الحس الوطني ومؤشرات الأغنية السياسية

حجم الخط
0

الحس الوطني ومؤشرات الأغنية السياسية

أنور بدرالحس الوطني ومؤشرات الأغنية السياسية بلادي … بلادي… بلادي لك حبي وفؤادي ، أغنية نرددها منذ أيام سيد درويش، ولا يزال جيل الخمسينيات بأكمله ـ وأنا منه طبعاً ـ يشعر برعشة داخلية وهو يسمع هذا النشيد الوطني، رغم أن الكثيرين فيما بعد ركبوا موجة الأغنية السياسية بجدارة أو بغيرها، والتي تتكيء علي معارك التحرير أو تمتح من دلالات القضية الفلسطينية، فرددنا مع أم كلثوم إلي فلسطين خذوني معكم ومع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ لحلف بسماها وبتربها . ظاهرة الأغنية السياسية التي تزامنت مع مرحلة النهوض القومي ومقاومة الاستعمار الخارجي، تشظّت بعد حرب 1967، وهزيمة الأنظمة العربية في أول مواجهة حقيقية مع العدو الإسرائيلي، فانكفأت أصوات الرواد الأوائل، وربما غيب الموت بعضهم، فيما ذهب البعض يتغنون بقادة الأنظمة العربية من يسارها ويمينها وما بينهما، وبات كالواجب الوطني لأي مطرب، وربما غدت شهادة حسن سلوك لبعض العواصم التي طالبت بها واعتمدتها كجواز سفر إلي مرابعها الليلية وإذاعاتها وفيما بعد محطاتها الفضائية.لكن في المقابل ظهرت فرق شعبية ومغنون وأصوات انتمت إلي جبهة الناس أو الشعوب عموماً، وإن فتح بعضها قنوات مع المنظمات أو الأيديولوجيات اليسارية، إلا أن بعضها ظّل خارج هذه الأطر، وقد امتدت بهم الساحة من ناس غيوان في المغرب العربي، إلي فرقة الطريق العراقية مروراً بظاهرة الشيخ إمام في مصر وكل من مارسيل خليفة وخالد الهبر في لبنان ثم سميح شقير في سورية، مع تباين في أداء ومستويات هذه التجارب والفرق، التي شكلت جزءاًَ من ذاكرة جيل بأكمله، وربما كانت الجزء الجميل الذي نستحضره باستمرار مع قدر عالً من النوستالجيا، خاصة ونحن نقارن بينها وبين الأغنية الهابطة التي تنتشر في تلك الفترة، وما زالت تفرد أشرعتها علي مساحة الأثير العربي. مرحلة الانحطاط تلك المقارنة تأخذ الكثيرين إلي ميادين الثقافة والمعرفة، لتخرج بثنائية مرحلة النهوض ومرحلة الانحطاط، انحطاط في السياسة والأخلاق، انحطاط في الاقتصاد ومستويات المعيشة، انحطاط في الأدب والفن وصولاً إلي الأغنية العربية، ومن ضمنها الأغنية السياسية بالطبع. ولا اعتقد أننا نحتاج كثير عناء لنقارن أم كلثوم بهيفاء وهبي، أو فيروز مع نانسي عجرم، ولا أغاني عبد الوهاب ووديع الصافي بالفيديو كليبات التي تصادرنا كلما حاولنا فتح التلفاز أو الإطلالة علي محطة فضائية. ولو رجعنا إلي أسوء أنواع الأغنية السياسية التي ارتبطت بالأنظمة وبالأجهزة، واستذكرنا لودا الشامية أو دلال الشمالي وهن يغنين: من قاسيون أطل يا وطني وأري دمشق تعانق السحب آذار يدرج في مرابعها والبعث ينشر فوقها الشهب لوجدنا كلمات وألحانا جميلة، رغم أنها موظفة لصالح حزب قد لا نتفق نحن معه، لكن سلطة هذا الحزب بالذات ابتعدت عن هذه الموجة من الأغاني، وظهر شعبولة في مصر يغني أنا بحب عمرو موسي وبكره إسرائيل ، والطريف في الموضوع أن شعبولة اكتشف آذانا صاغية في الذائقة المصرية، وتحول بين ليلة وضحاها إلي نجم في سماء الأغنية السياسية التي غادرها الشيخ إمام وكل الشعراء من متردّمِ.بينما نحن في سورية نحاول باستمرار أن نقلد ما يبتكره إخواننا المصريون في مدارس الأدب والفن وفي مدارج الغناء والطرب، بل درجنا أن يذهب مطربونا إلي أم الدنيا ليتعمدوا من كهنتها ثم يعودون إلينا بإجازة طرب وغناء معترف بها. يشذ عن هذه القاعدة بالضرورة اللون الشعبي من الغناء، فلكل بلد نكهته المحلية، التي تستعصي علي التماهي في سواها، إلا أن ظهور ثقافة العولمة التي تذهب بعيداً في نبش الفلكلور وتجزيء الهوية وتفقيرها، نجحت في عولمة الأغنية المحلية أو الشعبية في مختلف الأقطار العربية، وأصبحت أغاني الراي الجزائرية عالمية الطابع، مما شجع علي الديك في سورية أن يشدو بأغانيه علوش ثم أبو شحادة وصولاً إلي الحاصودي و عل العين . تلك الأغاني التي فرضت نفسها علي الشارع السوري سواء اتفقنا أم اختلفنا حول رداءتها أم جودتها، إلا أنها ظاهرة انطلقت فجأة وبدون مقدمات، تتسلح بكل مكبرات الصوت التي تنتشر عند باعة كاسيتات الرصيف وكرجات الانطلاق وسرافيس المواصلات التي زادت علي تلويث البيئة بعوادم الغازات الناتجة عن احتراق المازوت، بعوادم الصوت التي لوثت الفضاء السمعي بضجيج تلك الكاسيتات التي بدت في لحظة معينة أنها محمية، بل مفروضة علي الذوق العام. ولا أدري إذا كان تيار معاداة العولمة هو الذي شجع هذا الفلكلور الفقير فعولمه علي الساحة السورية مع امتدادات عربية، أم أنها العولمة ذاتها، بحجة العودة إلي الريف ومفرداته التي استنفدتها ـ بشكل جميل ـ مرحلة الرحابنة وأطيافها التي لونت رومانسية الأغنية العربية ردحاً من الزمن، قبل أن تعصف بنا الحرب الأهلية اللبنانية، وتظهر مسرحيات زياد الرحباني بكل ما تحمله من تغريب بريختي ـ إذا صح التعبيرـ لتعيدنا إلي بؤرة الأزمة، وأزمة الحياة، وإشكاليات الصراع، التي ما زلنا نعيش في نتائجها ومخلفاتها التي حاول اتفاق الطائف أن يحجبُها دون جدوي، فعادت الانقسامات بحدة إلي الساحة اللبنانية، لكنها بحدة أكبر بخصوص العلاقات السورية ـ اللبنانية. مقارعة ميليس وأصبح من واجب علي الديك الوطني أن يتصدي للهجمة الإمبريالية الأخيرة، بقيادة القاضي ديتليف ميليس، رئيس لجنة التحقيق الدولية في مقتل الرئيس الحريري، واندفع في مقارعته يقول الحجة بالحجة والبينة علي من ادعي: تقريرك حقو فرنكين وفيلس … يا ميليس مسيس والغاية منو تشريد وقتل وحابس… يا ميليس اللعبة محبوكة من زمان والكل بيعرف من امس…. يا ميليس فهذه الأغنية لا تحتاج إلي شرح، ولكن ما يلفت الانتباه مجموعة من المقارنات، أولاً في حقل الأغنية السياسية، بالطبع لن نقارن علي الديك مع سيد درويش أو شيخ إمام أو سميح شقير من سورية، ولكن دعونا نقارن بين هذه الكلمات وما أوردناه من أغنية لودا الشامية عن قاسيون وحزب البعث، لنكتشف أين كنا وأين صرنا في هذا الحقل. والمقارنة الثانية في حقل علي الديك بالذات، وهو الذي انتشر ولُقب بملك الحاصودي، فغطي فضاء الميكرو باصات وأثير المرابع الليلية، حيث البعض يدبك علي إيقاعها، والبعض يرقص رقصات فرانكو أراب علي نفس الإيقاع، فيما فشلت أغنيته عن ميليس في الوصول إلي أي من جمهوره، ليس الجمهور الذي فرض عليه سماعه، بل جمهور محبيه الحقيقيين، وهم قطعاً جمهور له تواجده في سورية. المقارنة الثالثة والأخيرة مع أغنية المطرب المصري شعبولة أنا بحب عمرو موسي وبكره إسرائيل حيث وجدت لها جمهوراً في مصر، وامتد إلي بعض الأقطار العربية، بينما لم يفلح صياح علي الديك في إسماع شتائمه حول ميليس أكثر من حدود الأمتار القليلة التي يغني بها.الإشكالية الحـــقة أن تعتبر أغنيــــة علي الديك ـ علي رداءتهـــا ـ أغنيــة وطنية، وأن يصبح الواجب الوطني علي كل فنان أن يشتم ميليس، مع أن هذه الشتــائم في حقل ما هو غير فني، ويصـــبح علي كل فرد أن يثـــــبت وطنيته، فيغني بعضهم الشام الله حاميها ، ويسجل وائل رمضان مع طفله حمزة أغنية برفع راسي ، مع أن الفنان رمضان ممثل جيد وحاول في الإخراج المسرحي، لكنه يفاجئنا بشحنة وطنية تجعل منه مطرباً. وأخشي أن تمتد هذه الشحنة إلي آخرين. كاتب من سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية