1081، وعلي إشبيلية سنة 1091، وسقوط القدس سنة 1099، اتجه الفكر الأوروبي المسيحي إلي بحث أصول الثقافة العربية الإسلامية، والتركيز علي فهم شخصية الرسول (ص) والقرآن، لأن ظاهرة الدين الإسلامي أصبحت تشكــــل العقــدة الرئيسية داخل الكنيسة، وقد تحددت أهدافها في محاولة إيجاد الصيغ اللاهوتية لدحض وتفنيد العقيدة الإسلامية، وهذا لم يكن ليتم في غياب المعرفة العلمية الدينية للقرآن وتاريخ الرسالة، والجوانب المكونة لشخصية النبي محمد (صلي الله عليه وسلم).وهذا ما عبر عنه بالضبط بطرس المحترم الذي كان يعرف مدي جهل الكنيسة والأوروبيين بالإسلام، لأنه كان ينطلق من اقتناعه أن معرفة الإسلام كفيلة بإزالة هالة القداسة، ويري أنها ينبغي أن تتم عن طريق المواجهة والحجج والمقارنة لإثبات العقيدة المسيحية، واتباع طريق التبرير والتفنيد، واعتبر هذا الأسلوب الصيغة العلمية التي تفوق حدتها حد السيف، وعليه فإن ترجمة القرآن ووضع نصوصه بين أيدي اللاهوتيين المسيحيين هي أنجع وسيلة من أجل أوج الدين المسيحي.ومن أجل هذه المهمة اتجه إلي مدينة طليطلة، الجسر الذي عبرت منه الثقافة الإسلامية إلي أوروبا والتي كان أغلب علمائها مزدوجي اللغة. في هذه المدينة التقي بطرس المحترم بمترجمين هما: روبير دوكاتن وهيرمان لودالمت وأقنعهما بالكف عن دراسة العلوم الفلكية، وضرورة الاتجاه إلي الحرب الصليبية الثقافية، واعتبر أن أول خطوة في هذا الباب هي ترجمة القرآن إلي اللغة اللاتينية، واستطاع أن يستقطب أحد العرب المتحمسين ليستعين به علي دقة الترجمة.يوضح هذا الإلحاح علي ترجمة القرآن، ووضع دراسة العلوم الفلكية في الدرجة الثانية علي أن تحتل الدراسات اللاهوتية المكانة الأولي الاتجاه الفكري المسيحي في القرن الحادي عشر.يشير هذا المنحي إلي أن ترجمة القرآن أداة ووسيلة ينبغي أن تصبح سلاحاً بيد اللاهوتيين الأوروبيين، وعلي حد تعبيرهم، أن ذلك هو الدليل والبرهان علي هرطقة النبي محمد كما تصفه في كل أدبياتها مع كل الصفات البذيئة التي كانوا ينعتونه بها خلال القرون الوسطي، وأن ضرورة الإلمام بمبادئ القرآن وشريعته تعد الأسلوب العلمي لدحضها وتفنيدها.أول ترجمة للقرآن الكريملقد تمت ضمن هذا السياق أول ترجمة للقرآن حوالي سنة 1141م (558 هـ)، إلا أن هذه الترجمة وكما لاحظ ذلك الاختصاصيون في هذا المجال لم تستطع أن تنفذ إلي معاني القرآن، بالإضافة إلي رداءة الترجمة، وتقسيم السور وزيادة عددها وعدم احترام عناوينها.وانطلاقاً من هذه الترجمة بدأت المحاولات الأولي للرد علي آيات القرآن والشريعة الإسلامية، وضمن أهداف واضحة منذ البداية ألا وهي الدحض والتفنيد.لقد كان ذلك واضحاً بشكل مكشوف في رسالة بطرس المحترم إلي القديس سان برنار، حيث أوضح فيها بغيته ونيته من ترجمة القرآن، والمقاصد التي يهدف إليها، وليدعم كل الأساطير الرائجة حول الإسلام والنبي محمد والمسلمين آنذاك.وفي بداية القرن الثاني عشر خصص بدرو دو الفونسو وهو يهودي الأصل اعتنق الديانة المسيحية ـ محاورة جدلية للطعن في الإسلام، وفي القرن الرابع عشر توالت الدراسات اللاهوتية حول الديانة الإسلامية، ونجد من بينها كتاب ريكولدو دامونت كروس( تحت عنوان تفنيد آيات القرآن والعرب.ويمكن إجمال النقاط الأربع التي تركز حولها النقاش اللاهوتي المسيحي في مواضيع الدين كما أوضحها وات مونتكومري حول الديانة الإسلامية باعتبارها زخرفاً مضاداً للحقــــيقة وضلالا متعمداً، ولكونها ترتكز علي العنف والسيف، وهي في الوقت نفسه ديانة الإباحية، جاء بها نبي دجال. هذه هي الأطروحات الأساسية التي دار حولها البحث اللاهوتي المسيحي الذي لم يستطع أن يخرج عن إطار التشويه والتلفيق واخــــتلاق الأكاذيب كوسيلة من وسائل التفنيد، واعتبار أن الحقيقة المسيحية هي أوجه الفكر الإنساني، وما عداه ضلال في ضلال. ويكفي أن نذكر في هذا المجال إحدي الأفكار الشائعة آنذاك وهي أن المسلمين من عبدة الأصنام، مع العلم أن أول معركة خاضها النبي ضد المشركين كانت مواجهته بالدرجة الأولي ضد عبادة الأوثان والأصنام.وليس هنا مجال لذكر كل تلك الأساطير، لأن ما يهمنا في هذا العرض ينحصر في معرفة محاولات التراجم الأوروبية للقرآن وتتبعها في مجري الأحداث والظروف التي أحاطت بها، وموقف العلماء الأوروبيين المسيحيين منها.مارك الطليطليومن بين التراجم الأولي للقرآن، جاءت الترجمة الثانية لمارك الطليطلي وقد تمت بعد ستين سنة من إنجاز ترجمة بطرس المحترم، إلا أن هذه الترجمة ظلت مجهولة وغير معروفة في المكتبات الأوروبية. وما تجدر الإشارة إليه أن مارك استخدم كلمة الفرقان، وقد اعتبره كتاب شريعة الإسماعيليين، وقد أنجزه تحت أمر دون ردريك وكان يحتل آنذاك منصب رئيس أساقفة طليطلة وإسبانيا. كما نجده يذيل هذه الترجمة بترجمة كتاب المهدي بني تومرت حول وحدانية الله، بالإضافة إلي ملخص للسيرة النبوية، وما هو واضح من مقدمة ترجمة مارك الطليطلي أنه كان يهدف أن يضع بين أيدي المخلصين المسيحيين الحجج والبراهين والأدلة لدحض الديانة الإسلامية، وليكتشفوا بأنفسهم أسرار عبادة الرب.إلا أن هذه الترجمة ظلت كما قلنا سابقاً مغمورة، وترجمة روبير دو كاتن التي تمت تحت إشراف بطرس المحترم تمكن لها السيادة والانتشار، وظلت مستعملة في أوروبا اللاتينية إلي زمن متأخر، إلي أن قام بنشرها الناشر ببليوندر سنة 1543 في بال؛ بعدها حاول أن ينقحها ويحسن من أسلوبها في طبعته الثانية سنة 1550، بعد أن حذف الصيغ المكررة والاحتمالات الممكنة في الترجمة لبعض السور، وقد اعتمد في ذلك علي الخصوص علي مخطوط القسطنطينية نقل سنة 1437. بعد ذلك جاءت محاولة دومنيك جرمان في القرن السابع عشر، وهو أحد المبشرين باصبهان، وقد اعتمد علي نسخة روبير قبل أن يباشر ترجمته، ومخطوط هذه الترجمة يوجد في مكتبة الطب بمونتبليي تحت رقم 72، ومخطوط آخر يوجد بالاسكوريال تحت رقم 1624.وبجانب هذه المحاولات تمت تراجم جزئية لبعض السور وآيات القرآن، خلال القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، نذكر من بينها ترجم غييوم ريمون، وسكالجير وجان دوسركوف وتوماس أربيني وكبرييل سونيتا وكريستيان رافيوس.كما أن هناك مجموعة من المخطوطات موجودة في المكتبات الأوروبية لا نعرف أصحابها، وقد تم إنجاز أغلبها ما بين القرن السابع عشر والثامن عشر.كما أنه قد تم نشر القرآن باللغة العربية في أوروبا، وهذا النشر كان في أغلب الأحيان مصحوباً بالترجمة اللاتينية. واعتقد أن جان دوسركوفي هو أول من قام بهذا العمل في القرن الخامس عشر عندما نشر النص العربي وبجانبه الترجمة اللاتينية والإسبانية، وبعده سكاليجر سنة 1579 عندما نشر ترجمته اللاتينية بجانب النص العربي، وفي سنة 1694 نشر النص العربي للقرآن في هامبورغ ومن المفروض أن تضاف إليه الترجمة اللاتينية التي لم يتم إنجازها.وكرر العمل نفسه مراتشي في أواخر القرن السابع عشر، حيث نشر الترجمة اللاتينية بجانب النص العربي.وبعد هذه التراجم إلي اللغة اللاتينية، بدأ الاهتمام بنقل القرآن إلي اللغات الأوروبية. وكانت اللغة الإسبانية أول اللغات التي ينقل إليها، ثم جاءت المحاولة التي قام بها أندريا اريفودن الذي ادعي أن ترجمته إلي اللغة الإيطالية قد تمت مباشرة من اللغة العربية، وتعد بذلك أول ترجمة أنجزت في هذا المجال، وبالتحديد في سنة 1543 في بال، وأعيد نشرها في البندقية سنة 1547، وعن طريق هذه الترجمة ذاتها تمت ترجمة القرآن إلي اللغة الألمانية علي يد سالمو شويجر في ثلاثة أجزاء سنة 1616، وأعيد طبعها في سنوات 1623 و1659 في مدينة نورنبرغ وعن ذات هذه الترجمة تم النقل إلي اللغة الهولندية سنة 1641.وفي ظل الاهتمام بالدراسات الإسلامية في فرنسا وعلي الخصوص في القرن السابع عشر، جاءت محاولة دو روير التي تمت في سنة 1647 وأعيد طبعها عشرات المرات في بعض المدن الأوروبية، مثل لاهاي وجنيف وأمستردام وليبزيغ، وظلت هذه الترجمة معتمدة في أوروبا إلي أن اكتشف فيما بعد علي أنها ترجمة غير دقيقة، وهذا لم يمنع الكسندر روس من اعتمادها عندما أراد أن يترجم القرآن إلي اللغة الإنكليزية سنة 1648، وقد أعيد طبعها عدة مرات.ظلت ترجمة دو روير سائدة خلال أزيد من قرن ونصف، علي الرغم مما فيها من هنات، مع عدم الدقة والأمانة في احترام النص، وهذا ما لاحظه كل المهتمين بالدراسات الإسلامية، وعلي الخصوص سافري الذي اعتبر ترجمة Du Ruyer عبارة عن ملحمة مزعجة، ذات أسلوب متقطع غير واضح المعني، بالإضافة إلي تقطــيع السور وانعدام الربط فيما بينها.توالت في ضوء هذه الملاحظات الترجمات المتعددة في أوائل القرن التاسع عشر والقرن العشرين إلي اللغات الأوروبية التي بدأت تنتشر وتشيع وتتكرر من أجل الوصول إلي ترجمة أدبية دقيقة تحترم معاني النص الأصلي.فهناك ست وثلاثون ترجمة في اللغة الألمانية، وهناك إحصاء تاريخي لكل الترجمات التي تمت إلي اللغات العالمية أنجزها العالم الباكستاني حميد الله، ويعد هذا الإحصاء أول بيبلوغرافيا شاملة نشرت في هذا المجال في مقدمة الترجمة التي قام بها هذا الأخير إلي اللغة الفرنسية.إن هناك بالتأكيد فاصلا ما بين الترجمات التي تمت ما بين القرن الحادي عشر والثامن عشر وما بين الترجمات التي تمت فيما بعد، حيث بدأت قواعد البحث العلمي في مجال الدراسات الشرقية تفرض نفسها نسبياً. النبي محمد والاستشراقلقد أوضحنا سابقاً أن الدراسات الإسلامية بأوروبا المسيحية كانت تتم تحت إشراف الكنيسة، ويقوم بها رجال الدين، واحتكروها لسنوات طوال، وغدوا بذلك المرجع والمبادر في ميدان الترجمة، حيث انحصرت رؤيتهم للأشياء في العقيدة المسيحية باعتبارها ديانة الحق والعدالة، وأن كل الديانة الأخري ما هي إلا تشويهاً للحقيقة، مع العلم أن دراسة شرائع القرآن والفلسفة الإسلامية قد ساهمت كما يقول مونتكمري في خلق وعي ديني بالهوية الأوروبية، وعلي حساب الإسلام، مما أعطي إمكانية تأسيس نظام فلسفي منطقي، ورؤية فلسفية جديدة للعالم، وكان ينبغي انتظار عدة قرون لكشف هذا الواقع.ومما يلاحظ، أن الصورة الوهمية والخيالية التي تكونت في أوروبا عن النبي محمد، لا يمكن فصلها عن الرؤية الفكرية الأوروبية اللاهوتية للقرآن. وترجمة القرآن لم تكن في الواقع إلا مدخلا لمعرفة السيرة النبوية، وهذا ما عبر عنه جان دي سركوفي عندما قام بدراسته التمحيصية التفنيدية للقرآن والنبي محمد، وكذلك نيقولا دوكوس الذي قام بدوره بتحضير كتاب حول شرائع القرآن، وقد اعتمد علي رسالة الكندي المسيحي التي تمت كتابتها في العهد العباسي، وترجمته إلي اللغة اللاتينية في عهد مبكر، وهي عبارة عن تعريض وتجريح في العقيدة الإسلامية، وهجوم مركز علي الإسلام.وقد دلت الدراسات الاستشراقية الحديثة أن هذه الرسالة اعتمدها كل من ريمون لول ومارك الطليطلي، ولم يشر إليها أي واحد منهما، مع العلم أن هذه الوثيقة التاريخية مع ما عرفته من تزييف كانت مرجعاً ثميناً لعلماء اللاهوت المسيحيين، إذ في ضوئها شاعت كل خرافات القرون الوسطي التي ظلت مهيمنة، وقد تغلغلت في الوسط الشعبي الأوروبي، ومن بين هذه الخرافات اعتبار النبي محمد رجلاً مسيحياً ضالاً وهرطقياً ادعي النبوة، لأنه لم يستطع تحقيق طموحه الأدبي في أن يصبح بابا بعد أن وصل إلي مرتبة كردينال. وضمن هذا السياق، ظهرت مجموعة من المقالات والروايات التي لا حصر لها تتعرض إلي شخصية الرسول، ويمكن اعتبار كتاب ميشيل بوديي أول المحاولات التاريخية التي كانت تهدف إلي وضع تاريخ عام للأتراك، وفي الوقت نفسه تناول مولد وحياة وموت النبي، وهذه الدراسة ككل الدراسات في أوائل القرن السابع عشر كان همها ينحصر في تسفيه النبي محمد، واعتباره مدعياً للنبوة، وصاحب دين متخلف وهمجي وعدواني. ويكفي أن نعرف أن الكتاب قد أهدي إلي كنيسة الله. كما قام برجورون بإفراد كتاب كامل عن حياة النبي.وفي المرحلة نفسها عندما قام مراتشي اللاهوتي الإيطالي بترجمته للقرآن بعد دراسة دامت أكثر من أربعين سنة، حاول أن يقدم نبذة عن حياة النبي تنم من حقد لامتناه لإزالة أي لبس فيما يتعلق بنواياه تجاه الإسلام أمام الكنيسة.ومن الصعب حصر وإحصاء كل الكتب والمقالات التي كتبت عن حياة النبي محمد في هذه المرحلة، إلا أنه من المفيد أن نشير إلي الانعطاف الذي حصل في منتصف القرن السابع عشر، عندما نشر كتاب أبي الفرج باللغة اللاتينية وعلي الخصوص الجزء الذي يتناول السيرة النبوية، وقد تم طبعه بأكسفورد سنة 1650، ومع ترجمة كتاب أبي الفداء حول حياة النبي إلي اللغة اللاتينية والفرنسية في القرن الثامن عشر يمكن الحديث عن تكون اللبنة الأولي للترجمة الذاتية للنبي محمد. وانطلاقاً من هاتين الترجمتين بدأ المستشرقون الأوروبيون، والفرنسيون منهم علي الخصوص، يتناولون بالدراسة والتحليل السيرة النبوية.يدخل هذا الانعطاف الذي حصل في هذه المرحلة ضمن ما يمكن أن نسميه بالموضوعية العلمية في إطارها الشكلي العام، حيث قدمت شخصية للعالم الأوروبي بطريقة شبه محايدة وعلي أنه صاحب دين إنساني.يمكن اعتبار كتابي أبي الفرج وأبي الفداء وثائق جديدة بين أيدي الدارسين في أوروبا، إلا أنهما لم يكن لهما تأثير في المرحلة ذاتها علي الديانة الأوروبية المسيحية، لأنه في أواخر القرن السابع عشر جاء كتاب بريدو حول حياة النبي محمد وقد ترجم فيما بعد إلي اللغة الفرنسية، وهو عبارة عن هجوم مكثف علي الإسلام، وفي الوقت نفسه نشرت فيه كتابات اللاهوتي الإيطالي مراتشي عن القرآن والإسلام، وهذا ما حاول أن يؤكده كانيي مشيراً إلي التشويه الذي لازم كل الكتابات حول الإسلام، وحول شخصية النبي محمد ساعياً إلي وضعه في المجري التاريخي لدعوته، والتركيز علي عبقريته ولم يخف صدمته لما جاء في كتاب بولانفيليه من عداء وكراهية تجاه الإسلام.ويمكن القول إن الجدل الديني حول نبوة النبي ودعوته ورسالته قد أصبحت موضوعاً حساساً في الحياة الثقافية الأوروبية؛ وأن أفكاره التي شاعت في الجزيرة العربية في القرن السابع بدأت تنفذ وتخترق جدار أوروبا في القرن السابع عشر.وهذا ما أكده كذلك نويل دو فرجي في مقدمة ترجمته لكتاب أبي الفداء حيث قال: إن تاريخ النبي محمد هو تاريخ تأسيـــس العقيدة الإسلامية، وهذا هو التبرير الذي حدد اختياري، إننا أمام عبقرية رجل عمل علي توحيد منطقة يكثر فيها التطاحن والحقد والعصبية، وهو أحد دعاة التوحيد؟ وتجربته مع أعدائه تجربة نموذجية وتجربة السماحة والعفو والصفح، وهو درة ثمينة في تاريخ العرب .وهذا ما جعل فولتير يعيد النظر في تقييمه لشخصية النبي وللمسلمين، حيث بدأ يدعو إلي الوئام والمحبة والتسامح، وهذا ما عبر عنه بعده ديدرو مؤكداً علي العبقرية الشرقية التي أنتجت مثل هذا الفكر.ومع نهاية القرن الثامن عشر دخل علم الاستشراق مرحلة جديدة في محاولة جديدة لفهم عالم الشرق، وفهم الذهنية الشرقية والعقيدة الإسلامية، وفي هذا الإطار تمت ترجمة أمهات الكتب في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر التي تتناول الإسلام وحياة النبي محمد ويمكن حصرها فيما يلي: الكامل لابن الأثير ترجم سنة 1851.ـ السيرة النبوية لابن هشام ترجم في البداية إلي اللغة الألمانية سنة 1858.ـ تاريخ الأمم والملوك للطبري ترجم سنة 1879.ـ المغازي للواقدي ترجم سنة 1882 وتاريخ اليعقوبي ترجم سنة 1883.ـ وكتاب البدء والتاريخ للمقدسي ترجم سنة 1899.كما ترجم مختصر سيدي خليل سنة 1848، وكتاب الإعلام بأعلام بيت الله لقطب الدين سنة 1859، وكتاب الدرر الفاخرة في كشف علوم الآخرة للغزالي، ترجم سنة 1878 وكتاب أخبار مكة للازرقي سنة 1858 وكتاب أنوار التنزيل لبيدوي سنة 1846 ، كما ترجمت البردة للبوصيري سنة 1822 وسنة 1894.وانتهت هذه المرحلة بترجمة كتاب البخاري وكتاب الطبقات لأبي سعد. في ضوء هذه المصادر الجديدة بالإضافة إلي المخطوطات العربية التي نقلت إلي أوروبا عن طريق البعثات التي لا حصر لها، جاءت الكتب التي تتناول حياة النبي محمد والعقيدة الإسلامية خلال القرن التاسع عشر، وهي تتفاوت في قيمتها واستيعابها للتاريخ الإسلامي، وحسب السياق وما أراده مؤلفوها من غايات وأهداف، ونذكر من بينها كتاب مويير سنة 1858، سبرنسر سنة 1861 وكريم سنة 1892وبوتز سنة 1898 وتايلور سنة 1881 ودوزي سنة 1852 وكولدزيهر سنة 1880.وعلي الرغم من اعتماد أغلب هذه الدراسات علي المصادر العربية التي نقلت إلي اللغات الأوروبية، فإن جزءاً هاماً منها كان لا يزال تحت تأثير النزعة المسيحية الكنيسية، ولو مع تباينها واختلاف مشاربها، إلا أن ما يلاحظ في ضوء الأفكار المقدمة أن أغلبها اتسم بالكراهية والحقد، وتحديداً ما يخص كتابات مراتشي ضد الإسلام والنبي، وإن حاولت فيما بعد أن تتغطي بستار العلمية الوثائقية في كتابات لامانس في بداية القرن العشرين، ولم يستطع هذا الأخير أن يخفي حقده اللامتناهي وهو يحاول توليد وتأويل النصوص لتصب في سياقه الفكري لخدمة أهل الكنيسة.إلا أن هذا الاتجاه بالرغم من تأثيره في بعض الكتابات الاستشراقية التي عبرت عن نفسها في مقالات متنوعة قد تم تجاوزه نسبياً، مع العلم أن الهدف الرئيس الذي ظل يحرك أكثر الدراسات المعتمدة علي المنهج التاريخي المقارن كان منصباً علي محاولة البحث عن دور المسيحية وتأثيرها في العقيدة الإسلامية، وهذا ما حاوله تور أندريا واهرنس، والذي اعتبر موقف النبي محمد من المسيح وأمه مريم العذراء موقفاً مسيحياً. وكما يقول مكسيم رودنسون في هذا الصدد : إن هذا الاتجاه كان يصطدم بالدراسات اليهودية التي كانت بدورها تدعي تأثير الديانة اليهودية في الإسلام، كما حاول أن يؤكد ذلك سنة 1833 رابين أبراهام كيجر.وينبغي انتظار حقبة زمنية في مجال البحث للتوصل إلي خلاصة إيجابية نسبية تنطلق من فكرة: إن بحث العوامل المؤثرة ينبغي ألا يلغي جوهر وأصالة الظاهرة الدينية التي تعتمد علي مفاهيم خاصة وبها، وإيديولوجية منبثقة من الظرف التاريخي الذي أعطاها قوتها ومفاهيمها وقيمتها الإنسانية بشكل متواز مع دلالاتها التاريخية، وهذا ما أكدته أغلب الدراسات العلمية في عصرنا الحاضر.خلاصـةإن ما يمكن أن نستخلصه من هذا العرض يتحدد في الصورة ذاتها التي كونها الأوروبيون المسيحيون عن الإسلام منذ القرون الوسطي، وأسلوب التعامل ضمن إيديولوجية غارقة في الوهم والكراهية مع آيات القرآن وشخصية النبي، سواء في سياق التطور التاريخي العام، أو في سياق تطور الفكر المسيحي نفسه، وتطور أدوات البحث العلمي.وكنا رأينا حسب أغلب الكتابات أن نقل القرآن لم يكن مجرداً لذاته، بل كان يدخل ضمن نطاق رد الفعل بعد مرحلة ازدهار الحضارة العربية، ونضج الفكر الفلسفي الإسلامي وعطائه، والذي انتقل إلي أوروبا. لقد كانت هناك محاولة رد الاعتبار، علي أساس الإسفاف بالآخر، وذلك للبحث عن الهوية المميزة للذات الأوروبية، وهذا لم يكن ليتم إلا عن طريق الآخر، كحالة مناقضة. ومن هنا بدأت مرحلة ما يسمي بالتوهج الديني المسيحي والدفاع عنه ونصرته. وبغض النظر عن الجدل الديني الكنيسي حول الديانة الإسلامية الذي لم يكن يخرج عن إطار النزهات والشتائم والخرافات الشعبية، فإن مناقشة العقيدة الإسلامية ساهمت في خلق مجال الأبحاث المقارنة لعلم الأديان، كما ساهمت في خلق وعي ديني مسيحي لما أراد أن يؤكد هويته من خلال رؤية للآخر.إن وعي أوروبا المسيحية الذي بدأ يستيقظ خلال القرن العاشر الميلادي، استمد قوته وأسسه العلمية الفلسفية من التراث الإسلامي الذي كان في أوج القوة التي تكونت آنذاك، كما أوضحت من خلال الفعل ورد الفعل، وهو الذي أعطي إمكانية للفكر الأوروبي أن يؤسس قواعد المعرفة الفلسفية، سواء عن طريق ما تم نقله من الفلسفة الإسلامية إلي اللغة اللاتينية، أو طريق الصراع الديني الذي تحول إلي هجوم مكثف علي الإسلام. وهذا الهجوم بدوره تحول إلي مادة أراد الأوروبي المسيحي من خلالها أن ينظر إلي ذاته، وتحقيق الذات يفرض معرفة الآخر، معرفة أدواته وأساليب تفكيره والهوية المكونة لذاته. وهذا ما كان يدعو إليه ريمون لول الذي قضي حياته بأكملها متجولا في الإمارات والبلدان العربية عندما كان يلح علي ضرورة التعمق في الدراسات الشرقية، لا في مجال الدين فحسب، بل وفي ميدان العلوم والفلسفة العربية، لأن ذلك كان بالنسبة إليه السلاح العلمي للرد علي الإسلام ونشر الدعوة المسيحية. إن اللاهوتيين الأوروبيين والرهبان لم يكتفوا فقط بنقل شرائع الإسلام والفلسفة العربية للرد عليها، والدخول معها في جدال مثمر، بل اتجهوا إلي خلق الأساطير والخرافات والأكاذيب حول الديانة الإسلامية ومؤسسها، وهذا في حد ذاته مؤشر للأزمة النفسية التي كانت تعيشها أوروبا المسيحية التي تحكمت فيها النوازع، وغرقت في الذاتية المفرطة إلي ما لا حدود له، وتحول الشرق إلي أسطورة في الذهنية الأوروبية، وقد سقط في رأيهم بين أيادي الكفرة، وهذه الكلمة أصبحت دلالتها اللغوية في أغلب الأحيان تعني المسلمين بالدرجة الأولي؛ وهذه الرؤية انعكست علي أغلب الدراسات، وعلي الخصوص الدراسات التي تتناول تاريخ الشرق إلي حدود القرن الخامس عشر. وكما يقول بارتلد إن الفكرة السائدة آنذاك هي أن شعوب الشرق لم تكن وليس لها تاريخ حسب المفهوم الأوروبي للكلمة، وقد استمر هذا الجهل إلي بداية القرن الثامن عشر عندما بدأت تظهر الدراسات الشرقية حول التاريخ القديم للشرق .إن هذا لا يعني أن هناك تحولا في المفاهيم، بل هو اعتراف جزئي سيعرف اتجاهات مختلفة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وهذا مجاله دراسات معمقة مستقلة ينبغي أن تصبح مادة للبحث، وعلي الباحثين العرب الاهتمام بها، وهذا لن يتأتي إلا بتكوين مكتبة علمية عالمية تهتم بما يكتب عن العرب والإسلام، وهذا ما ينبغي الاهتمام به والتركيز عليه، فهل هناك آذان صاغية؟7