الخاتون: مس بيل في العراق (2 ــ 3)

حجم الخط
0

الخاتون: مس بيل في العراق (2 ــ 3)

بيل وصفت العلامة أنستاس الكرملي بالخبيث.. وآمنت باستحالة تحقيق وعد بلفور وإقامة وطن قومي لليهودمارك سايكس صاغ بيان تحرير بغداد ونشره الجنرال مود علي مضض تطبيقا لتعليمات الحكومة في لندنالخاتون: مس بيل في العراق (2 ــ 3)نجدة فتحي صفوةبيرسي كوكس الاستخبارات والسكانوكانت اعمال بيرسي كوكس في بغداد كثيرة. فالي جانب تنظيم اعمال الاستخبارات كان ـ بوصفه رئيسا للضباط السياسيين ـ واسطة الاتصال بين قائد الجيش والسكان المدنيين، ومستشاره في اتصالاته السياسية بهم. وكان معظم وقته يصرف في مقابلة الوجهاء والشيوخ من شتي انحاء العراق، مما اظهر الحاجة الي مساعدة شخص خبير بتاريخ العشائر وانسابها، عالم باتجاهاتها والعلاقات بينها. وكانت مس بيل خير من يستطيع القيام بها العمل. ولكن قائد القوات البريطانية، الجنرال مود، اعرب عن مخاوف كبيرة حينما علم ان امرأة ـ مهما كانت كفاءتها ـ آتية للانضمام الي السكرتارية. كما انه خشي ان يتخذ قدومها سابقة بالنسبة لزوجات الضباط اللواتي قد يطالبن بالانتقال الي بغداد اسوة بها، وهو امر لم تكن السلطات البريطانية قد سمحت به بعد. ولكن السير بيرسي كوكس تمكن من اقناعه بعد ان اكد له بانها قادرة علي تقديم خدمات يعجز عنها اي عضو اخر في الادارة السياسية.وبعد احتلال بغداد بأسبوع واحد، كانت غيرترود بيل في طريقها اليها من البصرة علي ظهر باخرة عسكرية بريطانية. وكانت رحلة نهرية بطيئة استغرقت تسعة ايام. وفي 15 نيسان (ابريل) وصلت بغداد، وكانت الدار التي خصصت لسكناها ـ علي قولها ـ اشبه بعلبة خانقة، فقضت فيها ليلة، ثم خرجت تبحث عن غيرها، فعثرت في محلة السنك ، قرب مدرسة الدهانة في ذلك الوقت، علي بستان ورد فيه ثلاثة بيوت صيفية تعود لاحد اصدقائها القدماء، وهو موسي جلبي الباجه جي، فانتقلت اليها بعد خمسة ايام.اصبحت مس بيل عنصرا مهما في هيئة موظفي السير بيرسي كوكس، وكانت ـ حسب تعبيرها ـ تقوم بوظيفة غربال لحشود الزوار والوفود واصحاب الحاجات الذين يتدفقون علي مقره يوميا طالبين مقابلته. وكانت تزود السير بيرسي مع كل زائر بورقة تبين له فيها القبيلة التي ينتمي اليها، والمنطقة التي يمثلها، وما تعرفه عن ماضيه وميوله، والغرض من المقابلة، مما كان يوفر عليه كثيرا من الوقت ويسهل له العمل.وقد وجدت مس بيل علي اثر وصولها الي بغداد ان هناك توترا شديد في العلاقات بين الجنرال مود، قائد القوات البريطانية، والسير بيرسي كوكس، رئيس مستشاريه السياسيين. وكان مبعث هذا التوتر هو الاختلاف الصارخ بين عقليتيهما وشخصيتيهما.كان الجنرال مود عسكريا ممتازا، همه الاول متابعة الحرب، ومواصلة انتصاراته لاستكمال فتح العراق صعدا الي الشمال. وكان في اتصالاته بسكان اراضي العدو المحتلة ـ كما كانت توصف في ذلك الوقت ـ يتصرف تصرف الفاتح العسكري دون اعارة اي اهتمام للاعتبارات السياسية، او مشاعر سكان البلاد.والواقع ان البيان الذي اصدره الجنرال مود بتوقيعه حين دخوله بغداد، مؤكدا لسكانها ان البريطانيين دخلوا محررين لا فاتحين لم يكن من انشائه، بل انه كان معارضا له بشدة، ولم ينشره الا علي مضض، وبناء علي تعليمات من الحكومة البريطانية التي ابرقت اليه بنص البيان. وكان الذي دبجه هو السير مارك سايكس، احد طرفي معاهدة سايكس ـ بيكو سيئة الصيت.اما السير بيرسي كوكس فكان سياسيا محنكا خبيرا في الشؤون العربية، عاش بين العرب سنوات طويلة بصفة مقيم بريطاني في الخليح. وكان بوصفه مسؤولا عن اتصالات القيادة العامة بسكان البلاد، معنيا بانشاء ادارة مدنية تحل محل الادارة العثمانية التي انسحب معظم موظفيها مع القوات التركية، وبموافاة الحكومة البريطانية بتقارير دورية ومنظمة عن الاحوال العامة في البلاد. ولكن الجنرال كان يميل الي التسلط، ولا يبدي اي اهتمام لتعليمات الحكومة حول السياسة الواجب اتباعها ولا لآراء كوكس، بل كان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة بصورة مستمرة وغير ضرورية، بحجة الضرورات العسكرية. وفي عام 1917 كانت العلاقة بين الرجلين قد بلغت ذروتها من التوتر، وابرق السير بيرسي كوكس الي لندن طالبا تعزيز مركزه، وتمكينه من القيام بواجبه بصورة صحيحة، او اعفاءه من منصبه.وفي هذا النزاع بين القطبين العسكري والسياسي كان للمس بيل دور حاسم. فقد صادف ان قام السير رونالد ستورز، من كبار رجال المكتب العربي في القاهرة بزيارة الي بغداد، فشرح له كوكس موقفه، وعرض مآخذه علي الجنرال مود، وأيدته في ذلك المس بيل تأييدا قويا. وبادرت مس بيل من جهة اخري الي كتابة رسالة مفصلة الي السير آرثر هيرتزل، وكيل وزارة الهند، الذي كانت لها به معرفة وثيقة، فاطلع عليها وزير الخارجية اللورد كرزن، وتمكن من حمل الحكومة البريطانية علي تأييد كوكس والاستجابة لطلباته.الأب أنستاس الكرمليومع ذلك فلو علم السير بيرسي كوكس، وغيرترود بيل، بما كانت الاقدار تخفيه للجنرال مود، لما كلفا نفسيهما كل هذا العناء، بل اكتفيا بالانتظار بضعة ايام اخري. ففي مساء 14 تشرين الثاني (نوفمبر) حضر الجنرال مود حفلة اقامتها مدرسة الاليانس اليهودية في بغداد لتكريمه، وهناك قدمت اليه القهوة كما قدمت الي غيره. ولكنه طلب شيئا من الحليب ليضيفه علي القهوة، فجيء له بحليب ربما كان غير مغلي، وكان مرض الكوليرا منتشرا في بغداد في تلك الفترة، ويبدو ان الحليب الذي قدم له كان ملوثا بجراثيمه، فأصيب الجنرال بالكوليرا، ومات بعد اربعة ايام، وانتهت المشكلة بهذا الحل الجذري. وقيل في حينه ان جهة ما دست السم للجنرال مود في القهوة، والله اعلم. وقالت مس بيل في رسالة كتبتها علي اثر وفاته: لم يختر احد للموت وقتا افضل من الذي اختاره الجنرال مود.. .ورغب الانكليز بعد احتلال بغداد في اصدار جريدة تنطق بلسانهم وتعبر عن سياستهم، فأطلقوا عليها ـ باقتراح من الاب انستاس الكرملي ـ اسم العرب ، وصدر عددها الأول في 4 تموز (يوليو) 1917، وقد عهد بادارة الجريدة ورئاسة تحريرها الي المستر جون فيلبي في باديء الامر، وكان يساعده الاب انستاس، ثم تولت مس بيل ادارة سياستها بعد ان تركها فيلبي، وكتبت في ذلك الي والدها تقول: انني ابدأ اعمالا جديدة وطريفة، احدها رئاسة تحرير (العرب) وهي الجريدة المحلية التي نصدرها. وتملأ ذهني الخطط لجعلها اكثر حيوية بالحصول علي مراسلين في شتي المناطق، ومحرر للاخبار المحلية. وانني واثقة بان القراء سيهتمون لسماع ان ابن فلان فرضت عليه غرامة لخروجه بدون فانوس بعد حلول الظلام، اكثر من اهمامهم بالاخبار التي تفيد ان قرية مجهولة في الفلاندر قد قصفت.. .ثم تشير الي الاب انستاس فتقول: الاب انستاس، مساعد رئيس التحرير، يأتي اسبوعيا لقراة المقالات الافتتاحية التي اقوم بمراقبتها. وهو عربي من لبنان، اشبه بشخصية خارجة علي التو من احد مؤلفات شوسر، عظيم المعرفة بلغته، كما انه يتكلم الفرنسية ويكتبها وكأنه احد ابنائها.ثم تقول: ولا يقلل من حبي له اقتناعي بانه ـ علي الرغم من ثيابه الكهنوتية. رجل خبيث.. .وفي ايلول سنة 1917 التحق الكرنل ارنولد ويلسن (السير ارنولد ويلسن فيما بعد) بهيئة موظفي السير بيرسي كوكس، واصبح نائبا له. وعلي الرغم من الاختلاف بين طبائع الرجلين والتباين في آرائهما، فمن الغريب ان التفاهم بينهما كان سائدا طيلة عمل الكرنل ويلسن مساعدا او نائبا للسير بيرسي كوكس. اما علاقة ويلسن بالمس بيل فكانت مختلفة جدا.وفي ربيع سنة 1918 استدعي السير بيرسي كوكس الي لندن للمشاورة، وانتهي الامر باعارة خدماته ليكون وزيرا مفوضا في ايران، فأصبح الكرنل ويلسن وكيلا للحاكم المدني العام في العراق، وبقي علي رأس الادارة المدنية في العراق خلال سنتين حافلتين بالمشاكل والاضطرابات، وكان الرئيس المباشر للمس بيل طيلة هذه المدة.كانت تقام في العراق، مع تقدم الجيش البريطاني فيه، ادارة مدنية جديدة، وكانت هذه الادارة تنظم علي اساس اعتبار العراق منطقة من مناطق الهند، وكان الهدف النهائي هو ضم العراق الي الهند ليصبح جزءا من الامبراطورية البريطانية.ولكن مع التغيير الذي طرأ علي الجو الدولي بعد الهدنة، لم يعد ضم العراق الي الهند مقبولا دوليا، وكان علي بريطانيا ان تبحث عن صيغ اخري للابقاء علي سيطرتها، ولذلك كان لابد من اعادة تخطيط السياسة البريطانية بحيث لا تقتصر علي تحقيق اهداف بريطانية فقط، بل تطمئن في الوقت نفسه مطامح الرئيس الامريكي وود رو ويلسن التي عبّر عنها بمبدأ تقرير المصير وتكافؤ الفرص الاقتصادية لجميع الدول، ضمن بنوده الاربعة عشر. ولم يكن نظام الانتداب الذي ابتدع الا محاولة للتوفيق بين مصالح الشركاء المتناحرين، علي الرغم من ان تطبيق الانتداب عمليا كان سيضمن اعطاء الاولوية لاهداف بريطانية الاستراتيجية والتجارية.وقد وجد كثير من البريطانيين صعوبة كبيرة في قبول هذا التغيير، وما ارتاحوا له، وخاصة السير آرنولد ويلسن الذين كان مطلق اليدين في ادارة البلاد بين سنتي 1918 ـ 1920 ولا شك ان اصراره علي تجاهل تطورات الوضع الدولي، والجو الجديد الذي ساد في لندن، ادي الي نتائج وخيمة جدا وربما كانت الاضرار التي عادت بها سياسته علي مصالح بريطانية اكبر مما عادت به علي العراق.كان ويلسن استعماريا بنشأته وثقافته وآرائه السابقة. وكان من اولئك المؤمنين بـ رسالة الرجل الابيض وبأن من الواجبات التي القاها التاريخ علي عاتق بريطانيا هو حمل مشعل المدنية بين شعوب الشرق المتأخرة، كما كتب في ما بعد قائلا: ان دور بريطانيا في رعاية بني الانسان هو بث المباديء المسيحية في حكمهم. لقد كان ايماننا بالعراق، مثل ايمان هربرت ادوارد بالهند، انه كان امانة بيد الحكومة البريطانية، وانه بحاجة الي ما هو اكثر من ميزات المدنية المادية. ان سياستنا يجب ان تكون اعداد العراق للحرية اولا، ومن ثم اطلاقه حرا. وكنا نؤمن بأن العراق لن يكون اهلا لممارسة الحرية قبل ان يختمر بمبادئ المسيحية .ان اصرار ويلسون علي ضرورة بقاء العراق تحت حكم دولة اجنبية الي ان يصبح قادرا علي حكم نفسه، فضلا عن تجاهله لرغبات سكان البلاد، ومبادئ تقرير المصير، كان اشبه بمنطق من يقول للطفل لا تدخل الماء حتي تتعلم السباحة .القدرة علي التكيف مع الظروفاما مس بيل، فانها علي الرغم من كونها علي قدر كبير من الصلابة في آرائها ومواقفها، فان احد اسرار قوتها كان يمكن في قدرتها علي التكيف مع الظروف المتغيرة.ويبدو ان إقامتها الطويلة المتواصلة في بغداد قد جعلتها اكثر تفهما للامور، واحدثت تغييرا كبيرا في آرائها عن القومية العربية ومستقبل العراق السياسي. ولو قارنا بين كتاباتها المبكرة ومواقفها الاخيرة، لوجدنا التطور في آرائها واضحا. فهي حتي سنة 1919 كانت تعتقد ان ليست هنالك في الشرق الاوسط عقائد وطنية، ولا روابط قومية. فقد كتبت مثلا في كتابها الصحراء والمعمورة الذي نشر في سنة 1907 تقول ان الجمعيات التي تدعو الي الوحدة العربية، ومنشوراتها الحماسية، لا قيمة لها مطلقا، لانه ليست هنالك امة عربية.. فالتجار السوريون يفصلهم عن البدو برزخ اوسع من ذلك الذي يفصلهم عن العثمانيين. والبلاد السورية تقطنها اقوام تتكلم العربية، ولكن هم كل منها هو ان تمسك بخناق الاخري .ولما زارت الشرق للمرة الثانية بعد اعلان الدستور العثماني، وتولي حزب الاتحاد والترقي زمام الحكم في الدولة العثمانية، دونت ملاحظاتها في كتابها من مراد الي مراد الذي صدر في سنة 1911 فأشارت الي مرورها بالموصل، ووصفت الاضطرابات التي حدثت فيها خلال الثورة التي جاءت بالاتحاديين الي الحكم، قائلة ان الحكم العثماني هو افضل حكم بالنسبة للطوائف المختلفة والمتناحرة في المنطقة.وفي احدي رسائلها الي ابيها في سنة 1918 كتبت تقول ان العراقيين يريدون الانكليز ولا يريدون غيرهم لانهم يعلمون اننا سنحكم حسب عادات البلاد، ويدركون ان نصب امير عربي امر مستحيل .وفي مؤتمر الصلح في باريس، حينما استدعيت مع الكرنل ويلسن الي باريس لتقديم المشورة للوفد البريطاني الي المؤتمر، نصحت الامير فيصل ـ الذي كان مندوبا عن الحجاز في المؤتمر ـ ان يتفق مع الفرنسيين بشأن سورية، وان يتقرب اليهم لان الامريكيين لا يمكنهم ان يعاونوهم والانكليز لا يريدون ان يتدخلوا في شؤون سورية.ويروي رستم حيدر الذي كان المندوب الثاني للحجاز في المؤتمر بمعية فيصل، والذي حضر اجتماعاتها به، في مذكراته التي حققتها ونشرتها في سنة 1989 انه استغرب قولها هذا، واستفسر من الدكتور احمد قدري الذي كان معهم: هل مس بيل يهودية؟ قال: لا، قلت اذن هي مشتراة من الفرنسويين، او انها عشقت احد ظرفائهم، وهي تميل الي الاستعمار المطلق في الشرق. كما ان الكولونيل الذي يحكم في بغداد، مليكة الشرق، لا يريد للجنة كينغ ـ كراين ان تذهب لتري اعماله فيها، وهو لا يريد ان يجعل للاهالي صوتا مرتفعا بل يريدها كالاغنام، لان هذا لا يوافق افكاره الاستعمارية. ولنعلم ان الحزب الاستعماري المستبد الذي يتألف من امثال هؤلاء الملوك في المستعمرات، الصعاليك في بلادهم، هو حزب كبير لا يستهان بمطامعه يريد الاستبداد لانه هو الحاكم. ومس بيل معاونته، لا تري رأيا غير رأيه .ويذكر رستم حيدر في مذكراته ايضا انه اجتمع مساء اليوم نفسه بلورنس ونقل له آراء غيرترود بيل، فقال له لورنس: ان مس بيل عقلها صغير، وليس لقولها اهمية تذكر، واما الكولونيل (ويلسن) فليس من رأيها تماما، علي انه حاكم في بغداد، ويريد ان يحتفظ بموقعه .ان ما ذكرناه من قدرة مس بيل علي التكييف السيرع مع الظروف المتغيرة، جعلها تغير كثيرا من آ رائها بسرعة. وفي حين ان ويلسن بقي مصرا علي عدم الاعتراف بأن الشعور الوطني في العراق قوة يجب ان يحسب حسابها، ويجب التعاون معها بدلا من محاولة كبتها، فان مس بيل ادركت في النهاية انه يجب، علي الاقل، الاعتراف بحقيقة واحدة، وهي ان الناس يفضلون ان يحكموا أنفسهم بأنفسهم، ولو بدون كفاءة، علي ان يحكمهم غيرهم بكفاءة عالية .وكتبت في احدي رسائلها من بغداد فيما بعد: ان ما اتمني ان يقوم به السير بيرسي كوكس هو ان يعطي مواطني هذا البلد مسؤولية واسعة، فهي الطريق الوحيدة لجعلهم يعرفون اية مهمة صعبة هي الحكم. اننا اذ نشجع هذا الكائن الحي علي النمو، ونجس نبضاته في ايدينا، لا نستطيع ان نحول دون نموه وارتفاعه.. .وفي رسالة كتبتها الي المستر بومان الذي كان مديرا للمعارف في العراق في عهد الاحتلال، ثم انتقل الي عمل مماثل في القدس، قارنت بين سياسة بريطانيا في فلسطين (بادارة هربرت صموئيل) وسياستها في العراق قائلة: انني لن اقبل، ولو اعطيت الدنيا كلها، ان اعمل في تلك السكرتارية (تريد سكرتارية حكومة فلسطين) اذ ان مهمتنا في العراق مهما كانت عسيرة، فاننا علي الاقل نسبح مع التيار الموجود، وهو التيار الوطني، والذي هو، علي اي حال، الحركة الوحيدة الظاهرة، في حين انكم (في فلسطين) كما يبدو لي، مضطرون الي السير في عكس التيار .ولم تكن افكار غيرترود بيل حول ضرورة الاعتراف بواقع الشعور الوطني قاصرة علي العراق وحده، وانما كانت آراؤها في مستقبل فلسطين لا تقل عنها وضوحا، جاء في رسالة كتبتها من بغداد في مطلع سنة 1918 وبعد اعلان تصريح بلفور تقول: .. وبالمناسبة، فانني اكره التصريح الصهيوني للمستر بلفور حول سورية (وهي تريد سورية بالمعني الجغرافي الذي كان يشمل سورية ولبنان وفلسطين) واؤمن بأنه لا يمكن تحقيقه… فالبلاد بصورة عامة لا تصلح للاهداف التي يفكر فيها اليهود. انها ارض فقيرة، غير قابلة لتنمية كبيرة، وثلثا سكانها علي الاقل هم من العرب المسلمين الذين ينظرون الي اليهود باحتقار. وهو في رأيي مشروع مصطنع كليا، بعيد عن اية علاقة بالواقع، وانني اتمني له الفشل الذي يستحقه، والذي سيناله فيما اتصور.. .وفي مناسبة لاحقة كتبت الي ابيها (في 1920/10/10) تقول: .. لننتقل الآن الي منطقة اخري من مناطق الانتداب: فلسطين. ان نفس المباديء العامة يجب ان تنطبق عليها. ومع ذلك فان هربرت صموئيل خلال الشهرين الماضيين، أسس في فلسطين حكومة بريطانية ذات مستشارين عرب. وهو يفعل ذلك لأن تأسيس اي نوع من المنشآت الوطنية ذات الطابع المستقل سيؤدي الي رفض الصهيونية ــ ولكن اليس هذا شجبا كافيا للصيهونية؟ انني شخصيا اعتقد ذلك، وأؤمن انه في وقت ما، وربما بمساعدة مصر، ستنفض فلسطين عنها نير الصهيونية. وستكون الغلطة غلطتنا، لانه اذا كان هنالك درس اتاح لنا العراق فرصة تعلمه، فهو انك لا تستطيع ان تدافع عن امر، وتفعل غيره .عملت غيرترود مع ويلسن بانسجام في البداية، ولما صدر التصريح البريطاني ـ الفرنسي حول مستقبل البلاد العربية، عارضه ويلسن بشدة وابرق الي الحكومة البــــــريطانية قائلا: ان تعيين امير (عربي) في الوقت الحاضر ليس عمليا، وامر غير مرغوب فيه. ولا اعلم فيما اذا كان مثل هذا التعيين يعد التزاما ضروريا بالنسبة الي التصريح الصادر في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1918 فاذا كان الامر كذلك فانني اتوقع ان يكون النهج الذي اختارته حكومة جلالته لهذا البلد شائكا.. .ويقول ويلسن ان مس بيل طلبت اليه ان يبلغ وزير المستعمرات انها تتفق في الرأي مع ما جاء في هذه البرقية وجميع البرقيات التي ارسلت حتي ذلك الوقت حول هذا الموضوع.في سوريةولكن علي الرغم من هذا الانسجام المبدئي بدأت بوادر الخلاف تظهر في رسائل مس بيل الي والديها.وكانت قد مرت سنة كاملة تقريبا بين توقيع معاهدة فرساي وتوزيع الانتدابات في مؤتمر سان ريمو في نيسان (ابريل) 1920، ولم تصدر عن المقيمية البريطانية خلال سنة 1919 اية تصريحات واضحة عن السياسة التي تعتزم بريطانيا انتهاجها في العراق. وظهرت بوادر عدم ارتياح شديد فيه بسبب استمرار الاحتلال العسكري من جهة، وقيام دولة عربية مستقلة في سورية، من جهة اخري. اذ لم يرتح العراقيون حين رأوا ان السوريين اعتبروا قادرين علي حكم انفسهم، بينما كانوا هم ـ في نظر الحلفاء ـ غير اهل لذلك.وفي اواخر سنة 1919 قامت مس بيل بزيارة الي سورية، وقابلت هناك عددا من العراقيين الذين يشغلون مناصب مهمة في حكومتها، ابرزهم ياسين الهاشمي. ويبدو انها تعرفت هناك للمرة الاولي علي نوع الحكومة التي يريدها العراقيون الذين يعملون مع فيصل في دمشق. وقدمت لدي عودتها تقريرا من اهم تقاريرها بعنوان سورية في تشرين الاول (اكتوبر) 1919 غطي مقابلاتها ومباحثاتها خلال زيارتها. وقد ختمته بوصف الفوضي وسوء الادارة السائدين في سورية خلال حكم فيصل. ولكنها مع ذلك لم تشجب قيام حكم وطني قبل أوانه، بل بررت ذلك الوضع بأنه كان ضرورة تاريخية لا بد لبريطانيا من مواجهة مثله وقبوله في العراق ايضا وقالت: حينما نؤسس ادارة مدنية في هذه البلاد (أي في العراق) فان وجود حكومة وطنية في سورية منذ سنة أمر لن ينساه الوطنيون العراقيون .وقد اعتبر ويلسن ان سكرتيرته الشرقية، بتقريرها هذا، الذي جاء خلافا لآرائه، قد خانته وخذلته.وفي رسالة كتبتها مس بيل في 12 شباط (فبراير) 1920 اشارت الي الوضع في العراق، قائلة: وفيما عدا ذلك، فان الأمور ليست سهلة. اعتقد ان ويلسن يعالج الوضع بصورة ممتازة .وهنا كانت مس بيل مخطئة. فالواقع ان ويلسن لم يكن ليعالج الوضع بصورة ممتازة. اذ حدثت في الرميثة بعد كتابة هذه الرسالة بمدة قصيرة، الواقعة التي كانت فاتحة ثورة عارمة انتشرت في سائر انحاء الفرات الاوسط والأسفل، ثم امتدت الي بغداد وغربها وشمالها حتي بعقوبة وشهربان وسامراء.تلك هي ثورة العشرين، او الثورة العراقية التي اجبرت الحكومة البريطانية علي تغيير سياستها العراقية، والاقلاع نهائيا عن فكرة الحكم المباشر، وتطبيق سياسة الانتداب تحت قناع معاهدة بريطانية ـ عراقية.ويبدو ان احداث الثورة قد زادت في توتر اعصاب ويلسن وخشونته مع موظفيه وكل من يتصل به. فقد كتبت مس بيل في 9 ايار (مايو) 1920 تقول: ان تناول الغداء في المكتب امر مزعج نوعا ما. ويلسن يترأس اجتماعات الغداء، وهو كثيرا ما يكون غاضبا كالدب. ولذلك فان الطريقة الوحيدة هي اهماله وعدم التحدث اليه. وهـــــو لا يرتاح الي ذلك ايضا. ولكن ما العمل؟ .وحيـــــنما منح ويلسن وسام فارس الامبراطورية الهندية (K.C.I.E) الذي اصبح بموجبه يحمل لقب سير ، كتبت غيرترود في احدي وسائلها (في 23 ايار/مايو 1920): لقد منح ويلسن وسام (فارس الامبراطورية الهندية) وانني مسرورة جدا، فـــــهو جدير به كل الجدارة. اعترف أنني اتمني انهم وقد منحوه رتبة فارس، لو استطاعوا ايضا ان يمنحوه شيئا من الصفات الخلقية التي تنسب الي الفرسان عادة .واستمرت العلاقات بين مس بيل والسير آرنولد ويلسن بين مد وجزر، وفي تموز (يوليو) 1920 بلغ الخلاف بينهما ذروته في فصل عاصف وصفته قائلة: كنا حتي الآن نقضي ضربا من (شهر العسل)، ثم حدث لسوء الحظ ان افضيت الي احد اصدقائنا العرب هنا بنتفة من المعلومات التي لم يكن (من حيث المبدأ) ينبغي اعطاؤها. وهي لم تكن ذات اهمية كبيرة، ولم يتبادر الي ذهني انني اخطأت حتي ذكرت الأمر لويلسن عرضا. وكان في ذلك الصباح في سورة من الغضب، فصب جامه علي. قال ان عدم تبصري في الأمور لا يحتمل، وانني يجب ان لا اطلع علي اية ورقة في المكتب بعد الآن. وقد اعتذرت عن تلك الهفوة المعينة لكنه استمر قائلا: لقد اسأت اكثر من اي شخص آخر هنا، وانني لو لم اكن علي وشك المغادرة لطلبت فصلك منذ شهور .7

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية