الناصرة- “القدس العربي”: تكتفي إسرائيل بالقول إن الحملة البرية على جنوب لبنان ستكون محدودة، دون الإفصاح عن عرض الشريط الحدودي المستهدف، أو الفترة الزمنية التي ستبقى فيه، ما يثير قلق جهات في الغرب، وفي إسرائيل أيضاً، تخشى من إنشاء حزام أمني في الأرض اللبنانية، ومن أن تنزلق الحملة لحرب أوسع وأطول.
رسمياً، تقول إسرائيل إن هدف الحملة البرية هو إبعاد قوات “حزب الله” من الحدود، وتدمير قواعده العسكرية كي يتمّكن نازحو الشمال من العودة لمستوطناتهم.
في المقابل، هناك غايات غير معلنة خلف هذه الحملة البرية تتعدى تدمير المنشآت والمقدّرات العسكرية لـ “حزب الله”، بل تدمير القرى اللبنانية في الشريط الحدودي الممتد من رأس الناقورة حتى إصبع الجليل، من أجل كيّ وعي سكانها وتدفيعهم ثمن الحضانة لـ “حزب الله”.
يريدها “حزب الله” استنزافاً، مع احتكاك برّي يعطيه فرصة للنيل من القوات البرية الغازية، وهذا ما أكده الشيخ نعيم قاسم، وسبقه حسن نصر الله في خطابه الأخير
كما في قطاع غزة، تراهن إسرائيل على جدوى عقاب شديد موجع في العمق اللبناني، وهو ليس مجرّد صفعة، بل ضربة مطرقة وسط تحاشي تدمير بنى لبنان التحتية والفوقية حتى الآن. كذلك تدلّل تجارب الماضي على أن ما يحدث على الأرض يتم أحياناً كثيرة بخلاف وبعكس ما يعلن نتيجة تورّط ميداني، أو نتيجة إخفاء الغايات الحقيقية للعدوان مسبقاً.
في حرب لبنان الأولى، عام 1982، قالت إسرائيل رسمياً إن حرب “سلامة الجليل” تهدف للتوغّل لـ 40 كيلومتراً فقطـ والقتال 48 ساعة فحسب، لكنها احتلت بيروت، وتورطت لاحقاً باحتلال دام 18 سنة، اضطرت في نهايته لانسحاب عجول اعتبرته حتى أوساط إسرائيلية أيضاً هرباً من “الوحل اللبناني”.
وبعد سنوات من تلك الحرب الدموية، تبيّن أن شعار “40 كيلومتراً” كان مجرد شعار للتمويه والتضليل استخدمته إسرائيل، التي شنّت تلك الحرب لتدمير الثورة الفلسطينية، واستبدال نظام الحكم في لبنان.
في حرب لبنان الثانية، عام 2006، حاولت إسرائيل القيام بحرب خاطفة كعبرة من حرب لبنان الأولى، لكنها طالت 33 يوماً، دون أن تنجح في تحقيق غاياتها باستعادة جنودها الذين أسرهم “حزب الله” في عملية نوعية حدودية، وتعثّرت مساعي الاجتياح بسبب المقاومة الناجحة، واستخدام الصواريخ المضادة للمدرعات.
هذه المرة، هناك رهان إسرائيلي على أن الوضع العسكري الميداني مريحٌ أكثر لقوات الجيش الغازية اليوم:
في 2006، شنّت إسرائيل حملة برية على استعجال بعد حادثة أسر الجنود، ودون تدريب كاف، وبفارق آخر أن “حزب الله” اليوم تعرّض ويتعرّض لضربات عسكرية صعبة في قواته وقدراته منذ عام، ما يزيد من احتمالات الحملة البرية الحالية في وقف نار “حزب الله” على مستوطنات الجليل، ودحره للخلف، وذلك من خلال وقت قصير، وقبل حلول الشتاء، والتورّط في الوحل اللبناني. رغم أن الاحتكاك المتوقع لم يحصل بعد حتى كتابة هذه السطور (صباح الثلاثاء) هناك مسؤولون مراقبون إسرائيليون يحذّرون ويمهدون للثمن المترتب المتوقع على الاجتياح البري من ناحية مقتل وإصابة في صفوف الجنود الغزاة، كما يتجلّى، على سبيل المثال، في تصريحات نتنياهو بأننا أمام “مكاسب تاريخية، وأيام فيها تحدي كبير”. وهذا ما يفسّر التقدّم الإسرائيلي الحذر في الجنوب، في ضوء تجارب الماضي، وخوفاً من انقلاب الصورة في الوعي، وفي موازين القوة والردع.
تؤكّد تصريحات نتنياهو أن إسرائيل، بعد الضربات المباغتة الناجحة ضد “حزب الله”، منذ اغتيال فؤاد شكر، حتى اليوم، تدير الآن حرباً على مرحلة تاريخية كاملة، وأنها تراهن على تغيير الواقع الجيو سياسي في الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها وتوجهاتها، إخراجها من صورتها المتشظية بعد “طوفان الأقصى”، واستعادة هيبتها وقوة ردعها، من خلال تقزيم “حزب الله”، ومحاولة الإجهاز عليه.
هل تنجح إسرائيل بتحقيق غاياتها، وسط استغلال نزيف “حزب الله”، من خلال حملة برية خاطفة مجدية، وغير مكلفة، كمرحلة ثانية من عملية “سهام الشمال”؟ وهل يتكرر، اليوم، بالضرورة سيناريوها حربي 1982 و2006؟
إسرائيل التي لم تتخلص بعد من سكرة القوة والنشوة. بعد سلسلة الاغتيالات والعمليات في لبنان ستحاول أن تكون العملية قصيرة وخاطفة، تطول أسبوعين، أو ثلاثة أسابيع، تدمر فيها ليس فقط المنشآت العسكرية، بل القرى اللبنانية.
كذلك تهدف إسرائيل لبناء حزام أمني فعلي غير معلن تقتل عن بعد كل من يدخله، لمنع عودة “حزب الله” وبناء نفسه مجدداً، وحماية لمستوطنات الشمال، ومنح سكانه الأمان والشعور بالأمان، وعلى الأقل استخدام احتلال هذه البقعة الحدودية اللبنانية ورقة مساومة لإحراز تسوية بشروطها، بما يتجاوز مضمون القرار الأممي 1701.
وبلغة صريحة، قال رئيس الكنيست أمير أوحانا، في تصريحات إعلامية، اليوم، إنها حملة برية محدودة وموضعية دون البقاء للأبد، ودون الذهاب لعمق لبنان، بيد أن إسرائيل مصممة على ذلك حتى تحقق الأهداف وأمريكا تفهم ذلك”.
كذلك، من غير المستبعد أن تبادر إسرائيل أيضاً لتغيير هدف الحرب بالذهاب لمحاولة تدمير “حزب الله” بالكامل بحال استشعرت أن مقاومته في الجنوب أضعف مما كانت تتوقعه، وهذا خيار يحذّر منه مراقبون إسرائيليون، منهم الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، عضو الكنيست السابق عوفر شيلح، الذي ينبّه، في حديث للإذاعة العبرية الرسمية، اليوم، لخطر الاستخفاف بـ”حزب الله” وخطر الغرور والانبهار مما حصل.
من جهته، يريدها “حزب الله” استنزافاً، مع احتكاك برّي يعطيه فرصة للنيل من القوات البرية الغازية، وهذا ما سبق أن أكده نائب الأمين العام نعيم قاسم، في خطابه، أمس، وسبقه حسن نصر الله في خطابه الأخير، يوم الخميس الفائت.
كما يحذّر المؤرخ الصحفي عوفر أديرت من التحوّل من النشوة للجنة تحقيق، لافتاً إلى أن حروباً سابقة في لبنان حظيت في البداية بتأييد واسع، وما لبثت أن تورطت.
في تقرير واسع في صحيفته “هآرتس”، يقول أديرت إن حرب لبنان الأولى تمّ تخطيطها لـ 48 ساعة فاستمرت أربعة شهور، وانتهت بمذبحة صبرا وشاتيلا. كما يشير إلى أن حرب لبنان الثانية افتتحت بتصريحات عالية، لكنها لم تحقق أهدافها.
فيما تعود “هآرتس” للإخفاقات الإسرائيلية في حروب سابقة في لبنان. وهذا ما تأخذه الولايات المتحدة بالحسبان فهي تؤيّد الحملة البرية وتكرر مقولتها إنه من “حق إسرائيل الدفاع عن نفسها بتفكيك قدرات “حزب الله” الهجومية في الشريط الحدودي كي لا يتمكّن “حزب الله” من القيام بالسابع من أكتوبر جديد”، كما جاء في محادثة أوستين مع غالانت… ومع ذلك يساورها قلق من توسّع الحملة وتورطها، وترى بضرورة تسوية سياسية، خاصة أنها تفضل وصول يوم الانتخابات للرئاسة بعدما يكون قد تحقق وقف للنار”.
وهذا أيضاً من جملة حسابات إسرائيل في موقفها المعلن بأن الحملة البرية محدودة في المكان والزمان، ولكن ماذا إذا ما استمر “حزب الله” بإطلاق بعض الصواريخ يومياً على الشمال؟ سؤال يطرحه بعض المراقبين الإسرائيليين الناجين من سكرة القوة والغرور وممن يعتقدون أنه في نهاية المطاف لا بد من تسوية سياسية حتى الآن إسرائيل تستخف بها، في ظل ضوء أخضر أمريكي لـ “الحملة البرية المحدودة”.
ليس نتنياهو فقط من يستخف بوقف النار، وبمنطق التسوية السياسية، بل قادة الجيش، فقائده هليفي انضم للغة التصعيدية، أمس، عشية الحملة البرية، بقوله إن الجيش انتظر سنوات لفرصة لضرب “حزب الله”.. وتحييد الأعداء يتم فقط بالطريق العسكرية”.
أكثر من ذلك؛ هناك في إسرائيل من يدعو لتوسيع النار نحو استغلال الفرصة وضرب إيران ضربة استباقية تدمر منشآتها النووية، كما تكشف اليوم صحيفة “يديعوت أحرونوت” في عنوانها الرئيس.
وفي المقابل؛ يحذر رئيس الموساد السابق تامير باردو فيقول، في مقال تنشره صحيفة “هآرتس”، إن نتنياهو قدّم خطاباً في الأمم المتحدة ينسجم مع الواقع الأمني، أكثر مما يبدو، لكنه لا يبشّر خيراً.
ويتابع محذرّاً: “على خلفية نجاحاتنا في لبنان، يبرز فقدان رؤية إستراتيجية تتيح ترجمة المكاسب لتغيير إيجابي جارف في البيئة القريبة والبعيدة. أخطر من ذلك، ففيما كان الخطاب دقيقاً في طرح الفرص فإن نتنياهو بسياساته هو يكفل تفويتها”.