الحرية والآخر: مأزق الحداثة الغربية
ابراهيم صحراويالحرية والآخر: مأزق الحداثة الغربيةتتزامن آثار وتداعيات حملة الكاريكاتور برسومها المُسيئة لرسولنا الكريم سيدنا محمد (ص) مع مرور سنة كاملة علي إصدار الجمعية الوطنية الفرنسية (الغرفة السفلي من البرلمان) قانون 23 فيفري المُمجِّد للاحتلال الفرنسي في مختلف بقاع العالم خاصة منها شمال افريقيا، أي المغرب العربي بالذات. كان القانون يقظة مفاجئة للحنين إلي الماضي الاستعماري لدي شريحة من الفرنسيين في ظلِّ تراجع فرنسا داخل المنظومة الغربية. القانون والرسوم كلاهما يمثلان مظهرا من مظاهر آثار التعامل الغربي المتعالي مع شعوب الشرق عامة. تعامل قائم علي مبدأي المركزية الأوروبية و المهمة التمدينية وهما كما نعلم من النتائج المباشرة للحداثة الأوروبية والقطيعة التي أحدثتها مع العالم القديم، لكنهما في الوقت نفسه، وهنا المفارقة، مأزق آخر من مآزق الحداثة، امتداد لنظرة الغرب القديم للآخر ولطرق التعامل معه. كان الغرب القديم يستمدُّ مرجعيتَه وشرعيته وقداسته من الكنيسة وحلفائها من المؤسَّسات الأخري كمؤسسة الحكم/الملك والإقطاع والنبالة وما إلي ذلك، وبالتالي فإن العلاقةَ بالآخر كانت تسيرُ وِفق تصور المؤسسة الدينية. أما الغرب الحديث فيستمد شرعيته من الحداثة التي لا مرجعية لها سوي ذاتها، والتي حلَّت محل المؤسسة الدينية في صياغة فلسفة إخضاع الآخر. من هنا مسار نزع القداسة عامة الذي بدأ مع متحرري القرن السابع عشر ليتواصل في القرن الموالي وينتصر مع إزالة مؤسسة النبالة وإعلان موت الملك -كما يقول جون ماري دوميناك في كتابه مقاربات في الحداثة.لمَّا صار الغرب حديثا بدأ (حسب ج. م. دوميناك دائما) في توجيه نهمه للاكتشاف والسيطرة إلي العوالم التي لم تستكشَفْ جيدا بعدُ. ميكانيزمات الجسم والشعور، ميكانيزمات الاقتصاد والمؤسسات السياسية، خفايا أصول الإنسانية (…) إنه وهو سيِّد العالم بالاحتلال والرقي التقني يزعم أنه سيُصبحُ سيدَ نفسه أيضا . وما لم يذكره دوميناك من هذه العوالم التي توجَّه إليها نهم الاكتشاف الغربي هو عالم الآخر وخفاياه. الآخر المُختلِف حضاريا وثقافيا وعرقيا بطبيعة الحال. لم تكن رغبة الغرب الحديث في اكتشاف الآخر تتوقَّف عند حدود الجوانب الاقتصادية أي إحصاء موجودات عوالم الآخر (المادية) واستغلالها بل امتدَّت أيضا إلي الجوانب غير المادية، لكي تمرَّ فيما بعد من الاستكشاف إلي إعادة القولبة والتشكيل وهو الهدف النهائي المُعلن للعولمة، سليلة المركزية الأوربية والمهمة التمدينية كما أشرنا إلي ذلك في مناسبات سابقة. من هنا لم يبق نزع القداسة محصورا في الغرب ومتعلَّقاته بل امتدَّ إلي الآخر أيضا عن سابق إصرار وترصُّد. واستُبدِلَت العنصرية القائمة علي الحداثة ومبادئها بتلك القائمة علي الدين. وأهم مبادئ الحداثة كما نعرف جميعا ـ وهدفها النهائي أيضا ـ هي الحرية، وذاتية المرجعية، الذاتية التي لن تكون كاملة إلا بـ القضاء علي الإيمان بالماورائي تحت أي شكلٍ كان حسب رينان.من هنا وكما لم تتوقَّف الحداثة في الغرب، أي الحرية، عند عتبات الجسد والطبيعة والقصور والكنائس، فولجت كلَّ شيء واستولت علي كلِّ شيء، لم تتوقف في تعامل الغرب مع الآخر عند حدود هذا الآخر، بل استباحته في كل شيء وبكل شيء، فصادرت (حريتَه؟) وسَخِرت من خصوصياته وسفهت أحلامه وحقرت آراءه ودنَّست مقدَّساته ونهبت كل ما وصلت إليه أيديها من خيراته وثرواته. هذا الهدف (التحرر من كل مرجعية ما ورائية، أو أي مرجعية أخري مصدرها شيء آخر غير الإنسان، والإنسان الغربي بالذات)، بالتناقضات الكثيرة التي أنتجها وما زال ينتجها هو أصل مشاكل الغرب في أقطاره المختلفة، وامتداداته هي أصل مشاكِلِه مع الآخرين في أقطارهم. (من تجليات آثار هذه التناقضات: قضية الخمار في فرنسا وثورة ضواحي مدنها الكبري، أو مشروع الشرق الأوسط الكبير واحتلال العراق والمآسي المُرتبطة به، والحرب علي الإرهاب؟ وآثارها والملف النووي الايراني والمحتشدات هنا وهناك غوانتنامو مثلا، والديون وتدخلات صندوق النقد الدولي في سياسات الدول، الخ.. ثم الإساءة للرسول ص ).. يبدو لي شخصيا أن الأصل في كلِّ هذا، وهو ما لا ينكره الغربيون لكن لا يعترفون به علنا أيضا، هو ضيق أُفُق الفرد الغربي الحديث -مثلما كان أُفُق سلفه- بما ليس علي صورته وشكله، وعدم تمييزه بين ما يصلح له وما يصلح للآخرين ومنه فقدان كل أثر لاحترام اختلاف الآخر وخصوصيته . وبالتالي محاولة تغييره وإعادة قولبته بما يتماشي وذوقه وينسجم مع أُفُقه بدعاوي الحرية في صورها المختلفة قولا وفِعلا. إذن، الحرية اللامتناهية التي بقدر ما هي إحدي مفاخر الغرب، هي في الوقت نفسه إحدي أكبر تناقضاته ومشاكله وقضاياه المطروحة التي ما انفك المُنظِّرون يبحثون منذ فجر الثورة الفرنسية عن إيجاد حلول لها. حلول تُوفِّق بين التطلعات الفردية والالتزامات الجمعية الضرورية لتناغم المجتمع وانسجامه داخليا من جهة وتآلفه مع الآخر خارجيا من جهة أخري. وهو الحل الذي لم يُتوصَّل إليه بعد في ظلِّ استمرار عدم قبول الغرب جملة وأفرادا لفكرة أن للحرية حدودا تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين وهي -ويا للمفارقة- مقولة من إنتاجه هو نفسه. وبالتالي فإن فهم الغرب للحرية والتعسُّف في محاولة فرض هذا الفهم علي الآخرين هو شمولية أخري وقع فيها، وهو الذي يزعم أن وجوده أصلا قام بديلا للشموليات. شمولية تأتي من أن الحرية اللامحدودة، الديمقراطية الكاملة أي حُكمُ الكلِّ للكلِّ تقود إلي نتيجة من اثنتين لا ثالثة لهما كما يري مفكِّروه (ب. كونستان في عن الحرية عند المُحدَثين): الفوضي أو الاستبداد. الفوضي بذوبان السلطة في المجتمع والاستبداد بذوبان المجتمع في السلطة. وهو ما نراه اليوم في المواقف الغربية من الرسوم الفاجرة، ومن قانون تمجيد الاستعمار. موقف رسمي وَسَطٌ (ظاهريا علي الأقل) فيه قدر كبير من النفاق والمداهنة يوازي ما فيه من الصدق والتلقائية. لذا فهو غير حاسم لأنَّه الفوضي والاستبداد في الوقت نفسه. فوضي واستبداد نتجا في الأصل عن مبادئ عبدها أصحابُها وقدَّسوها فحلّتَ محلَّ المقدَّس الأول والمعبود الأصل (الله) الذي حاربوه في البداية.من هنا، تتماهي الحرية المُفرطة في استبدادها مع الخضوع المطلق لما يكون كِلاهما قائدا ومُحرّكا للحشود هنا وهناك وموجِّها لتصرفاتها ونزواتها وتجاوزاتها بما يعمِّق الشروخ ويؤكِّد الاختلاف ويقود إلي الصدام والعنف. وبين هذه وذاك تبرز حقيقة واضحة: حوار الحضارات والتلاقح الطوعي للثقافات أكذوبة لم تَعُد تنطلي علي عاقل في غياب قوانين هنا وهناك تحدُّ بعض الشيء من غلو هؤلاء وأولئك وتحميهما بعضهما من بعض، خصوصا ما تعلَّق بالديانات والأنبياء عليهم السلام. قوانين تتجاوز نفاق الغرب ومبرِّراته الزائفة وأهمها قداسة حرية التعبير وهو الذي لا يؤمن بالقداسة أصلا. حرية تعبير لم تقِف حائلا دون سنِّ قانون معاداة السامية في فرنسا الذي يعاقِب التعرض لليهود بالقول فما بالك بالفعل؟ أخيرا إذا كانت المواجهة الحاسمة للغرب في موضوع الرسوم الفاجرة بالشكل والمضمون اللذين تتم بهما هي أقل ما يمكن من الحزم في هذا الموضوع، فإنَّني أعتقد أن الضجَّة التي أقمناها نحن في الجزائر علي قانون تمجيد الاحتلال ورَدَّة فعلنا تجاهه لم تكن مُوفَّقة علي الإطلاق. كان بها قدر كبير من الازدواجية والنفاق وكانت كلاما، مجرَّد كلام، وزوبعة في فنجان ما دامت لن تغيِّر في الأمر شيئا، وحالنا ماديا ومعنويا، رسميا وشعبيا مع فرنسا هو ما نعرف ويعرف الجميع. لكن ما دامت القضية قضية قوانين فلماذا لا نُصدِر ما شئنا من القوانين فنثمِّن أو نجرِّم ما شئنا ومن شئنا. ما المانع؟ الأمر في كل هذا من قبل ومن بعد هو أن الشرق شرق والغرب غرب، ولكليهما موقع فلكي مختلف عن الآخر، لا يتغيَّر مهما جرت الأفلاك والكواكب وتغيرت مداراتها.كاتب من الجزائر0