الثقافة والاضطهاد: ماذا نعلم عن دراسات الأمة؟

تراجع استعمال مفردة «الأمة» نسبياً في النصوص العربية المعاصرة، خاصة لدى التعبير عن مجموعة الدول المنتسبة لجامعة الدول العربية. يفضّل الكتاب المعاصرون استعمال تعبيرات مثل «العالم العربي»، أو «المنطقة العربية»، ربما لتخفيف الطابع القومي المؤدلج، الذي يوحي به تعبير «الأمة العربية» أو «الوطن العربي»، إلا أن ذلك التغيير على مستوى الدول، لا يلغي وجود ارتباك في المدلولات، فربما ما تزال «الأمة» هي الحاضر الغائب في كثير من النقاشات السياسية المتداولة بالعربية، عبر ما تفترضه من بديهيات، وتشكيكٍ بها. وليست تلك «البديهيات» مسائل قومية قديمة فحسب، مثل وحدة القضايا العامة، والمعارك المصيرية، والهموم المشتركة، وإنما تعبيرات متكررة عن الشعور بالاستهداف من العدو، أو بالتهديد الوجودي، أو بالتعرّض للعنصرية، بناءً على الهوية العربية، التي تتقاطع مع هويات مضطهدة أخرى، على رأسها «المسلم» و»الشرقي»، ومن دون تحديد واضح لمعنى كل هذا.
يوجد ارتباك كبير إذن، يؤدي إلى نوع من اللَغَط الثقافي، الذي تختلط فيه مفاهيم كثيرة مثل، الشعب والهوية والوطنية والثقافة والجماعة، لذلك ربما تكون العودة للمفهوم الحديث لـ»الأمة» Nation مفيدة لحلحلة كل هذا التعقيد، فهو قد يكون الرابط بين كل تلك المفاهيم.
كتب متكلمو العربية كثيراً حول «الأمة» طبعاً، خاصة في عصور التأسيس والصعود القومي، إلا أن ما ينقص النقاش الحالي قد يكون الاطلاع على حقل واسع من الدراسات، التي يمكن تسميتها «دراسات الأمة النقدية»، التي تتمحور أساساً حول التتبّع التاريخي والسياسي والفلسفي لنشأة مفهوم «الأمة» الحديثة وتطوره، من دون اعتباره معطىً طبيعياً أو بديهياً، وذلك عبر مناهج متعددة، وأحياناً متعارضة، مثل الماركسية، والبنيوية وما بعدها، والنظرية السياسية، ونظرية الأنظمة، والنظرية النقدية. قرأ كثيرون بالطبع «الجماعات المُتخيَّلة»، الكتاب الشهير لعالم السياسة الأمريكي بيندكت أندرسون، الذي يعدّ تأسيسياً في هذا المجال، إلا أن النقد الذي وُجّه للكتاب، ما يزال مجهولاً إلى حد كبير، كما أن تقليداً كاملاً في «دراسات الأمة»، غير مكتوب بالإنكليزية، ما يزال بعيداً عن النقاش العربي.
ما تعلمنا إياه تلك الدراسات قد يكون أكثر من القول المغلوط إن «القومية أمر أيديولوجي مُتخيَّل»، أو «بناء اجتماعي وسياسي غير طبيعي»، فهنالك مسائل كثيرة، مثل مسألة الأقليات؛ قيم المجتمع؛ معاداة السامية؛ الميليشياوية؛ دور الضحية؛ الإقصاء والإلغاء؛ الجماعية والفردية، قد تصبح أكثر وضوحاً، عندما نطرح بعض الأسئلة على «الأمة»؛ والأهم أن مقولات بديهية متعددة ستسقط على الفور. قد يمكن اقتراح سؤال مركزي هنا: كيف أصبحنا أمة مضطهدة لهذه الدرجة؟

الأمة والغرب

لا يمكن على الإطلاق تجاهل الدور الذي لعبته دراسات المفكر الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد، والدراسات ما بعد الكولونيالية عموماً، في صياغة كثير من تصوراتنا عن «المظالم»، ومنها العنصرية والاستعلاء الثقافي والاستعمار. يبدو الأمر، حسب تلك الدراسات، أشبه بتطوّر دائم لنص غربي، نحو مزيد ومزيد من الهيمنة والتمييز، وإنتاج موضوعات وتمثيلات قابلة للإخضاع. من تلك الموضوعات «الشرقي» و»المسلم» و»الساكن الأصلي»، بل حتى «اليهودي»، إذ تميل كثير من الدراسات بعد الكولونيالية المعاصرة إلى ربط «معاداة السامية» بـ»الإسلاموفوبيا»، باعتبار الاثنين مُنتَجاً غربياً. وسواء حددنا جذور هذا المُنتَج قبل نشأة «الغرب» نفسه، أي منذ النصوص المعروفة الأولى للمسرح الإغريقي (كما في كتاب «الاستشراق» لسعيد)؛ أو مع تطور الرواية الحديثة لدى صعود البورجوازية الغربية (كما في «الثقافة والإمبريالية» للمؤلّف نفسه)، فالنتيجة واحدة: نحن مضطهدون بواسطة تمثيلات ثقافية، رافقت الاستعمار وسياساته، وساهمت دائماً بإنتاج كثير من علاقات القوة والهيمنة المُختلّة، وأعادت إنتاج السلطة، ونظامها الاجتماعي والاقتصادي، على مستوى الخطاب والأيديولوجيا.
تقترح «دراسات الأمة النقدية» أموراً أخرى، من دون أن تشغل نفسها كثيراً بموضوع الغرب هذا: لقد أصبحنا مسلمين وعرباً ويهوداً، بالطريقة التي نفهمها اليوم، مع نشأة «الأمة». ولكن كيف ولماذا حدث ذلك؟ أليس للغرب الاستعماري العنصري، بمشروعه التحديثي، دور أساسي؟
الإجابة معقدة جداً، ومختلفٌ عليها، ولكن يمكن طرح مثال توضيحي، وطريف بعض الشيء: هل يوجد فرق زمني، أو حضاري جوهري، بين نشأة أمة عدوانية غربية، مثل الأمة الألمانية؛ ونشأة أمة تُعتبر مضطهدة وعالمثالثية، إسلامية وعربية، مثل الأمة المصرية؟ ما هو ثابت أن الدعوات الأولى لأجل «الأمة» الحديثة في البلدين كانت متزامنة إلى حد ما، ومرتبطة بحدث واحد: الهزيمة أمام الجيوش الفرنسية، في عصر التوسّع النابليوني.
في ألمانيا اتخذت دعوات «الأمة» أشكالاً شديدة التطرف. كثير من سكان المناطق، التي صارت في ما بعد ألمانيا، لم يعتبروا أنفسهم غرباً، بل ضحايا قيم وممارسات فاسدة، وفدت إلى مجتمعهم التقليدي المحافظ، الرومانسي في العمق، من غرب نهر الراين، ولا بد من مواجهتها، عبر التوحّد بصفة «ألمان» من جهة؛ واكتساب القوة التقنية والعسكرية من جهة أخرى؛ وأيضاً وأساساً، الحفاظ على «الروح» الخاصة التي تميّز الألمان. هكذا ظهر الشعب الألماني، في مواجهة «الأمة الفاسدة» (فرنسا)، وظهرت أول البوادر المقلقة مع قصيدة «جرمانيا لأولادها» للشاعر هاينرش فون كلايست، التي دعا فيها لقتل الفرنسيين، من دون السؤال عن السبب، وكان هذا قبل أكثر من قرن من الهولوكوست.
في مصر لم نشهد دعوات إبادة بهذه الصراحة، ولكن أفكار ترسيم الحدود الثقافية والحضارية تجاه الآخر/العدو، الوافد أو الداخلي، وقيمه المُربكة؛ والشعور العميق بالظلم والاضطهاد؛ والسعي لاكتساب القوة عبر التحديث وبناء الدولة القوية؛ مع الحفاظ على الخصوصية، والروح الخاصة، وهي في الحالة المصرية «الإسلام»، كانت أساسية في كل حديث عن «الأمة»، وازدادت تطرّفاً مع الزمن، ونشوء الأيديولوجيات المعروفة حالياً، ومنها الإسلام السياسي. بالطبع، في ألمانيا كما في مصر، كانت هناك دائماً دعوات أكثر اعتدالاً وانفتاحاً، ولكنها كانت تضعف أكثر فأكثر، مع كل تعثّر، أو حتى نجاح، لمشروع «الأمة». وليس من النافل القول إن الثورة الإسلامية الإيرانية في ما بعد، تأثّرت، من بين مصادر كثيرة، بكل من الفلسفة الألمانية والإسلام السياسي المصري، وخاصة أفكار سيد قطب.

مَنْ العنصري؟

لا يعني هذا أن الآليات العدوانية والإقصائية والتظلّمية في «الأمة» مقتصرة على أبناء المناطق المهزومة، فهي موجودة حيث توجد الأمم، بل حتى في الأمم الأقوى والأكثر انفتاحاً، مثل فرنسا وإنكلترا. اقترح المؤرخ الألماني هاغن شولتزه أربع وظائف أساسية لـ»الأمة»، قد تريحنا من تصنيفات شرق وغرب، ومنتصرين ومهزومين: تنظيم المجتمع؛ تجنيسه؛ إضفاء الطابع العرقي عليه؛ وصياغة تاريخه الوطني. وهي وظائف تُمارس في كل دولة قومية، على اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبالتمازج معها. فعبر تنظيم المجتمع يتم إنتاج الأدوار، وترتيب العلاقات بين الفئات والأنظمة الاجتماعية المختلفة، وبين الفرد والجماعة عموماً؛ إلا أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بإضفاء صفة قانونية على الأفراد، هي صفة المواطنة (التجنيس)؛ ولإنتاج الجنسية لا بد من تحديد سمات مشتركة للسكان، غالباً ما تكون عرقاً. وإذا كان العرق غير واضح في الجلد والسمات الجسدية، فيمكن إنتاجه عبر «عرقنة» عوامل أخرى، مثل الدين أو اللغة، أي تحويلها إلى ما يشبه السمات العرقية، المستقرة في الجسد والروح الإنسانية؛ وكل ذلك لن يكتسب المعنى إلا بـ»أسطورة مؤسِّسة»، أي رواية واضحة ومبسَّطة عن التاريخ، تحدد أصل «الأمة»، مكانتها، معاناتها وأهدافها، أعداءها وأصدقاءها.
تؤدي كل تلك الوظائف إلى «تطبيع» الأمة، أي اعتبارها معطىً طبيعياً، موجوداً بشكل موضوعي، بغض النظر عن الدول والقوى السياسية والطبقات الاجتماعية التي أنشأتها. إلا أن هذا «التطبيع» يعاني دوماً من اختلالات ومشاكل، سببها آخر «غير طبيعي»، مصطنع، غير ملتزم بالقيم والأدوار السائدة، ورافض للرواية المؤسسة، إذ من المستحيل دمج كل الأفراد والفئات التي يحويها مجتمع حديث معقد؛ كما أن حضور الآخر التام، يساهم ببناء وحدة الأمة. ومثلما تتم عرقنة المجتمع، وأبنائه الصالحين، فقد يُعرقن العدو أيضاً، وتمارس ضده آليات إلغائية مختلفة، من التخوين وحتى الإبادة.
هكذا فإن كل «أمة» تنتج عنصرييها، دعاة حروبها، الساعين إلى عزّتها، وإعادة بنائها بعد الأزمات، والذين غالباً ما يرون أن الحياة ستصبح أفضل، من دون عرق أو شعب أو أفراد معينين، تم تصنيفهم بوصفهم عدواً ضد طبيعي، أو اختلالاً في جسد وروح الأمة. لكن، ألم تتجاوز كثير من الدول المعاصرة، خاصة الديمقراطية منها، هذا النمط من «الأمة»؟

معادة الأمة

بالنسبة لبعض الجماعات الراديكالية في نقدها لـ»لأمة» والدولة القومية، مثل «مناهضي الألمان» Antideutsche، فالإجابة هي «لا» حتماً، كل الأمم ستسحق الأفراد، وتُقصي جماعات بأكملها، ولذلك لا بد من الكفاح دائماً ضد «الأمة»، ولدى أي غفلة عن ذلك سنصل إلى هولوكوست جديد، ليس فقط في ألمانيا، بل في كل مكان، خاصة في الأمم التي تأثّرت أكثر من غيرها بـ»الأيديولوجيا الألمانية» (ويحددون من بينها الأمة العربية والتركية والإيرانية)؛ أما بين أنصار مبدأ «الوطنية الدستورية»Verfassungspatriotismus ، المتأثرين بفلسفة يورغن هابرماس، فما يزال الأمل قائماً بمشروع الحداثة والتنوير، الذي كان الدستور الأمريكي أحد مصادره التأسيسية، بما احتواه من تأسيس للتعاقدية، واعتراف بالتعددية والتنوّع، وضمان لحرية المعتقد والتعبير، والحقوق الفردية. رغم هذا، يشعر أنصار هذا التيار دوماً بالقلق، وهابرماس نفسه عبّر عن اكتئابه العميق، بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية.
بالتأكيد، لا يمكن لمجتمعات حديثة أن تستمر، من دون مفهوم ما عن الأمة والوطنية والهوية، إلا أنها يجب أن تمتلك الشجاعة لمواجهة الظواهر السلبية، والكارثية أحياناً، التي قد يؤدي إليها ذلك المفهوم، ولعل هذا أبرز ما يغيب حالياً عن الجدل العربي، وسط دوامة التظلّم الهوياتي، التي اعتدنا عليها.

 كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية