‘الذهاب إلى السينما’ لسيد فيلد: المسافة بين المعرفي والجمالي

حجم الخط
0

دمشق ـ ‘القدس العربي’ ـ من أنور بدر: في هذا الزمن الذي غابت فيه السينما عن سورية، غابت كمهرجان وصالات عرض، وغابت كمؤسسة عامة وعملية انتاج، لازالت المؤسسة العامة تحافظ على بعض إصداراتها القيمة في هذا المجال، التي أغنت المكتبة السينمائية بروائع الكتب النقدية والدراسات الفكرية والجمالية في عالم السينما، لكن المفارقة أن نقرأ ‘كتاب الذهاب إلى السينما’ في وقت حرمنا فيه هذه المتعة منذ نيف وسنتين تقريباً، هما عمر الثورة السورية.
يُصدّر المؤلف سيد فيلد كتابه ‘الذهاب إلى السينما’ بعبارة جوزيف كونراد التي تعبر أصدق تعبير عن السينما
مهمتي أن أجعلكم تسمعون،
أجعلكم تشعرون – وقبل كل شيء – أجعلكم تشاهدون .
هذا كل شيء، وهو كل شيء.
*****
عاش سيد فيلد حياته في هوليوود، كمكان وثقافة وعلاقات، وعمل في فضائها السينمائي حتى أصبح واحداً من نجومها المعروفين في كتابة السيناريو، ومدرساً له كعلم، ومؤلفا لكتب تعد اليوم مراجع كلاسيكية في مجال كتابة السيناريو والنقد السينمائي، وما زالت تدرس حتى الآن في المعاهد والأكاديميات المختصة، كما سبق وترجم له في تسعينيات القرن الماضي إلى العربية كتابه المهم ‘فن كتابة السيناريو.’
أما كتاب ‘الذهاب إلى السينما’ الذي ترجمه عن الإنكليزية أحمد الجمل، وقام بمراجعته عن الألمانية المخرج قيس الزبيدي، فيشكل نوعاً من السيرة الذاتية، إذ يكتب سيد فيلد رحلته في عام السينما التي امتدت لأربعة عقود، رحلة مليئة بالتفاصيل الحميمية واللقطات الممتعة، لشخص ترعرع في استديوهات التصوير وصالات العرض، إذ يقول: ‘يبدو الأمر وكأنني أمضيت معظم حياتي جالساً في صالات سينما مظلمة، أحمل في يدي كيساً من البوشار، سابحاً في الخيال، محدقاً بالصور التي تُعرض، من الأضواء المتدفقة من الشاشة العملاقة’.
هي رحلة صبي نشأ وترعرع في مدينة السينما هوليوود، مما منحه فرصة أن يلعب ويلهو في أروقة الفن وبين الفنانين، منذ أن كان في الثانية من عمره، فيخبرنا: حيث كان خالي سول يعمل رئيساً لقسم التصوير في شركة فوكس للقرن العشرين. وكان جارنا في البيت المحاذي لبيتنا، يعمل وكيلاً للممثلين، وهو الذي أعطانا، أنا وأخي، كما قيل لي بعدئذ، دوراً صغيراً جداً، في فيلم ‘ذهب مع الريح’Gone With the Wind. كنا حينها أطفالاً، لا أتجاوز أنا السنتين، بينما أخي لا يتعدّى السنوات الأربع من العمر، ولعبنا معاً دور طفلين وسخين، يرتديان ملابس رثة، والداهما شابان من الجنوب هاربان من وجه اليانكي المتشددين. ولسوء الحظ، انتهى مصير المشهد في غرفة التوليف (المونتاج) إلى الحذف. وبعد سنوات قليلة وبينما كنت أعزف على البوق (ترومبيت) في فرقة الأطفال التابعة للعمدة شريفس بويز باند، تم اختياري، كما حدث لأخي من قبلي، لأكون أحد أفراد الفرقة في بلاتوه التصوير لفيلم فرانك كابر ‘ولاية الاتحاد ‘State of the union من بطولة سبنسر ترايسي وكاثرين هيبورن. غير أني لا أتذكر الكثير عن تلك التجربة، سوى أن فان جونسون علمني لعبة الداما.
كنت أقضي أمسيات أيام السبت متسللاً إلى دار سينما غوردون المجاورة، لكي أشاهد تلك القصص القديمة الرائعة من أفلام فلاش غوردو وبوك روجرز، وفي أثناء سنوات المراهقة أصبحت عادة الذهاب إلى السينما حالة من حالات الولع، وشكلاً من أشكال اللهو والترفيه، وموضوعاً للحديث ومكاناً للقاء والتسلية، ومن حين لآخر عشنا لحظات لا تُنسى: شاهدنا مثلا كيف تطورت العلاقة بين بوغارت ولورينا باكال في فيلم ‘أن تملك أو لا تملك ‘To Have and Have Not، وكذلك شاهدنا رقصة والتر هيوستن الجنونية الرائعة، عندما عثر على الذهب في الجبال في فيلم ‘كنز سيرا مادره- The Treasure Of the sierra Madre’ أو مشاهدة براندو وهو يسير مترنحاً، على جسر تفريغ حمولة السفن في نهاية فيلم ‘على شاطئ الميناء’On the Waterfront..
وقد وقع الاختيار على أحد أفضل أصدقائي في مدرسة هوليوود العليا، فرانك مازولا، ليكون مستشاراً لـ’شلّة’ الشباب العابثين في فيلم نيكولاس راي الذي عرف طريقه للنجاح ‘متمرد بلا سبب’Rebel without a Cause. حينما لعب دور كَرنْش. وأصبحت الشلّة، التي انتميت إليها، مركز أحداث الفيلم، الذي جعل من جيمس دين معبود جيلنا. قصصنا شعرنا مثله وقلدنا طريقته في المشي وأسلوبه في الحكي وقلدنا طباعه الأخرى. نعم، بوسعي أن أقول وبكل صدق إنني كنت طفل هوليوود’.
*****
رحلة فيلد امتدت من المسرح إلى السينما، وفي السينما انتقل من اللعب والهواية إلى الاحتراف كمخرج لأفلام وثائقية، قبل أن يسرقه النقد السينمائي، ليصبح لاحقا من أهم كتاب السيناريو. يقول في هذا الصدد ‘في فترة العامين ونصف العام التي كنت فيها رئيساً لقسم القصة في سينيه/ مويايل، كنت أبحث عن مادة لتقديمها لشركائنا الماليين، ولهذا قرأت أكثر من ألفي سيناريو، وأكثر من مئة وخمسين رواية، ومن بين تلك النصوص الألفين ونيّف وجدت فقط أربعين نصاً صالحاً يمكنني تقديمها’. ويتابع في كتابه ‘تابعت طوال خمس وثلاثين سنة، كيف أصبحت السينما ليست فقط جزءا مكملا لثقافتنا، جزءا من تراثنا، إنما كيف باتت تشكل أسلوب حياة، يوسم العالم كله، فما أن يجلس الجمهور في عتمة صالة السينما، حتى ينضم الى كيان واحد يرتبط عبر وحدة من مشاعر وجدانية برابطة خفية وعميقة لروح انسانية، توجد في ما وراء الزمان والمكان والمحيط’.
رغم إيمان فيلد بأن السينما لغة عالمية واحدة تقوم على الصورة قبل كل شيء، لكن الذي يمسك بعناصر الفيلم مجتمعة هي القصة، وهو عموماً تلخيص للاتجاه الأمريكي الذي يعتبر أن الفكرة تتطوروتتحول إلى قصة من خلال المعالجة الدرامية، فيما الاتجاه الأوروبي لازال يرى أن الفكرة التي تقف وراء الفيلم هي أهم بكثير من القصة، وهو بذلك تأثر بالمخرج الفرنسي جان رينوار الذي يعتبره أستاذه الأول، حيث تعلم منه كيف يشتغل على أفكاره كتابة حتى يحصل على ما يريد أن يحكيه لنا في الفيلم، كما تأثر باتجاه جان- لوك غودار لفهم العلاقة بين الشكل والمضمون في حركة الموجة الجديدة للسينما، وهو يعترف أن هذه التجارب وسواها ربما أفادته أكثر من دراسته الأكاديمية.
‘الذهاب الى السينما’ ليس كتاباً في طقوس المشاهدة فقط، بقدر ما هو كتاب عن السينما، يأخذنا عبر 343 صفحة من سرد شيق أقرب إلى حكاية بضمير المتكلم، عن تجربة شخصية وغنية في عالم السينما في هوليوود، خفايا العلاقات وكتابة السيناريو وأبعاد صناعة السينما وتسويقها في أمريكا، كتاب يمتح من المستوى التقني ليضيء لنا المستويات المعرفية والجمالية في عالم السينما، ويتحول في أسلوب علمي ومنهج تعليمي إلى شهادة في أهمية السينما وأبعادها الثقافية والانسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية