التصوير كوسيط لخطاب الكراهية: رؤية تاريخية فنية لمسألة الصور الكاريكاتورية للرسول (صلعم)

حجم الخط
0

التصوير كوسيط لخطاب الكراهية: رؤية تاريخية فنية لمسألة الصور الكاريكاتورية للرسول (صلعم)

طارق الكحلاويالتصوير كوسيط لخطاب الكراهية: رؤية تاريخية فنية لمسألة الصور الكاريكاتورية للرسول (صلعم)اتجهت الآراء التي وقفت الي جانب نشر واعادة نشر صور الكاريكاتور الدنماركية الي اعتبار القضية الرئيسية في الأزمة الراهنة هي الدفاع عن حق حرية التعبير ومن ثمة يقع تعريف المعركة أنها أساسا بين قيم الحداثة (موقف نشر الصور) والقيم القروسطية (موقف رفض نشر الصور). غير أن ذلك ليس دقيقا لأنه من المعروف، بما في ذلك للأخيرين، أن السبب الرئيسي لما يجري بما في ذلك اتفاق غالبية الشارع العربي والاسلامي علي التنديد بالصور هو خطاب الكراهية (hate speech) الذي عبرت عنه وأوصلته للمتلقين المسلمين. ان الدفاع عن الحداثة يقتضي تحديدا رفض القيم القروسطية وليس خطاب الكراهية والدعاية العنصرية التي حملته هذه الصور الا مركبا أساسيا من هذه القيم القروسطية. انه من المؤمل فعلا أن تكون المعركة حقيقة بين قيم الحداثة والقيم القروسطية لولا أن موقف الكثيرين من المدافعين عن نشر الصور يشير الي أنهم لم يحققوا قطيعة ابستمولوجية مع القيم القروسطية الأوروبية، كما سنبين لاحقا، ولولا أن جزءا من الرفض العربي والاسلامي يتجاهل أولوية القانون وحرية النشر في المجتمعات الديمقراطية خاصة حينما تتم مطالبة الأنظمة السياسية الأوروبية بمصادرة الصحف ولا يعمل في المقابل علي استصدار قوانين تنص بشكل واضح علي تجريم الخطاب العنصري ضد الاسلام والمسلمين كما حدث بالنسبة لليهودية واليهود في غالبية الدول الغربية. ان الفرضية التي اقترحها صاموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington) في بداية تسعينات القرن الماضي حول أن صراع الحضارات هو الشكل الأساسي للصراعات السياسية القادمة لم تعد مجرد احتمال مبني علي رؤية سياسوية للعالم بل حدثا في طور التشكل. وفي الواقع لم يكن تقييم هنتنغتون صحيحا نسبيا، للأسف، من حيث توقعاته المستقبلية فقط بل أيضا من جهة تحديده لطبيعة التجربة الحداثية الغربية، وهو أمر لا يتم الانتباه اليه كثيرا عند مراجعة أطروحاته، حيث اعتبر أنه لا يمكن تصور الحداثة الغربية خارج اطارها الثقافي والذي بقي بالأساس اطارا مسيحيا ـ يهوديا. وعلي العكس من بعض الرؤي، الفرنسية بالأساس، والتي تمثل تيارا يعتقد أن التجربة الحداثية الغربية هي بالأساس تجربة لادينية فان الأحداث تبين بشكل متزايد أهمية الأطراف المحافظة في المجتمعات الديمقراطية وهو ما يعكس استمرار أهمية الهوية الدينية في الواقع الثقافي الغربي. وهنا يصبح المشكل معقدا حيث أنه بالرغم من التوازنات (وليس القطيعة الكاملة بالمناسبة) التي نجحت التجربة الحداثية الغربية في تحقيقها في علاقة الدين بالدولة فانه يمكن ملاحظة تواصل ثقل الارث الثقافي الطويل لرؤية عنصرية تروج الكراهية تم تبريرها ولفترة طويلة علي أسس دينية. انه من الخفة الاعتقاد أن التحولات الغربية تجاه التحديث السياسي تتم بنفس النسق الذي تتم فيه عملية التحديث الثقافي وهي عملية لا تعني استعداء الدين بقدر ما تعني ادماجه والاعتراف بسلطاته الروحية. ان المثال الدنماركي مؤشر مناسب علي تواصل أهمية الثقل السياسي لأطراف محافظة لم تحسم رؤيتها الدينية القديمة خاصة في علاقة بطبيعة الهوية الدنماركية والتي لا يزال تمثلها ضمن اطار مسيحي كحد أدني ثقافي. ان هذه الأطراف تمثل جزئيا صدي لرؤي ثقافية قروسطية لا تزال غير مواكبة للأسس العامة للنظام السياسي الديمقراطي. ان المشكل الأساسي الذي بدأت تزيح عنه الأحداث المتوالية الستار أن التهديد بنشوء حرب دينية قروسطية لا يأتي فقط من مجتمعات لا زالت في ضفاف التجربة الحداثية بل أيضا من مجتمعات ساد الاعتقاد بأنها حققت الشروط النهائية لاستكمال المشروع الحداثي. غير أن رد (أو ردود؟) العالم الاسلامي مناسبة مهمة لفهم المفارقة الكبيرة المتمثلة في التباس حق الدفاع عن النفس ورد الخطاب العنصري بواقع غموض ماهية النفس هذه بسبب غياب مجال وامكانية النقاش حولها. وهذا الالتباس له علاقة قوية بالتباس آخر وهو القائم بين رد قيمة قروسطية مثل الخطاب العنصري وتبني خطاب مماثل كأسلوب في الرد أو عدم الاعتراف بحق حرية التعبير جملة وتفصيلا كرد ثأري علي موقف الطرف المقابل. سنحاول في الفقرات اللاحقة تفكيك هذه الأفكار العامة بشكل نحاول فيه التركيز علي نقاط بقيت هامشية بالرغم من الكم الهائل مما قيل حول الموضوع وسنحاول بشكل رئيسي التركيز علي المعطي التاريخي-الثقافي ذي التأثير الأطول زمنيا والذي يملك الأولية في الواقع علي العامل السياسي في تفسير الأزمة الراهنة. حول العلمانية في الدنمارك وصحيفة جيلاند بوست حسبما هو مذكور في الموقع الالكتروني الرسمي الدنمارك الرسمية (Oicial Denmark) التابع لـ الوزارة الملكية للشؤون الخارجية ، فان الدستور الدنماركي يقضي بالدعم القانوني والمالي والاداري للكنيسة المهيمنة أي الكنيسة اللوثرية الانجيلية والتي حسب المصدر نفسه ينتسب اليها حوالي 84% من السكان (احصائيات سنة 1998). غير أن في المجتمع الدنماركي أقليات دينية أخري مسيحية (كاثوليك، أرثوذكس…) أو غير مسيحية (المسلمين وهم الأكثر عددا، اليهود…) وهي تتمتع بحقوق دستورية مماثلة بما في ذلك حق التعبد وحق التمتع بدعم حكومي بما في ذلك الاعفاء من الضرائب ولو أن تتبع مدي حصول ذلك ليس سهلا. غير أن الاعتراف القانوني والرسمي بالأقليات الدينية غير الانجيلية لم يكن أزليا بل هو حديث جدا. وعلي سبيل المثال فحتي سنة 1969 لم يكن لأي من الأُطر الدينية حق تشريع وثائق الزواج باستثناء الكنيسة الانجيلية والتي كانت مُخولة بذلك بشرط الاعلام الموازي للسلطات المدنية. الأهم من ذلك أنه وبالرغم من الاعتراف الراهن بالأقليات الدينية غير الانجيلية فان تمركز مؤسسات الكنيسة الانجيلية وتداخل صـــــلاحياتها أحيانا مع صلاحيات الدولة يؤكد أن هناك علاقة خاصة بين الدولة والكنيسة الانجيلية. وهكذا فان الأكثرية الانجيلية اللوثرية تجتمع مع عدد آخر من الأقليات المسيحية فيما يسمي الكنيسة القومية الدنماركية (Danish National Church) وهي تخضع اداريا للحكومة عبر وزارة الشؤون الدينية غير أن الأهم من ذلك هو أن القساوسة الذين يتبعونها يتم تكوينهم حتي الآن في مؤسسات تربوية وجامعية حكومية في كوبنهاغن وارهوس يتم تسييرها من قبل الدولة. وترجع هذه العلاقة الخاصة بين الكنيسة الانجيلية والدولة الي دستور 1849 بعد موجة الثورات التي عمت أوروبا سنة 1848 وشملت الدنمارك والتي أطاحت بالملكية المطلقة وأقامت نظاما ملكيا دستوريا. ويعكس دستور 1849 علاقة توازن معقدة بين الدولة والكنيسة حيث أقر من جهة بحرية التعبد لكنه أكد بصراحة علي عدم المساواة الدينية من خلال الزام الدولة بدعم خاص للكنيسة الانجيلية اللوثرية. لكن الكنيسة لا تبدو هي نفسها منذ ذلك الوقت فقد عرفت توجها داخليا لدمقرطة مؤسساتها، من خلال الزام أغلب مؤسساتها بالانتخاب الدوري خاصة منذ بداية القرن العشرين، والتنوع الجنسي، من خلال منح النساء حق تصدر مناصب القيادة الدينية منذ سنة 1947 حتي أنه تم انتخاب أول سيدة في منصب الأسقفية سنة 1995. وبالرغم من التوجه اللاديني القوي في المجتمع الدنماركي خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين فان الكنيسة القومية بقيت مؤثرة بقوة بل استرجعت تأثيرها في الحياة الثقافية والسياسية خاصة في العشرية الأخيرة. يمكن تتبع تأثيرالعلاقة الخاصة بين مؤسسات الدولة و الكنيسة القومية من خلال برامج القوي السياسية المهيمنة خاصة من بين الأطياف اليمينية. وهكذا فانه لا يمكن فهم القوانين المعادية لمنح حق اللجوء والتشديد علي اللاجئين وخاصة من ناحية تتبع ادماجهم في المجتمع الدنماركي والتي سنها الائتلاف اليميني الحاكم (الحزب الليبرالي وحزب الشعب المحافظ) منذ كانون الثاني (يناير) 2002 دون فهم الشعور الدنماركي المتزايد بـ هوية ثقافية-دينية ثابتة والذي يستمد جزءا هاما من حيويته من تاريخ والتأثير المتواصل لـ الكنيسة القومية . وفي الواقع هنا يأتي دور ومكانة صحيفة جيلاند بوست (Jyllands Post) والتي فقط من خلال فهم خلفياتها السياسية يمكن فهم دواعي نشرها للصور الكاريكاتورية. فهي أكثر صحيفة يومية مبيعا في الدنمارك (150 ألف نسخة) ورغم أنها رسميا صحيفة مستقلة فانه من المعروف أنها تتبني خطا تحريريا يمينيا ويرجع ذلك الي فترة قديمة نسبيا حينما بدأت تتلقي دعما ماليا من قبل الحزب المحافظ سنة 1938. في الحقيقة هذه المرحلة المبكرة مهمة للغاية حيث كانت جيلاند بوست تدعم خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين بشكل معلن القوي الفاشية والنازية عبر أوروبا وكانت لها علاقة قوية في الدنمارك بمتعاطفين مع القوي الفاشية خاصة بقساوسة معادين للديمقراطية وقيادات عسكرية ملهمة بالتجربة الفاشية الايطالية. وحتي بعد سقوط النازية بقيت العلاقة الخاصة مع أطراف يمينية دانماركية محورا أساسيا في خط الصحيفة وهكذا تتأقلم مع الظرفية اليمينية العامة سواء خفتت أو قويت سطوة التيارات اليمينية وتحديدا في علاقة بنظرتها لـ الآخر . ولهذا فان تصاعد النظرة السلبية للأجانب وخاصة المسلمين من قبل حزب الشعب المحافظ أو غيره من التيارات اليمينية اثر أحداث 11 أيلول (سبتمبر) أدي الي تصعيد خط تحرير الصحيفة من مواقفها تجاه غير الدنماركيين من اللاجئين وعلي سبيل المثال فقد تعرضت الصحيفة للانتقادات من قبل عدد من مؤسسات رسمية وغير رسمية للنشر والانتاج الثقافي جراء مقالاتها العنصرية تجاه اللاجئين الصوماليين سنة 2002 .ان خط تحرير جيلاند بوست مؤشر رئيسي علي صياغة أو اعادة صياغة مفاهيم ماهية الدنماركي و الآخر في المجتمع الدنماركي. وهنا لا يمكن عدم تحسس العلاقة بين معطيين أساسسين: ففي الوقت الذي تتصاعد فيه المشاعر الدينية التي تتجه لاعادة تعميق التداخل بين ما هو دنماركي وما هو انجيلي لوثري فان الصحيفة الأولي للتيار اليميني الديني تركز بشكل لافت وغير حداثي بالمرة (عنصري) علي ما هو غير لوثري في الدنمارك وخاصة ما هو مسلم. ان نشر الصور لا يأتي في هذه الحالة في اطار تعبير ساذج وغير محسوب يستهدف تأكيد قيمة حداثية أساسية مثل حرية التعبير والنشر كما لا يأتي أيضا في اطار اختبار حدود هذه القيمة. وهكذا هناك نقطتان يجب التركيز عليهما: أولا، لم يكن هناك البتة في النموذج العلماني الدنماركي قطيعة مطلقة بين الكنيسة المهيمنة والدولة بل هناك علاقة قوية تعترف بحقائق ثقافية اجتماعية تتميز بوجود أغلبية دينية انجيلية لا زالت ذات تأثير حتي الآن. ثانيا، بالرغم أن الشعور الديني لا يعني في ذاته نزعة لاحداثية فانه الظرفية الدنماركية التي لا تتميز بتقاليد عريقة في التنوع الديني والثقافي تجعل من التركز الديني الانجيلي مصدرا لتحديد هوية دنماركية ذات بعد واحد تطرد فعليا (وليس بالضرورة دستوريا) الي الهامش ما هو غير انجيلي وهكذا فقط يمكن فهم تصرف الصحيفة الدنماركية وليس علي أساس تصور مجرد لمجال حداثي مجرد يمارس حرية مجردة للتعبير. حول تقاليد تصوير المسلمين للرسول (صلعم) ان مسألة تصوير الرسول (صلعم) ليست مسألة محورية في الأزمة الراهنة حيث لا يبدو الاحتجاج القائم هنا علي فعل التصوير في ذاته بل علي طبيعة التصوير. غير أن بعض الردود في العالم الاسلامي رددت مواقف تعكس رؤي لا تبدو دقيقة تاريخيا. حيث قام البعض برفض تصوير الرسول (صلعم) في ذاته مهما كانت طبيعته وتم تقديم ذلك علي أنه موقف اسلامي بديهي وعليه الاجماع المطلق. غير أن الواقع غير ذلك. فمن جهة أولي لم يكن هناك اجماع علي هذه النقطة في فترات تاريخية سابقة. وهكذا مثلا تم تصوير الرسول بأشكال مختلفة في عديد الأمثلة خاصة في التصوير الفارسي والتصوير المغولي (الهند) والتصوير العثماني. وفي غالبية الأمثلة تم تصوير الرسول مع تغطية وجهه وتمييزه من خلال شعلة نار (هالة) فوق رأسه كما يتم في بعض هذه الأمثلة تجنب تصوير يديه أو ساقيه من خلال تطويل قميصه. ومن أشهر المنمنمات (الصور الصغيرة التي تأتي عادة ولكن ليس ضرورة في اطار مخطوطات) الفارسية علي هذا النوع هي تلك التي تأتي في اطار مؤلف قصائد الشاعر الفارسي الكبير نظامي والمسماة بـ خمسة حيث تعرض لحادثة الاسراء والمعراج في فصلها الأول مخزن الأسرار ومن المخطوطات المعروفة من هذا المؤلف مخطوطة رقم 791 في خزانة التوبكابي سراي في اسطنبول والتي ترجع الي سنة 1506 ميلادية وفيها يظهر الرسول علي ظهر البراق ووجهه مغطي. ومن أشهر المنمنمات العثمانية علي هذا النوع من صور الرسول تلك التي تتكرر في المؤلف العثماني سير النبي ومن بين المخطوطات المعروفة لهذا المؤلف مخطوط رقم 1222 بخزانة التوبكابي سراي باسطنبول والذي يرجع الي سنة 1594 ميلادية وفيه ستة صور للرسول في مراحل مختلفة من سيرته وفيها يظهر دائما بجسده كاملا باستثناء غطاء الوجه وفي بعضها تم تطويل قميصه لتغطية يديه وساقيه. غير أنه في الفترة المبكرة من التصوير الفارسي والعثماني كان يتم تصوير الرسول بشكل كامل أي بوجه مكشوف. ومن أول الأمثلة علي ذلك بعض مخطوطات مؤلف أساسي في الأدب التاريخي في الفترة الوسيطة وهو جامع التواريخ لرشيد الدين حيث يتعرض لحادثة الاسراء والمعراج وفي مخطوط معروف من هذا المؤلف نسخ باللغة العربية ولكنه تم تصويره علي الأرجح في تبريز يرجع الي سنة 1306 ميلادية يظهر الرسول علي ظهر البراق مكشوف الوجه واليدين والمخطوط محفوظ في مكتبة جامعة ادنبره باسكتلنده تحت رمز مخطوط شرقي رقم 20. صور مماثلة موجودة أيضا في المخطوطات المبكرة من مؤلف آخر وهو معراجنامه والذي يركز علي رواية حادثة الاسراء والمعراج ومن المخطوطات المعروفة من هذا المؤلف مخطوط بخزانة التوبكابي سراي رقم 2154 يرجع الي بين سنتي 1317 و1335 ميلادية. ان هذا التوجه لتصوير الرسول تاريخيا تزامن مع امتناع عن ذلك ويرجع هذا التنافر وغياب الاجماع في الحقيقة الي نقاش أكثر عمومية وهو شرعية تصوير الأجسام البشرية وهي مسألة اشكالية لم ينزل فيها نص محدد ولو أنه كانت هناك أغلبية ترفض تصوير الأجسام البشرية. غير أن هذه الأغلبية لم تنشأ منذ بداية الدولة الاسلامية حيث من المعروف أن الأمويين خلفوا تعبيرات مرئية لأجسام بشرية سواء من خلال صور لأجسام بشرية علي الحيطان (حتي عارية مثلما ما هو موجود في قصير عمرة في الأردن حاليا) وحتي علي النقود (صورة الخليفة متمنطقا سيفه في سلسلة مبكرة من الدنانير الأموية قبل التعريب الكامل للدينار). وفي الحقيقة يتواصل غياب الاجماع حتي الآن حيث من الواضح في المجالات ذات الغالبية الشيعية أنه ليس فقط من الممكن تصوير شخصيات اسلامية رئيسية مثل علي والحسين بل يمكن أيضا العثور علي صور كثيرة الرواج للرسول. ومن أشهر هذه الصور صورة فوتوغرافية لشاب يتم تقديمه علي أنه الرسول رائجة خاصة في ايران (اكتشف باحثان سويسريان أخيرا أن الصورة أخذت في الأصل من قبل مصورين غربيين في تونس في بداية القرن العشرين). مقابل ذلك نعتقد أن غياب تقاليد التصوير الفني وخاصة تصوير الرسول في غالبية البلاد الاسلامية يقف وراء انتشار الاعتقاد الخاطئ بأن هناك اجماعا حول عدم تصوير الرسول وهو ما ساهم بالتأكيد في تعقيد الأزمة الراهنة. كما أنه من الضروري التأكيد علي أن الصور التي رسمت في الفترة الاسلامية الوسيطة خاصة في المجالين الفارسي والعثماني لم تكن معروفة لغالبية المسلمين حتي داخل هذين المجالين حيث كانت متاحة للمشاهدة فقط لحفنة صغيرة جدا من الناس بفعل أنها موجودة ضمن مخطوطات عالية القيمة لم تكن متوفرة بالضرورة لدي عامة الناس. الأصول القروسطية للتصوير العنصري للرسول (صلعم)ان المسألة الرئيسية في الأزمة الراهنة، اذا وعلي عكس الاعتقاد الخاطئ لدي البعض في العالمين الاسلامي والغربي، ليست تصوير الرسول بشكل عام بل ما يمكن أن تحمله الصورة من تعبير للكراهية والازدراء لأمة أو ديانة كاملة. انه من المغالطة التشكيك في الطابع العنصري لهذه الصور تحت عنوان أنها اشكالية فقط : فكيف يمكن أن نصف موضوعيا صورة الرسول برأس ذي ملامح شيطانية بديهية وفي نفس الوقت بشكل يشبه القنبلة؟ كيف يمكن أيضا أن نصف شكل الرسول اذا كانت عيناه مغمضتين بعصابة وبشكل بشع وخلفه امرأتان بملامح بلهاء؟ نعتقد هنا أن الخلفية الخاصة للصحيفة الدنماركية وتحديدا ما تمثله من فهم خاص ذي خلفية دينية-ثقافية للهوية الدنماركية يجعلها لا تعبر في الجوهر عن رؤية حداثية بل عن خط ورؤية ما قبل حداثية بما هي تواصل لتقاليد قروسطية عريقة في أوروبا المسيحية من استعمال الصورة وخاصة صورة الرسول لتوجيه خطاب الكراهية والازدراء تجاه ديانة أو مجموعة دينية كاملة أي المسلمين وهو بالمناسبة نسق قروسطي عام لم يكن يقتصر علي المسيحيين فحسب. وهكذا ليس التعبير المرئي المنشور في الصحيفة الدنماركية جزءا من منظومة قيمية حداثية بقدر ما هو من مخلفات الماضي القروسطي المثقل بهواجس الريبة والكراهية تجاه الشعوب والديانات الأخري. هذه نقطة جوهرية، وعلي ما أعتقد، لم يقع التركيز عليها بما فيه الكفاية حتي الآن.سبق ظهور الصور العنصرية ضد المسلمين والتي استعملت الرسول كشخصية محورية في الفترة القروسطية، سبقها، خطاب ثابت ومنظم يستهدف تشويه الرسول كسبيل رئيسي لتشويه المسلمين والذين كانوا يسمون في الخطاب اللاتيني Saracens. وبلغ هذا الخطاب خلال القرن الثاني عشر ميلادي نقلة نوعية خاصة من حيث طبيعة الاتهامات وانتظامها وتحولها الي صيغ ثابتة يتم ترديدها عبر المجال المسيحي الأوروبي. ففي هذه الفترة كتبت أربع سير للرسول باللغة اللاتينية من قبل قساوسة ورهبان لقيت رواجا كبيرا في الأوساط المدرسية المسيحية ساهمت في ترسيخ أفكار ثابتة عبر الاعلاء من قيمة سلسلة من القصص المختلقة في التراث الفلكلوري المسيحي تركز علي أنه محتال و متعطش للدماء . وهكذا باستعمالها المخيال الشعبي المسيحي كمصدر أساسي ساهمت هذه السير التأسيسية لصورة الرسول في الغرب المسيحي ليس فقط في اعادة تصويره في المخيال المدرسي بل أيضا في ترسيخ الصورة الشعبوية عوض تصحيحها. ومن الواضح للباحثين أن هذه الصورة المكتوبة كانت المصدر الرئيسي للصورة المرئية التي ستنشأ فيما بعد. ووفرت الصورة وسيطا مناسبا يقتصد مفردات النص وأصبح من المناسب تركز صورة الاسلام والمسلمين في صورة شخص الرسول نفسه. وهكذا ظهرت أول الصور من هذا النوع ضمن مؤلفات متأثرة بالسير الأربع التأسيسية ومن هـــــذه الصور المبكرة صورة لشخص يشبه وحشا غرائبيا وذا لحـــــية طويلـــــة وردت في مخطـــــوط لاتــيني من الــــقرن الثاني عشر ميــلادي بعنوان في ظهور محمد (De generatione Machumet) لراهــــب فرنسي من دير Cluny (محفوظ في مكتبة الأرسنال في باريس برقم 1162). صورة أخري لقيت رواجا من حيث استنادها لروايات فلكلورية مسيحية وتهتم خاصة بقصة وفاة الرسول حيث تتحدث عن أكل الخنازير للرسول وتترجم الصورة هذه الرواية من خلال تصوير شخص الرسول برفقة خنزير وذلك في مخطوط يرجع الي أواسط القرن الثالث عشر ميلادي (محفوظ في مكتبة معهد كوربوس كريستي في كامبردج تحت رقم 26). نوع آخر من صور الرسول ذات الطابع العنصري في الفترة القروسطية هي تصوير وحش أسود يخرج من فمه لحظة موته ويقع تصوير وجه الرسول بشكل يذكر بصور الشياطين المستعملة في القاموس المرئي القروسطي وتظهر هذه الصورة مثلا في مخطوط مؤلف تاريخي يرجع لأواسط القرن الثالث عشر ميلادي لراهب فرنسي باسم Pierre de Poitiers (المخطوط محفوظ في مكتبة معهد ايتون في وندسور تحت رقم 96). مع تكثف الحملات الصليبية وما رافقها من تصاعد لحملات التشويه المتبادلة أصبحت صورة شخص الرسول مرافقة لصورة صلاح الدين الأيوبي وأصبح كلاهما يمثلان المسلمين والاسلام ذاته. وعلي سبيل المثال هناك مخطوط يرجع لسنة 1242 ميلادي لمؤلف باسم Alexander Laicus يصور كلا من الرسول وصلاح الدين برؤوس حيوانات متوحشة يباركان مجموعة من المسلمين في مواجهة مجموعة من المسيحيين أمام الصليب. ولكن لم تكن صورة الرسول المشوهة وحدها المستعملة في تصوير المسلمين بل وقع بشكل مواز استعمال صورة لشخص أو شخوص غير محددة وذات ملامح شيطانية لتختزل الصورة الجمعية للمسلمين غير أنه في كلا الحالتين كان الخطاب ذا طبيعة مماثلة وفي اطار نسق عام من القيم القروسطية التعميمية وهذه الصبغة تحديدا أي استعمال القدرة الاختزالية للصورة لتبليغ فكرة عنصرية وتعميمية هي ما شاهدناه في الصور الكاريكاتورية المنشورة في جيلاند بوست . ان أفضل مقارنة للنموذج الاسلامي هي مع النموذج اليهودي حيث يوفر ذلك أمرين أساسيين: أن أصول الكاريكاتور الذي راج ضد اليهود في القرنين التاسع عشر والعشرين يرجع الي أصول قروسطية وأن مواجهة اليهود لهذه الصور عبر القنوات القانونية والتشريعية ساهمت بشكل كبير في الكشف عن الدور السلبي الذي يمكن أن تلعبه الصورة وكيفية حصاره وتهميشه وهو ما يمكن أن يكون سابقة علي أساسها يستطيع المسلمون مواجهة الخطاب المعادي الموجه ضدهم وهو، للمفارقة، في جزء منه يرجع لبعض الأطراف اليهودية المتطرفة في الظرف الراهن. الأصول القروسطية المسيحية لصور اليهود ومقاومتها قانونيابسبب وجود أقليات كبيرة من اليهود في المجتمعات المسيحية كانت الصور العنصرية لليهود في التراث القروسطي الأوروبي أكثر بكثير من صور المسلمين غير أن الكثير منها تداخل مع صور المسلمين باعتبار النظرة المسيحية التي تكفر الطرفين علي حد السواء. وهكذا كانت الكثير من هذه الصور تجمع شخوصا للشعوب غير المسيحية ويرمز كل منها لديانة محددة وهنا كان الكثير منها يرمز للاسلام واليهودية. وقد قام عدد من الباحثين بدراسات عديدة حول الصور الخاصة باليهود ومن أهمها موسوعة أنجزها هاينز شراكنبرغ Heinz Schreckenberg بعنوان اليهود في الفن المسيحي: تاريخ مصور أرخ فيها بالصور للعلاقة الوطيدة بين صور الكاريكاتور التي راجت في صحف القرن التاسع عشر والقرن العشرين خاصة خلال حملات معادية لليهود والصور القروسطية حولهم وغيرهم من غير المسيحيين. من بين الأمثلة علي هذه العلاقة هي استعمال غطاء رأس مهين خاص باليهود ورسم وجوه الشخوص اليهودية بأنوف معقفة وطويلة وهي خصائص استمرت مع بداية رواج الرسم الكاريكاتوري في تصوير اليهودي حتي فترة قريبة بما في ذلك خلال المرحلتين الفاشية في ايطاليا والنازية في ألمانيا. وقد تعامل اليهود مع هذه الصور بنفس القدر من الجدية مع تعاملهم مع أي أشكال أخري من التعبير المعادية لهم والتي تم وسمها تحت خانة معاداة السامية . وهكذا وفي اطار سلسلة القوانين التي تم تشريعها خاصة في أوروبا بين ثمانينات وتسعينات القرن العشرين تم تجريم ليس فقط انكار المحرقة اليهودية بل أيضا أي تحريض علي كراهية اليهود باستعمال رموز معادية لهم. نقطة الرموز مثلت مدخلا لمواجهة أشكال تصويرية متنوعة وهو ما جعل ليس فقط الصور النمطية المشوهة لليهود جريمة تحريض علي الكراهية بل أيضا الرموز النازية بما في ذلك الصليب المعقوف. غير أنه من الخطأ الاعتقاد أن موضوع تجريم خطاب الكراهية هو أمر بديهي في الظرفية الغربية الراهنة. حيث ما زال هناك جدال كبير حول كيفية تحديد خطاب الكراهية وكيفية صياغة القوانين المتعلقة بهذا الشأن. ولذلك فان غياب مثل هذه القوانين يؤدي الي وجود نوع من السلط الاجتماعية العرفيــــة التي تفرض مواجهة وتهميش خطاب الكراهية وهو ما يحدث علي سبيل المثال من قبل السود في الولايات المتحدة والذين ينجحون نسبيا في حشد ما يكفي من الضغط كلما تجرأت بعض القوي للتصريح بمقولات عنصرية معادية للسود. من جهة أخري يمــــكن أن تستعمل بعض الأطراف مسألة خطاب الكراهية بشكل تعميــــمي وغير دقيق وهو ما يحدث علي سبيل المثال من قبل الأطراف الاسرائيلية خاصة في السنوات الأخيرة والتي تدفع تجاه تجريم الكاريكاتور العربي الموجه ضد شخصيات أو ممارسات اسرائيلية ومماثلته مع الخطاب العنصري تجاه اليهودية في العام ومن ثمة تصنيفه تحت خانة معاداة السامية .لكن تبقي أهم حجة أخلاقية في صالح المسلمين هي واقع المفارقة الناشئ من الوضع المميز لليهود المحميين قانونا من أي تمييز ديني أو غيره (والذي يجب أن يكون حال أي طرف ديني أو كائن بشري في الواقع) حيث يشكل ذلك سابقة قانونية تفرض التفكير الجدي في تعميم محتواها علي بقية المجموعات الدينية في المجال الأوروبي. ان المساواة الدينية في الاتحاد الأوروبي الناشئ غير مكتملة وهي تحد حقيقي يؤكد أن هناك فرقا مهما بين التحديث السياسي والتحديث الثقافي حتي في المجال الذي يري الكثير، بناء علي رؤي مثالية، أنه بديهي الحداثة. في المقابل علي الأقليات المسلمة تفهم طبيعة المجتمعات التي يعيشون فيها وأن جدة وجودهم هناك تفرض عليهم رؤية مرنة لا تفرط في الحقوق ولا تسكت علي أي تهجم معاد أو تمييز ولكن أيضا لا تنتقل الي الانغلاق واستعداء الجميع. وعموما من البديهي أنه ليس ولن يكون أنجع سبيل لمواجهة خطاب الكراهية من خلال اعادة انتاج خطاب كراهية تعميمي مماثل وبالتالي من الضروري دائما التفريق بين خطاب الدفاع عن النفس وحق كره الكارهين وخطاب تعميمي يجعل مثلا من أي دنماركي مسؤولا مباشرة عما نشرته صحيفة جيلاند بوست . وعموما لا يبدو أن ذلك سيكون مفيدا للأقليات المسلمة في أوروبا بما في ذلك المقيمة في الدنمارك. ہ باحث تونسي في تاريخ الفن جامعة بنسلفانيا (الولايات المتحدة)8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية