الجسد في الفن التشكيلي المعاصر: من شق الصدر الكربلائي إلي تحوله لافتة مضادة للحرب!

حجم الخط
0

الجسد في الفن التشكيلي المعاصر: من شق الصدر الكربلائي إلي تحوله لافتة مضادة للحرب!

د. أحمد معلاالجسد في الفن التشكيلي المعاصر: من شق الصدر الكربلائي إلي تحوله لافتة مضادة للحرب!في ملصق معرضي الخاص ـ المركز الثقافي الفرنسي /1993/، كان لوجهي الذي لونته، بالإضافة إلي كتفي وأعلي الصدرين، حتي أعلي الحلمتين، حضور،احتمل الكثير من القيل والقال. دفاعاً أو هجوماً. ورأي البعض فيه إخلالاً بحضور الدكتور الجامعي، في حين نظر إليه آخرون علي أنه لا ينافي الشرع، وربما كان مسموحاً لي إظهار أعلي الجسد وحتي الوركين ومن أسفل القدمين حتي الركبتين. سقت هذه الحادثة كمقدمة لموضوع الجسد الذي يخضع إلي تقييم أخلاقي مبني علي ميراث تحريمي يمتد عميقاً في ثقافتنا، وهو بذلك بصرياً أو سمعياً، من خلال الصورة أو الكلمة يبقي مرتبطاً بحدودٍ تؤطر العربي بالإخلال والفحش والرذيلة والعيب، بالانحلال والخزي والعار…الخ. العري في جسد المصلوب إخلال سافر بقيمة الإنسان، انتقام، تعذيب، وحط من مثاليته، بل مثال علي مصير الإلهي في متناول البشري، وكأنما كل تاريخ الفعل الفني الذي صوّر السيد المسيح علي الصليب يستجدي المغفرة علي الفعلة الآبقة :”صلبه”. تلمّس استرضائي للجسد المصلوب، وتردد استعطافي في توسل الرحمة، وتبرؤ من غلواء البربرية، وصولاً إلي التطهر والاستنكار.الجسد مكشوف، ظاهر، إلا من الأعضاء الجنسية، فهي مغطاة بقماشة لا تفضي إلي تخيل ما تخفيه، دون أن تترك فرصة للاجتهاد أو التعليق، لا سلباً ولا إيجابياً.لا حضور الجسد إذا إلاّ من خلال الشرنقة القماشية اللباسية، الالتباسية، وإظهار الجسد أو بعضه فجائعي، كما تشق المرأة عن صدرها في مشهد كربلائي. ورغم ذلك، فإنه يحضر عارياً، أو بعضه، في حمام السوق، والمشفي، في أقبية التعذيب، في التزاوج أحياناً وربما في المرآة، ضمن شروط كل من هذه الفرص. وكل ما عداها غريب.عبلة أبو صبحي التيناوي، مثل عنترها، مثل إبراهيمه، حيّز مقتطع للهيئة الآدمية الاجتماعية، حيث اللباس تزيين، والفراغ المحيط سبورة لإعلان هوية المرسوم كتابة، وربما عِرق من هنا وغصن من هناك، لإضفاء نغم علي الفراغ.الجسد في التشكيل السوري طارئ، مثله مثل التشكيل السوري الذي يحتضنه، وكذا إظهار بعض مفردات الجسد من خلال اللباس الأوروبي الذي شكل خياراً ثقافياً جديداً ضمن موجة الانبهار المحقّ بالغرب المكتشف للتو.كان سلامة موسي قد كتب : إنني كلما ازددت معرفة بالشرق احتقرته، وكلما ازددت معرفة بالغرب أزدد إعجاباً به، إنني أنتمي إليه، وهو يُشكل جزءاً مني، إنه مثالي في الحياة .خلقت فكرة اللحاق بالركب الحضاري الغربي، دافعاً نوعياً لحراكٍ ثقافي سياسي واجتماعي سعي للتخلص من الواقع المتخلف الذي ورثته المنطقة بعد قرون من الحكم العثماني. ولم تلبث النخب الثقافية والسياسية أن انشغلت بكيفية خلق هوية قومية، في محاولة اضطلاعها بمهامها التاريخية.الصورة العائلية للرئيس شكري القوتلي توضح مباشرة أي خيار تمّ تبنيه.بعودة البعثات الدراسية في مجال الفنون من أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين إلي البلاد، بدأ انتقال الجسد الأكاديمي، الآنغري أو الدافيدي من خلال اللوحات والمنحوتات التي أنجزها موهوبون شباب من سوريا.قبلوا التحدي الأول بإمكان العمل مثل الغربيين، فأثبت بعضهم براعة ومهنية خضعت طوال الوقت للامتحان في تماثلها مع النموذج المثال، وخضعوا أيضاً إلي ما يُشبه التحقيق في مصداقية رسمهم لما يوقعون.شهدت الخمسينيات نشاطاً وحيوية، أدت إلي الانقلاب علي الأشكال التقليدية التي بني الرواد الأوائل من خلالها اللبنة الأولي في التشكيل السوري، ولعبت البعثات دوراً مهماً في الاطلاع علي ما يجري في الغرب، وقد نشطت هذه البعثات عند عودتها في مجالات إدارية وتعليمية تتبع الدولة من خلال مؤسسات وزارة المعارف، وفي آخر الخمسينيات من خلال تأسيس كلية الفنون الجميلة، التي ستلعب دوراً رئيساً في الحياة التشكيلية السورية إيجاباً وسلباً.ولعلّ الاحتضان الذي قامت به الدولة الناشئة لهذه المواهب، بالإضافة إلي الرعاية التي أحاطتها بها البرجوازية المحلية قادت إلي نخبوية العلاقة مع السواد الأعظم من الناس.في هذه المناسبة تروي الحكايات عن تفوق لؤي كيالي في رسم ملهمة الفنانين هالة الميداني /1961/ كذلك قام ناظم الجعفري بإنجاز مجموعة أعمال لجسد عارٍ لم يكن سوي جسد أخته.أسماء هذه المرحلة:أدهم إسماعيل ـ نعيم إسماعيل ـ فاتح المدرّس ـ لؤي كيالي ـ محمود حماد ـ نصير شوري ـ الياس الزيات ـ عبد القادر أرناؤوط ـ إبراهيم هزيمة ـ قتيبة الشهابي ـ أسعد زكاري ـ ممدوح قشلان، وغيرهم.نشطت هذه الأسماء، وعملت علي إنجاز لغة تعبيرية ذات خصوصية لكل منهم. واشتركوا جميعاً في تناولهم الجسد أو الإنسان في باكورة أعمالهم، وكأنما رسم الإنسان أساسا لقبولهم كفنانين. وسينتقلون بعد ذلك كلٌ إلي طريق: عروبيّ مع خط لا نهائي ـ أو مع استقاء من التراث، أسطوري تعبيري يخص فنون المنطقة قبل الميلاد، حروفي، تجريدي، زخرفي، تكعيبي… الخ.وحفلت الستينات بنضوج أغلب هذه الأسماء التي قدمناها أعلاه، وتنافست بمهنيّة واحترافية إلي جانب مهام التدريس، ولعلّ هذه الأسماء، أو بعضها لعب الدور الأهم في مساعدة المواهب الواعدة التي تلت علي أجيال.طمحوا جميعاً إلي تحقيق مُنجز تشكيلي محلي، بطابع عربي وربما لهذا لم يعُد الجسد يُشكل موضوعاً، بل مادة اللوحة وسطحها، خطوطها، ألوانها، منبعها التشكيلي هو الموضوع الأمثل.نضيف إلي هذا أنّ الالتزام بالقضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية حضر كآلية للحوار، ومُحرّك للأفكار والموضوعات المتناولة. وعليه انحبس الجسد العاري في الإطار التعليمي داخل المحترف، أو في قسم التصوير بكلية الفنون، تمرين أكاديمي للتعرّف علي الجسد من خلال الظل والنور واللون، بل تعرّف علي المادة التي تنقله إلي العين من خلال اللوحة.في هذه الفترة، أنجز لؤي كيالي معرضه الشهير في سبيل القضية ـ 1967 عندما حرر طاقاته، وإمكاناته الفنية المشهود لها في رسم البورتريه، وأطلقها في غليان داخلي قاده إلي إنجاز (30) عملاً، لم يلبث أن أحرقها في أداء شخصي، بعد ضجة إعلامية ونقاشات حادة حول الشخصيات المشوهة التي رسمها، ولم تلق استحساناً عند الكثيرين، مما أدي إلي إصابته بأزمة نفسية، نقل بعدها إلي المشفي، حيث أرسل برقية إلي السكرتير العام للأمم المتحدة يطالبه فيها بالاستقالة أو إنصاف الشعب الفلسطيني.لنقل إنها المرّة الأولي التي ينتقل فيها الشحن والاضطراب والتفجر إلي الجسد الرسام. التوتر والانفعال الحاد، الضيق من الغرب الذي يُصرّ علي إدارة الظهر لقضية عادلة، قضية فلسطين، الإحساس المرير بالخيانة، القهر من الإمكانات المتاحة للعمل علي فعل شيء. قلق ونزق حول الفن معنيً وقيمة، حول دور الفنان وجدوي هذا الدور، اضطراب هائج في الرصيد الداخلي لشخصية شابة طموحة /33/ سنة آنذاك.لم يعد قادراً علي الاستمرار في دمشق، لم يعد قادراً علي تحمل روما التي احتضنته سابقاً ورعته، حاول، جيئة وذهاباً، لكنه قضي عن /44/ سنة محترقاً في حادث مؤسف في حلب /1978/.كانت الأدبيات التشكيلية تربط السيرة الذاتية للفنان بالسيرة البنائية لعمله، فلا تشتعل اللوحة إلا بعد اشتعال الجواني في المصوّر، ولا تنحني المنحوتة إلاّ من وجع في النحات، صار الفنان بطلاً درامياً، في مأساة تبتدئ به كفنان يُعاني من آلام يكثفها مما يتمثل، لينجز عملاً صادقاً، لمشاهد عارف.إن كنت تريد أن تغدو فناناً عظيماً عليك أن تضحي بذاتك لصالح العمل الفني الذي سيقودك إلي مجد الفن، عليك أن تحترق لترسم بفحم عظامك. عند هذا المفترق، سيكون الرسم/ أي رسم، جسدك، بل تضحيتك، شهادتك لم لا؟بين التقمص، والاستغراق في تمثل المرسوم، هناك عتبة يُفترض ألاّ تتجاوزها عندما تصبح المسافة بين المصوّر والمصوَر شاقولية، أي عندما تصير هوّة، هنا يسقط المصوّر في الشرك الذي نصبه لذاته الفيزيولوجية.لا بُد أنكم قرأتم عن تأثيرات بسكيولوجية تفرضها إعاقاتنا الفيزيولوجية علي أدائنا ونحن نرسم، بعد أن أحرق لؤي معرضه، قام عمر حمدي بإحراق أعماله هو الآخر في سورة اختطاف، وأودي شريف محرم بيده الموهوبة، المتمرنة في تعاظم تماه ٍ بدالي، إذ أصيب بشلل فيها، وترك جمال مهروسة الحائز علي جائزة الرسم في حلب ـ كلية الفنون، بعد نوبات من العظمة الانفعالية أوجعته وأوجعتنا. علي يد نذير نبعة ظهر الجسد المقاوم، جسدٌ يُعلن أعضاءه دون حياء، دون خوف، جسد لا يحتاج ثياباً، لا شيء يكسي عريه الذي يواجه به الرصاص في مشهد مأساوي، لكنه يضج بالتحدّي، جسد هويته ماثلة باندفاعته المستندة علي هندسة خفية، تمنحه صلابة قادرة علي تلقي الرصاص بالصدر دون أن ينحني، قد ينكسر ويُعيد تجميع ذاته. حركة معمارية، بنائية، مُشكلة بأقواس واستقامات تنحني بما لا يُضيّع تفاصيل التشريح، ودون أن يوقف الانطلاقة.عتمة يخترقها وميض انفجار قنبلة، فتسطع التفاصيل المتماسكة، مُتحدية الخوف.إنّ التعاطف والعون الذي قدمته دول المعسكر الاشتراكي وحركات التحرّر العالمية لنضال الشعب الفلسطيني ولقضيته دفعت بعدد من الفنانين إلي استقراء الحلول التشكيلية التي قدمتها المحترفات اليسارية والاشتراكية عبر العالم، وتأثرت بمفردات وعناصر هذه المحترفات.ولعلّ المواهب المحليّة التي تشاركت معها الهمّ والألم بثقافة إنسانية تدفع الظلم والقهر، بحثاً عن عدالة ٍ مرتجاة، عملت علي إضافة مواضيع جديدة في المحترف المحلي، نذير نبعة، جورج ماهر، يوسف عبد لكي، عاصم الباشا.ورسم يوسف عبدلكي الجسد المعتقل، مربوط اليدين خلف الظهر، الجسد المعتقل عار ٍ، لكنه من الظهر صورة المسيح من الخلف ربما، ولأوّل مرة، لا يُمكن أن تنسي أنك رأيت المشهد، الجسد واقعي مُفعم بالقوة، لكنه مربوط اليدين، جسد مقاوم هو الآخر، لكن التحدي مختلف.سُجن يوسف لأسباب معارضته السياسية، وتحرّر سريعاً من جسد المعتقل لينتقل إلي رسم جسد المعتَقِل، هنا لم يعد واقعياً، غدا مسخاً، طوطماً، بين الكاريكاتير وأدوات الحفار المكبرة، خطوط متوازية ونقاط، شبكات أنجزها، لصيانة النسيج التشكيلي التي ترتبط بها أدوات التعذيب والتخويف من رتب ونياشين. وها هو يستفيد من المشترك بيننا، تاريخ عمله، ليعود إلي العناصر العادية، والأدوات مما يكون ببساطة في حياتنا اليومية وكأنها كل ما في الوجود.كانت بساطاً وكأساً وفناجين قهوة وسهرة، لتتحوّل إلي رؤوس أسماك مقطوعة، منفصلة عن جسدها في مقصلة اليومي الذي يختصر الأبد.وها هو يترك لخيالاتنا فرصة تناول الجسد المُختفي ببصيرتنا أو بنقمتنا، بخيبتنا ربما، بذاكرتنا.. نعم. بذاكرتنا.يختفي الجسد استنكاراً أم إنكاراً، ماذا يقول الحذاء المتبقي؟ استعطاف أم عطف، ما الذي يريده بالحذاء علي جدارية؟يمتد الجسد علي كامل التجربة، منذ الجسد المعتقل في السبعينات وصولاً إلي الاحتفاء بفردة حذاء الحبيبة في /2005/، عندما يغدو جلد الحذاء مُجعداً، محتفظاً بكل الخطوات المشتركة، بعدد المرات التي خلع فيها للحب أو للنوم، وكأنما تغضينات الحذاء بعدد الأيام المتبقية.يا للخيبة، ربما يقول: جسدٌ ماض ٍ إلي العجز فالموت، بيدين تمتلكان الحرفة كاملة.سمحت لنفسي هذا المشوار مع يوسف إلي 2005 احتفاءً به وبعودتهِ هذا المقصي قسراً، لأعود إلي السبعينات والثمانينات. في تلك الفترة، حملت الجرائد والمجلات رسومات الحبر الصيني، إلي جانب القصائد والقصص والمقالات، فيما كنا نسميه موتيفا ، فقد كان الجسد هو الموضوع الأكثر حضوراً علي أيدي أسعد عُرابي ونذير نبعة وفائق دحدوح.كان زبد موجات الحرية يصل عبر السينما والأدب ومن خلال بيروت ـ الحمراء التي ستغرق في دم الحرب الأهلية منتصف السبعينات. كان علي الفنان أن يمتلك أسلوبه الخاص، أدواته التعبيرية، كان عليه أن يتخلص من ميراث المحرّم. والمعيب في استقصاء خطوط الجسد الأنثوي علي الأغلب حيث تتردد الريشة بارتعاش عند أسعد عرابي فيتحوّل تجاور الخطوط إلي تجاور بشرات، أجساد، جسد يكشف جسداً، خط واحد يُعلن اتصال جسدين، ويمسح نذير نبعة الحبر قبل أن يجف بإبهامه أو أنسي راحته ليصيغ تعبيرات إيروسية بين الجسد الأنثوي وقطرة الماء أو البنات. ففي حين يتلمّظ فائق دحدوح تكور الثدي، ويتشهي انحناءة اللحم البض، ويسترسل في عشقه للأنثي الذي ما يزال يُشكل الزيت الذي يخلط به موارده وأفكاره لإنجاز عمله التشكيلي إلي اليوم.في تلك الفترة خان جليدان الجاسم التعبير التشكيلي التقليدي، أو المحيط به، فأولج الكلمة في بشرة اللوحة في تحد ٍ مفرد ما كان له أن يتكرر، وقادته فعلته إلي السجن بعد أن نشر رسمه في مجلة المسيرة التي يصدرها اتحاد شبيبة الثورة، حيث كان يعمل، اقتيد إلي السجن ولم يشفع له تحرره، ولم تخفف عليه تقدميته، ولم تمنحه عروبيته فضلاً، لقد وضع اسم الجلالة علي جبل الزهرة، ولعلّ في هذا ما هو مُفاجئ ومرفوض ومكروه أكثر من لوحة اصل العالم لكوربيه في وقتها، ولعلّ جليدان أوّل تشكيلي يدخل السجن بسبب عمل تشكيلي.ومع بداية الثمانينات ألغي الموديل العاري من قاعات قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة، وفي نفس الفترة نقرأ في مقال ٍ عن كيف رسم فنانونا المرأة الحياة التشكيلية ـ العدد الخامس /1981/ : وفي حركتنا الفنية العربية السورية المعاصرة، استخدمت المرأة كعنصر فني في مختلف المراحل والتجارب، بحيث يندر أن نجد فناناً لم يستخدم المرأة في أعماله ـ لن نحيط بكل الأعمال التي تناولت المرأة كموضوع للتعبير إنما سنتحدث عن الذين أكدوا علي المرأة في معظم أعمالهم، أي التجارب الفنية التي تشكل المرأة فيها العنصر الرئيسي للتعبير، ولا شك في أنّ هذه التجارب قد تنوعت وتباينت بما يتلاءم مع الموضوعات والمواقف والجماليات، وسنهمل التجارب التي رسمت البورتريهات الشخصية لسيدات وفتيات المجتمع ، وقامت بتجميلها، كما سنهمل التجارب التي استخدمت العاري كجمالية خالصة بمعني أدق، كجمالية مُجرّدة من المحتوي الإنساني، وقد أصبحت هذه التجارب نادرة مع تطور الوعي الاجتماعي، وممارسة الفن كسلاح حضاري .أواخر السبعينات، احتدم الصراع بين سلطة الدولة التي يحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي من جهة وتيار الأخوان المسلمين، وتحوّل إلي صراع ٍ دام ٍ. كانت الحرب الأهلية اللبنانية في أشدّها، ومصير منظمة التحرير الفلسطينية مرهون بالاجتياح الإسرائيلي للبنان /1982/.وجد التيار الديني متسعاً للتمدد والنمو، في حين كان التضامن العربي، والأفكار القومية تنحسر، لنصل إلي /1990/ وغزو العراق الكويت.في هذه الفترة نشطت التجريدية، وازدهرت الحروفية بعيداً عن الجسد وهمومه وصياغاته، وامتدت علي مساحة الوطن العربي وكأنها استجابة لآمال ورغبات ومؤتمرات بحثت طويلاً عن اللوحة المنشودة : اللوحة العربية.وفي هذه الفترة انتقل نذير نبعة إلي لوحة الواقعية السحريّة كما يُفضل البعض تسميتها، ليرسم بتفاصيل دقيقة نساء رقيقات حالمات يرفلن بثياب وحُلي تكشف عن بعض أجسادهنّ، في عودة إلي تجويد الرسم والتلوين، والاهتمام بالتفاصيل.كان فاتح المدرّس مُستمراً بالانشغال بلوحته إياها، عابراً الوقت والأحداث، مُبتلعاً الأرض والوحوش والآلام مُستعيداً الجسد الأول، الطيني، الذي يخصبه هو، مُختصراً، علي شكل خطين يقتطعان من الأرض، أرض اللوحة، مساحة ً، حيزا ً، يُشكل جسداً، بعض لمسات للثديين، للحركة، للخصر إن احتاج الأمر، جسدا متقشفا، كان الجسد نرد فاتح المدرس وما زال يرميه علي أرض اللوحة إلي أن غادرنا.لم يحاول احد هنا تناول الجسد كجسد، كآلة للحياة، علي الرغم من سير الاعتلال والمرض، والجراحة. علي الرغم من الذين يُفجرون أنفسهم بأعدائهم، علي الرغم من السكانر والطبقي المحوري والبزل القطني. علي الرغم من الجراحة التجميلية، بقي الجسد رمزاً، حمّال قيم روحية، نضالية، تشكيلية. بقي الجسد تمريناً للتعرف علي الموهبة، للتأكد منها، لإعلانها، بقي الجسد قشرة قابلة للتحرير والتركيب والتوليف.لم يتم تناوله كجهاز حي من لحم ودم، بقدسية تخشي أذيته، ودونما اختراق، هل لأنه علي صورة خالقه ؟! في أواخر التسعينات وبدايات الألفية الثالثة، يُمكننا أن نلحظ تقدماً في تناول الجسد، الأنثوي خاصة من قبل فنانات شابات، ومع أنه ما يزال تناولاً استكشافياً، إلا أنّ أسماء مثل: (سارا شما ـ ريما سلمون ـ دينا بيطار) تحاول إثبات مواهبهنّ، وقدراتهنّ علي الانضمام إلي قافلة الفنانين، هنّ اللواتي يعرفن الجسد الأنثوي من تجاربهنّ، الذاتية. هنّ اللواتي يمتلكن فرص الأمومة، وتناول الجسد بعيداً عن الصورة التي أنجزها المحترف الذكوري إذا جاز التعبير.هالة الفيصل، وكونها تعيش في الولايات المتحدة، تعرت مؤخراً كاتبة ً علي جسدها لا للحرب وسارت في الشارع، في تجربة بين فن الجسد والبرفورمانس. ولا بُدّ أنّ عملاً من هذا النوع كان سيبدو فظيعاً، أو غير قابل للتحقيق في المعرض السنوي، أو في بينالي المحبة. لكن الصورة التي تبقي من هذا العمل، هي أول عمل اختراقي في الذاكرة التشكيلية المحلية، باعتبار أنّ هالة سورية الأصل.غريب ما فعلته هالة عن المحترف السوري، بقدر ما هو غريب عنه ما يدور في الواقع السوري : من إعلان للجسد من خلال الثياب الضيقة، أو الموضة، أو عمليات التجميل. وكذلك من تكتم من خلال الحجاب، والثياب الفضفاضة، والمانتو، فلا الحجاب ولا الجينز يُشكلان موضوعاً تشكيلياً في سورية.يستقيل التشكيل السوري من هذا الدور، ويتركه للسينما والتلفزيون، ويدور في معاصرة ٍ لوجوده، بعيداً عن معاصرة ما يجري حوله وما يجري في العالم، فالتجارب والمحاولات ما تزال ترتهن بإعادة صياغة أعمال تشكيليين محليين، أو إعادة نماذج تشكيلية عالمية علي قدر ما تسعف الإمكانات. ما يُمكن تسميته بالبرجوازية المحلية قياساً علي أيام زمان، لا تعاصر مثيلتها الغربية، والمؤسسات التي ينمو فيها التشكيل أو يعيش مستقيلة هي الأخري عن أسئلة الثقافة المعاصرة، بانتظار حسم الإجابة عن السؤال:هل سنعود إلي السلف الصالح، في التفاف دائري، أم سننطلق إلي الأمام، حيث اللا نهاية تنتظر الجميع؟.فنان تشكيلي من سورية نص محاضرة ألقيت في ندوة الجسد والهوية: تمثلات الجسد في الثقافة العربية والتي أقامها المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدني ـ دمشق بتاريخ 20 ـ21/1/2006.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية