الاستاذ الذي عاد من روما فخلق فنا قائما علي الحرية المطلقة: فاتح المدرس كما رأيته وما زلت أراه

حجم الخط
0

الاستاذ الذي عاد من روما فخلق فنا قائما علي الحرية المطلقة: فاتح المدرس كما رأيته وما زلت أراه

رضا حسحسالاستاذ الذي عاد من روما فخلق فنا قائما علي الحرية المطلقة: فاتح المدرس كما رأيته وما زلت أراهلقد كان حدثا فنيا هاما عودة فاتح المدرس من روما الي الوطن. كنا يومها طلابا في كلية الفنون الجميلة قادمين من محافظات اخري لم يكن للفن فيها حضور الا في الكتب والمجلات وفيما يتناقله الاصدقاء الهواة وخفية في منازلنا. وكانت لوحة كفرجنة عالقة في ذاكرتنا ضاجة باللون والضوء وعبق الارض في الشمال.وفي احد الصباحات سمعنا بأن فاتح المدرس قد حضر الي كلية الفنون ليبدأ التدريس وبدأنا نشعر بحضور شخصية فنية هامة في وعينا وفي اليوم ذاته سمعنا كيف دخل احدي غرف التدريس الغارقة بالعتمة إلا من ضوء كهربائي مختنق مسلط علي آنية نحاسية وقطع قماشية مطرزة وفاكهة قد ذبلت واختنقت طزاجة الوانها. وسمعنا يومئذ كيف اخترق فاتح هذه العتمة منذهلا وقال: لمَ تغلقون النوافذ وتحجبون ضوء الشمس والهواء وفتحها علي مصاريعها فاختفت الطبيعة الصامتة خلف شاشة الضوء الساطع. وكانت تلك الصدمة الاولي التي زعزعت أركان تعاليم بائدة واحتفي الطلاب الشباب بحضور حقبة جديدة وعقلية في الفن طال انتظارها مشبعة بروح حرة تفهم الفن تحققا انسانيا وجماليا عاليا. وتطرح جانبا المفاهيم الرثة البالية وتفهم جوهر حياة لا خيالات شاحبة لها.حاول فاتح المدرس بجهوده الخاصة ورحابة نظرته للفن ان يخلق وسطا فنيا قائما علي الحرية المطلقة والمسؤولية الشديدة وسط اجواء يشيع فيها التحفظ والانغلاق ومعاداة تفتح الفرد والنظرة المضادة للتقدم فتحول محترفه الي منتدي مشبع بمبادئ الحرية وطقوس الخلق والايمان بالابداع الانساني وبالتجدد وبالشعر والموسيقي وتبادل الافكار. وقد استطاع بشخصه وفنه ان يبث روحا طليعية طليقة لم تكن معروفة من قبل ولم تعد قائمة من بعد. فالتفت حوله المواهب الجديدة الشابة ورأت فيه داعما كبيرا لها ولما تبحث عنه وموجها فريدا لا تنفصل الحياة عنده عن الفن. لا بل تعلمت كيف تحب الحياة وترقي بثقافتها وتؤمن بالجمال رسالة لها والفن. ورأت في اعماله انتاجات فنية راسخة في مفاهيم التصوير الحديث ومعرفة بقوتها وانسانيتها وعابقة بخصوصية انتمائها تثبت حضورها اينما كانت في العالم دون ان تفقد جغرافية ولادتها. فالاصالة بالنسبة اليه تصدر من الارض ومن حميمية العلاقة بالبيئة وخزينة نضج حياة معاشة ووعي اعمق من ان يحتاج الي استخدامات مباشرة وسطحية بمقولات ايديولوجية او تراثية سرعان ما تكشف عن زيف اصولها وفجاجة ضحالتها. فلفاتح المدرس معرفة عميقة وحريصة بتاريخ التصوير الغربي في الماضي والحاضر وفي فنون الحضارات الشرقية ومعرفة خاصة بالنظريات الجمالية ان لم يكن هو بالذات صاحب نظريات جمالية خاصة قائمة علي خصوصية الانتماء لثقافة بعينها لا يمكن ان تفقد جغرافية هويتها. فالفن بالنسبة اليه هو تحقيق الدرجة القصوي من الانسانية ومن الجمال والعدالة والحرية. وهو الخلاص الانساني من البربرية الحديثة وظلمة الشر.يبدأ الفن عند فاتح المدرس بمحبة الارض ومن عليها . وميزان الفن كاف عنده لصياغة مجتمع بشري خليق بهذا الاسم وهو تيار حياة ترقي من الوحشية نحو الانسانية. فمادة الحياة من جمال وقسوة ومن رقة وغريزة ومن بهجة ووحشة تعلو قيمة وتتكشف متجلية امام الفنان وتنفذ كلها نحو مملكة الجمال.فانسانية الانسان هي القيمة العليا في فن فاتح المدرس وهي الوظيفة الاجتماعية والتذوق الجمالي هو المعيار والاساس الذي يقوم عليه الفكر كي لا يفلت في صحراء الافكار التجريدية الجافة او يسقط في بئر الغرائز الحيوانية في ايام تتفجر فيها الغرائز وتخنق الروح. فهو لم يتخذ الفن حرفة او وظيفة اجتماعية او لدواع ايديولوجية عقائدية متعصبة. بل عاشه نشاطا ابداعيا لتعميق معاني الحياة وللصقل الاعمق للحس الجمالي والرقي الانساني وشهادة انسانية ضد الظلم والقسوة وشهادة بالتعاطف والرحمة والحب الذي لا يعرف حدودا.يحدد فاتح المدرس خصوصية فنه قائلا: يبدأ الرسم بمحبة الارض ومن عليها ويقول: ان اللغة الحضارية كامنة فينا وتصحو من خلال التفاعل الحار مع القيم الانسانية والاحاسيس العميقة كالاخلاص والمحبة والعدالة والوطنية .ويصف فاتح المدرس فنه بأنه قد كان سورياليا في الماضي ولكنه تشخيصي ينزع نحو التجريد الان ويرتكز علي بناء اسلوب سوري غير معهود من قبل ويستلهم التراث الشعبي بمعانيه العميقة، اي انه ينطلق من الارض بالذات. لقد بدأ هذا الاسلوب الذي يدعوه بـ الطوطمي عام 1950 وهو قائم علي ارتصاف وجوه لها اشكال مربعة صامتة صابرة علي الألم لاشكال انسانية تتخذ حضور الطواطم وتتزيّ بأزياء مختلفة تملأ ارجاء اللوحة وتستند علي ارضية من تراب وهضاب السهولة الفراتية وضوئها. وتبدو النساء فيها وكأنهن ملكات او امبراطورات او امهات يحتضن اطفالهن او يحملنهن علي اكتافهن تحت شمس ساطعة او وسط طبيعة ربيعية عذبة احيانا وقاسية وجافة شرقية احيانا اخري وكأنهن يهربن بهم من طغيان شرقي عتيد. وتتحول النساء احيانا اخري الي ربات للخصب في ليال زرقاء داكنة سرية يبتهلن للقمر ويقدمن حليهن الذهبية تقدمة للآلهة الغائب.يقول فاتح المدرس: وجه المرأة في لوحاتي اكثره من ريف الجبال السورية في الشمال او في الجنوب او وجوه النازحات اللاتي التقيت بهن علي ارصفة محطات السفر لا يعرفن اين يذهبن وماذا بانتظارهن. رأيتهن ينظرن الي افق غير موجود او هكذا خيل اليّ، وتذكرت خالاتي في المرتفعات الشمالية ينتظرن احدهم راح ولم يعد ابدا. فهذا الوجه الانساني علي بساطة انجازه بخطوط او ظلال تبدو غامضة لا بل وجوه تتهمني وتتهم كل من يراها. وهذا ما ارجوه من الوجه الذي ارسمه. انه وثيقة تدين العصر وانسانه لكن بجمال. فالجمال اقوي حفظا علي المأساة واحرص علي ديمومة الصورة او خلق صورة مجردة شديدة الارتكاز في الذاكرة .. انني عندما ارسم وجها ما اربطه باحكام بخلفية اللوحة واضع فيها شيئا يجعله يتكلم لامد طويل او هكذا يخيل اليّ ـ يتكلم بصمت وابتسامة فيها الكثير من التساؤل الذي لا يرتجي جوابا ـ وان هذا عانيته قبل ان اشبهه .ان شخوص فاتح المدرس ليست شخوصا مرئية بضوء واقع عادي بل تظهر جميعها مستحمة في مناخ من الاسطورة والحكايا والاجواء الطقسية عذابا وانتظارا او احتفالا بشعائر تغوص عميقا في ارجاء الفرات وتلال الشمال ولكنها لم تستكن الي الماضي فهي تصيغ ملامح الحاضر ايضا، ورغم ان موضوعات لوحاته قائمة علي اطراف المدينة ومع ذلك فهي لا تتحول الي موضوعات هامشية بل علي العكس فان انسانيتها تتحول الي حاجة للعصر وضرورة كاشفة له.في معظم لوحاته نجدنا وجها لوجه امام شخوص تواجهنا، عوائل بأكملها من الامهات والاطفال تقف لتسجيل صورة لها لا تنظر الي المشاهد ولا تبادله كما في الايقونة ايضا بل تصعد به نحو عالم آخر تنشده اكثر عدالة ورحمة. كما في المنحوتات التدمرية او في الجداريات البيزنطية او في منسوجات الشمال، حيث تظهر رموز القمر والاشجار والحيوانات وكأن الطبيعة بأكملها هي التي نشعر بقدسيتها والطفولة هي النغمة المتبقية وخزينة البراءة التي تعيد للاشياء جدتها.صاغ فاتح المدرس لغته بمصطلحات الرموز المختلفة والاساطير وبالصور الداخلية الموروثة منذ الطفولة. فأجمل اللوحات هي القادمة عن انطباعات الطفولة حيث تتحول حزمة الاعشاب المزهرة التي يحضنها كطفل صغير الي ام. والأم الي شجرة فسيحة والليل الي مرتع للاسرار والنجوم عقودا وحليا للصبايا. ويقول فاتح عن خصوصية فنه: انني اعيش احداث الحياة كوحدة متكاملة بدءا من السنة الثانية من طفولتي حين شاهدت آخر مرة وجه أبي الذي بقي مخزونا عندي حتي سن الرابعة عشرة حيث استطعت ان ارسمه. ولما رأته عمتي بكت ومزقت ما رسمت. سألتها عن ذلك اجابت: كي لا تنتقم لأبيك .لم يكن التصوير والتعبير بالصورة كافيا لفاتح المدرس للتعبير عن مخزون عالمه الداخلي. لم يكن ينفي عنده حاجة التعبير بالكلمة التي هي عنده وسيط ذهني يرقي علي الصورة. فالمجردات البصرية بالنسبة اليه محددة عكس المجردات الذهنية وللجمال كما يقول: بعد حسي يربطه بزمان ومكان معينين، وفي الجمال بعد يتخطي الحس وسيبقي الفن التشكيلي في العالم الولد الضال الذي يعود الي حضن الفلسفة . انني الاصوات الداخلية التي تهيم في عالم رحب من الذاكرة، وهذه الاصوات هي أنا وتجد ذلك في عالم رحب من الذاكرة وتجد ذلك في القصص القصيرة التي اكتبها، انها لوحات اوسع من تلك الساحة البيضاء الصغيرة التي احاول الدخول في مجالها عبثا. اشعر بأن الرسم عمل حيواني بينما الكتابة والموسيقي عمل متمم للحيوان ـ الانسان .ولم يقتصر التعبير عنده بالكلمة علي القصص القصيرة بل دخل رحاب الشعر الذي يعتبره اكثر اللحظات حميمية في حياته الخاصة. وعزف الموسيقي في اللحظات التي يشعر فيها بالارهاق امام اللوحة البيضاء وتتحول الموسيقي الي لحظات استجمام يجدد بواسطتها قواه. فهو يعزف كما يقول: عندما لا ادري ماذا يمكنني ان افعل امام اللوحة البيضاء الفارغة التي ارهبها دائما. الابيض الفارغ العميق الملتصق بوجهي… مع البيانو اعود الي عيدان القش في الحصاد الي المرتفعات الشمالية في كيليكيا عندما كنت طفلا. انه صوت الريح الساعة الثالثة ظهرا او صوت النهر الذي احبه والذي اغرقني. وصوت جدتي عندما كانت تغني وتحجب عينيها عن ضوء شمس الصباح وقد اسندت ظهرها الي جدار من الحجر الاسود. انني اعزف الاصوات الداخلية التي تهيم من عالم رحب من الذاكرة .رسمت اعمال فاتح المدرس وشخصيته معالم حقبة كاملة في اصعب الشروط ولا زال حضوره يبث الشجاعة والامل وجرأة الاستمرار وستبقي اصالة فنه امثولة لاجيال قادمة علها تكون قادرة علي رسم معالم فن تشكيلي يعيد للحياة رونقها وتبشر ببزوغ حقبة تزدهي بالحس الجمالي وتدحض الشر وتشير اليه وستبقي اصالة فنه القائمة علي جمال الحرية والعدالة والتراحم الانساني امثولة لنا وللاجيال القادمة.ہ فنان تشكيلي من سورية يقيم في المانيافاتح المدرس:ولد في حلب عام 1922درس الفن في اكاديمية الفنون الجميلة في روما 1954 ـ 1960.تابع الدراسة في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس 1969 ـ 1972.عمل مدرسا في كلية الفنون الجميلة في دمشق حتي عام 1993.نال العديد من الجوائز والميداليات التقديرية.له عدة مؤلفات أدبية ـ قصصية وشعرية.اقام العديد من المعارض في سورية والعواصم العربية في اوروبا وامريكا.توفي عام 1999.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية