الذكاء الاصطناعي والنظرية المعرفية

يعد الأمريكي ديفيد هيرمان من أوائل المهتمين بدراسة علاقة الذكاء الاصطناعي بالسرد، وغايته توسيع مجالات السرد واكتشاف ضروب جديدة فيه. وخلال العقدين المنصرمين تنوعت الكتب التي تبحث في هذه العلاقة ومنها كتاب (كتاب كلاسيكيات روتلدج والنظرية المعرفية) 2019، بتحرير ثلاثة نقاد أنكلوأمريكيين، قدّم له ديفيد كونستان أستاذ الكلاسيكيات في جامعة نيويورك المتخصص في الرياضيات والفيزياء القديمة والنظرية الذرية، ومما أكده في المقدمة صلة النظرية المعرفية بالسرد ودور الدماغ في إرسال إشارات عصبية خلال الكلام، وأثر هذه الإشارات في نظم الملاحم الهومرية.
ولأن النظرية المعرفية تقوم على تعدد التخصصات وتداخلها، شبّه كونستان الدراسات ما بعد الكلاسيكية بالقلعة التي يشيد بناؤها من عدة أجزاء، أو غرف منفصلة لغويا ودلاليا ولكنها بالمجموع متداخلة ويؤدي بعضها إلى البعض الآخر. ورأى أن أكثر العلوم المعرفية استعمالا على نطاق واسع هو (علم اللغة النفسي) الذي يدرس عمل العقل وتعدد الحواس، كالتعرف والإدراك والتنافر، والتأثير والتقليد والتذكر، وردود فعل الجمهور والذكاء الاصطناعي وغيرها. وركّز كونستان على ما للنظرية المعرفية من سعة، فهي ليست محددة بمجالات معينة، وأشاد بالباحثة أنا وزبركا من جامعة كامبريدج التي درست في كتابها (العواطف العابرة للغات والثقافات) 1999 علاقة اللغة بالثقافة في التنوع وعالميته، واتخذت من النظرية المعرفية، أو العلم المعرفي طريقا نحو التعدد في التخصصات التي فيها تجتمع دراسة العقل البشري بسلوك الإنسان والفلسفة وعلم النفس وعلوم اللغة والأعصاب والذكاء الاصطناعي والأنثروبولوجيا والروبوتات وغيرها.
ويعد (كتاب كلاسيكيات روتلدج والنظرية المعرفية) واحدا من تطبيقات هذه النظرية على الآداب الكلاسيكية اليونانية والرومانية، جامعا حداثة النظرية المعرفية بقدامة هذه الآداب، من أجل دراسة عمليات الإدراك والتأثير والشعور، التي تجري داخل العقل وما يتم خلالها من إنتاج للأفكار وتمثيل مسرحي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تطبيق هذه العمليات على المنهجيات النظرية المعرفية المتعلقة بدراسة المسرح والذكاء الاصطناعي، الذي أخذ مجال الاهتمام به يتوسع بعد 1956 أي مع إطلاق مشروع دارتموث الصيفي للأبحاث النظرية حول دور أجهزة الكومبيوتر في أداء الوظائف التي تتطلب ذكاء بشريا. ويعد الأدب عامة وكلاسيكياته خاصة أحد تلك المجالات؛ إذ أن البحث في كيفية إنتاج هذه الكلاسيكيات سيساهم في تطوير تطبيقات برامج الكومبيوتر. ومن هذه البرامج: مجموعة أدوات اللغة الكلاسيكية لكايل جونسون، والبرنامج عبارة عن برمجة مفتوحة تعالج الطبيعة اللغوية للنص الكلاسيكي في العصور القديمة عبر الإفادة من تقنيات التعلم الآلي وتقسيم الجمل ووضع علامات على أجزاء الكلام، والبغية إيجاد طريقة لاختيار وتكوين شخص اصطناعي على شاكلة النماذج اليونانية القديمة كهزيود وباندورا. أي تمثيل اصطناعي لحياة الإنسان قديما، يعيد استنساخ عمليات الإدراك والذكاء الموظفة في إنتاج الأدب القديم، والعمليات التفكرية الداخلة في إنتاج الدراما اليونانية بوصفها فعلا ثقافيا يقوم به عقل محاكاتي. ويتمثل الشخص الاصطناعي – كمكونات ذاتية التشغيل – في شكل إنسان بصفات جسدية معينة، ومعه حيوانات وأدوات مادية مستعملة آنذاك. وبآلية النسخ الاصطناعي للوظائف العقلية، يتم تصوير ما يجري على مسرح يوربيدس، أو أرستوفانس من تأثيرات جسدية يجتمع فيها العقل البشري بالجسد الاصطناعي.

ويتألف الكتاب من ستة أقسام هي: لسانيات المعرفة / نظرية الأدب المعرفية/ المعرفة الاجتماعية/ الأداء والمعرفة/ الذكاء الاصطناعي/ علم الآثار المعرفي. وحاصل مجموع الأبحاث التي تضمنتها هذه الأقسام هو أربعة وعشرون بحثا، منها بحثان تضمنهما القسم الخامس الخاص بـ(الذكاء الاصطناعي) وعُني أحدهما بالدراما الإغريقية والآخر بالملحمة الإغريقية تحت عنوان (عقل هيفاستوس الممتد: الأتمتة والذكاء الاصطناعي في البحر السداسي الإغريقي المبكر) للباحثة أيمي لاثر، وفيه درست موضوع هيفاستوس Hephaestus وهو ابن زيوس كبير الآلهة وأمه هبرا، وهو يُعرف في الميثولوجيا الإغريقية برب الحدادة والنار وصناعة البرونز، وهو الذي شج رأس أبيه زيوس لتخرج منه الإلهة أثينا. أما البحر السداسي فيعني نظاما سطريا مؤلفا من مقطعين طويلين ومقطعين قصيرين، وبه نظمت الإلياذة والأوديسة وبأغراض شعرية مختلفة. واستعمل هوراس النظام السداسي لغرض الهجاء.. علما أن أصول الملاحم الهومرية تعود إلى الأساطير اليونانية كأسطورة أورفيوس وباندورا. وطرحت الباحثة سؤالا عن ماهية العقل الصناعي للإنسان الآلي الروبوت ودوره في إدراك الآلية، التي من خلالها ينظم الإنسان الشعر على البحر السداسي القديم، وتتبعت نشأة النشاط العقلي عند الإغريق كعمليات معرفية تجري داخل الدماغ وبها يتحدد الإدراك ودرست العمليات الحاسبوبية او الآلية التي بها تتمكن التكنولوجيا من أن تحاكي ذاك النشاط.

وتوصلت إلى أن عقل هيفاستوس يمكن أن يصبح ممتدا باستعمال الذكاء الاصطناعي كإطار تفسيري، به تتم محاكاة العقل الإدراكي في إنتاج اللغة الشعرية بطريقة تكنولوجية أي (فكر في التفكر Think about Thinking). ومن خلال الأتمتةAutomation يتحول الشيء المرسوم إلى شيء متحرك بشكل أوتوماتيكي ومن ثم تبدو أي صورة استعارية غير معقولة إلى مشهد بصري معقول وممكن الحصول، بمعنى أن خيال الشاعر الذي صنع شخصية هيفاستوس ستصبح منسوبة إلى شاعر (روبوت) أوتوماتيكي الذاكرة يمتلك القدرة السحرية نفسها بوسائط افتراضية تتخيل ما هو مجازي، ثم تحوله إلى كائن حي باستعمال ثلاث عمليات هي: اللغة/ الإدراك/ الذكاء الاصطناعي كما في درع أخيل، بطريقة التحريك الذاتي self moving لبوابات الأولمب، وحوامل هيفاستوس التي منها صنع العروش الذهبية للآلهة، ما عدا والدته هيرا التي كان عرشها بحوامل ثلاثية ذاتية الحركة لتقديم الأعطيات في أعياد الآلهة، وبهذا تصبح الأسطورة مادة بصرية ممثَلة آليا بالذكاء الاصطناعي وبطريقة معقدة في علاقاتها عبر إضافة اللغة والصوت البشري إلى المجسم الأوتوماتيكي الشبيه بالبشر في قدراته المعرفية، فيغدو هيفاستوس ذا حياة واقعية مثل أي كائن بشري. إن ما يجعل عقل هيفاستوس ممتدا هو أن كل كلمة وضعها هوميروس تتم محاكاتها اصطناعيا بصوت بشري، فصوت الابنة المصنوع جسدها من الذهب، غير صوت الخادمة المصنوع جسدها من لحم ودم. وتساعد القطع المتحركة النابضة والحيوية في توسيع عملية التفكر في التفكير وبشكل خاص العلاقة التفاعلية بين الجسد والانعكاس الذاتي للإدراك الذي به يحاكي الذكاء الاصطناعي مستويات التفكير عالية المستوى والعمليات المعرفية عند الشاعر، وردود فعل الجمهور على غرار أتمتة عقل هيفاستوس المجازي، أو أتمتة عقل باندورا Pandoraفي قصيدة (الأعمال والأيام) لهزيود والمؤلفة من 800 بيت.
وباندورا في الأسطورة الإغريقية امرأة صنعت بأمر زيوس من الماء والتراب في شكل شابة فضولية تعاقب البشر على قبولهم هدية النار من بروميثيوس. وقد حاكاها الذكاء الاصطناعي في شكل صندوق او قمقم تخرج منه باندورا /الإنسان الآلي المزود بأنظمة تشغيل، ومن خلالها يصبح السرد والسيناريو نابضا بالحياة وكأنه حقيقة. وتؤكد الباحثة لاثر، أنه ما ان يفتح (المفكرون البروميثوسيون الجدد) صندوق باندورا حتى يصعب إغلاقه. وستكون محاكاة مشاعر الرعب والخوف هي نتيجة الامتداد في التفاعل بين الكائن الحي والذكاء الاصطناعي، ويكون دور اللغة كبيرا في خلق كائنات جديدة لم يسبق لها مثيل، وتكون عجيبة عبر روبوتات تحاكي لغة الشاعر ومشاعره وأفكاره في صنع الشخصيات التي عرفها الفكر الإغريقي القديم.
إن مثل هذه الأبحاث التي فيها يسلط الضوء على الكيفية التي بها يمكن محاكاة العقل البشري القديم والحديث بالإفادة من الذكاء الاصطناعي ما تزال في أولها، وهي مصدر للدهشة والغموض بسبب ما يمتلكه الذكاء الاصطناعي من طرائق التفكر في التفكير نفسه.

 كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية